Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 96, Ayat: 1-19)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقرأ الجمهور : { اقرأ } بهمزة ساكنة ؛ والأعشى ، عن أبي بكر ، عن عاصم : بحذفها ، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول : قرأ يقرا ، كسعى يسعى . فلما أمر منه قيل : اقر بحذف الألف ، كما تقول : اسع ، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة ، ومفعول اقرأ محذوف ، أي اقرأ ما يوحى إليك . وقيل : { باسم ربك } هو المفعول وهو المأمور بقراءته ، كما تقول : اقرأ الحمد لله . وقيل : المعنى اقرأ في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم . وقال الأخفش : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم الله ، كما قالوا في قوله : { وقال اركبوا فيها بسم الله } [ هود : 41 ] أي على اسم الله . وقيل : المعنى اقرأ القرآن مبتدئاً باسم ربك . وقال الزمخشري : محل باسم ربك النصب على الحال ، أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل بسم الله ثم اقرأ ، انتهى . وهذا قاله قتادة . المعنى : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك . وقال أبو عبيدة : الباء صلة ، والمعنى اذكر ربك . وقال أيضاً : الاسم صلة ، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه . وجاء باسم ربك ، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك . وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس ، أي ليس لك رب غيره . ثم جاء بصفة الخالق ، وهو المنشىء للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أرباً . أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها ، ولم يذكر متعلق الخلق أولاً ، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق ، فاقتصر أو حذف ، إذ معناه خلق كل شيء . ثم ذكر خلق الإنسان ، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه ، وهو أشرف . قال الزمخشري : أشرف ما على الأرض ، وفيه دسيسة أن الملك أشرف . وقال : ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان ، كما قال : { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان } [ الرحمن : 1 - 3 ] فقيل : الذي خلق مبهماً ، ثم فسره بقوله : خلق تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته ، انتهى . والإنسان هنا اسم جنس ، والعلق جمع علقة ، فلذلك جاء من علق ، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به ، ولم يذكر أصلهم آدم ، لأنه ليس متقرراً عند الكفار فيسبق الفرع ، وترك أصل الخلقة تقريباً لأفهامهم . ثم جاء الأمر ثانياً تأنيساً له ، كأنه قيل : امض لما أمرت به ، وربك ليس مثل هذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص . والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم ، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى ، ويحلم على الجاني ، ويقبل التوبة ، ويتجاوز عن السيئة . وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال : { الأكرم , الذي علم بالقلم , علم الإنسان ما لم يعلم } ، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو . وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به . ولبعضهم في الأقلام : @ ورواقم رقش كمثل أراقم قطف الخطا نيالة أقصى المدى سود القوائم ما يجد مسيرها إلا إذا لعبت بها بيض المدى @@ انتهى . من كلام الزمخشري . ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى : الأكرم ، والرشيد ، وفخر السعداء ، وسعيد السعداء ، والشيخ الرشيد ، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها . يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال ، ومفعولا علم محذوفان ، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى . وقدر بعضهم { الذي علم } الخط ، { بالقلم } : وهي قراءة تعزى لابن الزبير ، وهي عندي على سبيل التفسير ، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف . والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم . وقال الضحاك : إدريس ، وقيل : آدم لأنه أول من كتب . والإنسان في قوله : { علم الإنسان } ، الظاهر أنه اسم الجنس ، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها . وقيل : الرسول عليه الصلاة والسلام . { كلا إن الإنسان ليطغى } : نزلت بعد مدة في أبي جهل ، ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ، ونهاه عن الصلاة في المسجد ؛ فروي أنه قال : لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه . فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه وانتهره وتوعده ، فقال أبو جهل : أيتوعدني محمد ! والله ما بالوادي أعظم نادياً مني . ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة ، فكف عنه . { كلا } : ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه ، { إن الإنسان ليطغى } : أي يجاوز الحد ، { أن رآه استغنى } : الفاعل ضمير الإنسان ، وضمير المفعول عائد عليه أيضاً ، ورأى هنا من رؤية القلب ، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول : رأيتني صديقك ، وفقد وعدم بخلاف غيرها ، فلا يجوز : زيد ضربه ، وهما ضميرا زيد . وقرأ الجمهور : { أن رآه } بألف بعد الهمزة ، وهي لام الفعل ؛ وقيل : بخلاف عنه بحذف الألف ، وهي رواية ابن مجاهد عنه ، قال : وهو غلط لا يجوز ، وينبغي أن لا يغلطه ، بل يتطلب له وجهاً ، وقد حذفت الألف في نحو من هذا ، قال : @ وصـاني العجـاج فيمـا وصنـي @@ يريد : وصاني ، فحذف الألف ، وهي لام الفعل ، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم : أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة ، وهو حذف لا ينقاس ؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله ، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها . { إن إلى ربك الرجعى } : أي الرجوع ، مصدر على وزن فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وفيه وعيد للطاغي المستغني ، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه . { أرأيت الذي ينهى , عبداً إذا صلى } : تقدم أنه أبو جهل . قال ابن عطية : ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل ، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انتهى . وفي الكشاف ، وقال الحسن : هو أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة . وقال التبريزي : المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر . قيل : هي أول جماعة أقيمت في الإسلام ، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين ، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر ، فقال له : صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً ، وأنشأ أبو طالب يقول : @ إن علياً وجعفراً ثقتي عند ملم الزمان والكرب والله لا أخذل النبي ولا يخذله من يكون من حسبي لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخي لأمّي من بينهم وأبي @@ ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . والخطاب في { أرأيت } الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذا { أرأيت } الثاني ، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم . وقيل : { أرأيت } خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال : أرأيت يا كافر ، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمراً بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك ؟ والضمير في { إن كان } ، وفي { إن كذب } عائد على الناهي . قال الزمخشري : ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، وكان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح ، كما نقول نحن . { ألم يعلم بأن الله يرى } ، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة ، فيجازيه على حسب ذلك ، وهذا وعيد ، انتهى . وقال ابن عطية : الضمير في { إن كان على الهدى } عائد على المصلي ، وقاله الفراء وغيره . قال الفراء : المعنى { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } ، وهو على الهدى وأمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الذكر ، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله ؟ فهذا تقرير وتوبيخ ، انتهى . وقال : من جعل الضمير في { إن كان } عائداً على المصلي ، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى ، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن : الصلاة والدعاء إلى الله تعالى ، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يوجد إلا في أمرين : إصلاح نفسه بفعل الصلاة ، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى . وقال ابن عطية : { ألم يعلم بأن الله يرى } : إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها ، يجاء بها في نسق . ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصاراً واقتضاباً ، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها ، وألم يعلم دال عليها مغن . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما متعلق { أرأيت } ؟ قلت : { الذي ينهى } مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين . فإن قلت : فأين جواب الشرط ؟ قلت : هو محذوف تقديره : { إن كان على الهدى , أو أمر بالتقوى } ، { ألم يعلم بأن الله يرى } ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : فكيف صح أن يكون { ألم يعلم } جواباً للشرط ؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني ؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه ؟ فإن قلت : فما { أرأيت } الثانية وتوسطها بين مفعولي { أرأيت } ؟ قلت : هي زائدة مكررة للتوكيد ، انتهى . وقد تكلمنا على أحكام { أرأيت } بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام ، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل . وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه ، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد ، والموصول هو الآخر ، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية ، كقوله : { أفرأيت الذي تولى , وأعطى قليلاً وأكدى , أعنده علم الغيب } [ النجم : 33 - 35 ] ، { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب } [ مريم : 77 - 78 ] ، { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه } [ الواقعة : 58 - 59 ] وهو كثير في القرآن ، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون ، ويجعل مفعول { أرأيت } الأولى هو الموصول ، وجاء بعده { أرأيت } ، وهي تطلب مفعولين ، وأرأيت الثانية كذلك ؛ فمفعول { أرأيت } الثانية والثالثة محذوف يعود على { الذي ينهى } فيهما ، أو على { عبداً } في الثانية ، وعلى { الذي ينهى } في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير ، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب ، فنقول : حذف المفعول الثاني لأرأيت ، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه . حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه . وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول ، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر . وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع ، لأن الجمل لا يصح إضمارها ، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع . وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء ، فلا أعلم أحداً أجازه ، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر . { كلا } : ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله . { لئن لم ينته } عن ما هو فيه ، وعيد شديد { لنسفعاً } : أي لنأخذن ، { بالناصية } : وعبر بها عن جميع الشخص ، أي سحباً إلى النار لقوله : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } [ الرحمن : 41 ] واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة ، إذ علم أنها ناصية الناهي . وقرأ الجمهور : بالنون الخفيفة ، وكتبت بالألف باعتبار الوقف ، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفاً ، وكثر ذلك حتى صارت روياً ، فكتبت ألفاً كقوله : @ ومهمـا تشـأ منـه فـزارة تمنعـا @@ وقال آخر : @ بحسبـه الجـاهـل مـا لـم يعلمـا @@ ومحبوب وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : بالنون الشديدة . وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس ، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد . وقال التبريزي : قيل : أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد ، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة . وقرأ الجمهور : { ناصية … خاطئة } ، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة . قال الزمخشري : لأنها وصفت فاستقلت بفائدة ، انتهى . وليس شرطاً في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافاً لمن شرط ذلك من غيرهم ، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضاً خلافاً لزاعمه . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي : بنصب الثلاثة على الشتم ؛ والكسائي في رواية : برفعها ، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة ، وصفها بالكذب والخطأ مجازاً ، والحقيقة صاحبها ، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال : ناصية كاذب خاطىء ، لأنها هي المحدث عنها في قوله : { لنسفعاً بالناصية } . { فليدع ناديه } : إشارة إلى قول أبي جهل : وما بالوادي أكبر نادياً مني ، والمراد أهل النادي . وقال جرير : @ لهـم مجلس صهب السبـال أذلـة @@ أي أهل مجلس ، ولذلك وصف بقوله : صهب السبال أذلة ، وهو أمر تعجبي ، أي لا يقدره الله على ذلك ، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عياناً . وقرأ الجمهور : { سندع } بالنون مبنياً للفاعل ، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن أبي عبلة : سيدعى مبنياً للمفعول الزبانيه رفع . { كلا } : ردع لأبي جهل ، ورد عليه في : { لا تطعه } : أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه . { واسجد } : أمر له بالسجود ، والمعنى : دم على صلاتك ، وعبّر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى ، { واقترب } : وتقرّب إلى ربك . وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في { إذا السماء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] وفي هذه السورة ، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه .