Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 11-16)

Tafsir: al-Kaššāf ʿan ḥaqāʾiq ġawāmiḍ at-tanzīl wa-ʿuyūn al-aqāwīl fī wuǧūh at-taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

« وإذا قيل لهم » معطوف على يكذبون . ويجوز أن يعطف على يقول آمنا لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا ، كان صحيحاً ، والأوّل أوجه . والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح ، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة . والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية . قال الله تعالى { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } البقرة 205 { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء } البقرة 30 . ومنه قيل لحرب كانت بين طيء حرب الفساد . وكان فساد المنافقين في الأرض . أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم ، وذلك مما يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم ، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل لهم { لا تفسدوا } ، كما تقول للرجل لا تقتل نفسك بيدك ، ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته . و { إِنَّمَا } لقصر الحكم على شيء ، كقولك إنما ينطق زيد ، أو لقصر الشيء على حكم كقولك إنما زيد كاتب . ومعنى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد . و { ألآ } مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ } القيامة 40 ؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق ، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم . وأختها التي هي « أما » من مقدّمات اليمين وطلائعها @ أَمَا والَّذِي لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غيْرُهُ أَمَا والَّذِي أَبْكَى وأَضحَكَ @@ ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم ، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا . وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل . وقوله { لاَّ يَشْعُرُونَ } أتوهم في النصيحة من وجهين أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة . والثاني تبصيرهم الطريق الأسد من أتباع ذوي الأحلام ، ودخولهم في عدادهم فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم ، وجهلوهم لتمادي جهلهم . وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة . فإن قلت كيف صح أن يسند « قيل » إلى « لا تفسدوا ، وآمنوا » وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح ؟ قلت الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل ، وهذا إسناد له إلى لفظه ، كأنه قيل وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام . فهو نحو قولك « ألف » ضرب من ثلاثة أحرف . ومنه « زعموا مطية الكذب » . و « ما » في « كما » يجوز أن تكون كافة مثلها في ربما ، ومصدرية مثلها في { بِمَا رَحُبَتْ } التوبة 25 . واللام في « الناس » للعهد ، أي كما آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم ، أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية . أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل . والاستفهام في { أَنُؤْمِنُ } في معنى الإنكار . واللام في { ٱلسُّفَهَاء } مشار بها إلى الناس ، كما تقول لصاحبك إن زيداً قد سعى بك ، فيقول أو قد فعل السفيه . ويجوز أن تكون للجنس ، وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه . فإن قلت لم سفهوهم واستركوا عقولهم ، وهم العقلاء المراجيح ؟ قلت لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم . أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاظهم من إسلامهم وفت في أعضادهم . قالوا ذلك على سبيل التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل ، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم . فإن قلت فلم فصلت هذه الآية بــ { لاَّ يَعْلَمُونَ } ، والتي قبلها بـ { لاَّ يَشْعُرُونَ } ؟ قلت لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل ، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة . وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دينويّ مبني على العادات ، معلوم عند الناس ، خصوصاً عند العرب في جاهليتهم وما كان قائماً بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب ، فهو كالمحسوس المشاهد ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له . مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير ، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم ، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم . وروي 22 أن عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر فقال مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد عمر فقال مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد عليّ فقال مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا فقال لأصحابه كيف رأيتموني فعلت ؟ فأثنوا عليه خيراً ، فنزلت . ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه ، وهو جاري ملاقيّ ومراوقي . وقرأ أبو حنيفة وإذا لاقوا . وخلوت بفلان وإليه ، إذا انفردت معه . ويجوز أن يكون من « خلا » بمعنى مضى ، وخلاك ذمّ أي عداك ومضى عنك . ومنه القرون الخالية ، ومن « خلوت به » إذا سخرت منه . وهو من قولك خلا فلان بعرض فلان يعبث به . ومعناه وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها . كما تقول أحمد إليك فلاناً ، وأذمّه إليك . وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم . وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية ، وفي آخر زائدة . والدليل على أصالتها قولهم تشيطن ، واشتقاقه من « شطن » إذا بعد لبعده من الصلاح والخير . ومن « شاط » إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة . ومن أسمائه الباطل . { إِنَّا مَعَكُمْ } إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم . فإن قلت لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية ، وشياطينهم بالإسمية محققة بأن ؟ قلت ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين وأوكدهما ، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم ، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم ، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه ، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك ، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد . وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة . وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل . ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين { رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا } آل عمران 16 . وأما مخاطبة إخوانهم ، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر ، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به ، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم ، فكان مظنة للتحقيق ومثنة للتوكيد . فإن قلت أنى تعلق قوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بقوله { إِنَّا مَعَكُمْ } قلت هو توكيد له ، لأن قوله { إِنَّا مَعَكُمْ } معناه الثبات على اليهودية . وقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } ردّ للإسلام ودفع له منهم ، لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه ، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر . أو استئناف ، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم { إِنَّا مَعَكُمْ } ، فقالوا فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا إنما نحن مستهزئون . والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، وأصل الباب الخفة ـــ من الهزء وهو القتل السريع ـــ وهزأ يهزأ مات على المكان . عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني . وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف . فإن قلت لا يجوز الاستهزاء على الله تعالى ، لأنه متعال عن القبيح ، والسخرية من باب العيب والجهل . ألا ترى إلى قوله { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } البقرة 67 ، فما معنى استهزائه بهم ؟ قلت معناه إنزال الهوان والحقارة بهم ، لأنّ المستهزىء غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به ، وإدخال الهوان والحقارة عليه ، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك . وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة . والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم ، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون . ويجوز أن يراد به ما مر في { يُخَـٰدِعُونَ } من أنه يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر ، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم ، وقيل سمي جزاء الاستهزاء باسمه كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } الشورى 40 ، { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } البقرة 194 . فإن قلت كيف ابتدىء قوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ولم يعطف على الكلام قبله . قلت هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة . وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته ، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل . وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله . فإن قلت فهلا قيل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } قلت لأن { يَسْتَهْزِىءُ } يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم { أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } التوبة 126 وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار ، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } التوبة 64 . { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره . وكذلك مدّ الداوة وأمدها زادها ما يصلحها . ومددت السرج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد . ومده الشيطان في الغي وأمده إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد إنهماكاً فيه . فإن قلت لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال ؟ قلت كفاك دليلاً على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن « ويمدّهم » ، وقراءة نافع { وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ } الأعراف 202 على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له . فإن قلت فكيف جاز أن يوليهم الله مدداً في الطغيان وهو فعل الشياطين ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى { وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ } الأعراف 202 قلت إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه ، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها ، تزايد الإنشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً . وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم . وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده . فإن قلت فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه ؟ قلت استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين لكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته ، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام . ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز ، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّي سليماً من القادح ، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل . ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره في ضلالتهم يتمادون ، وأن هؤلاء من أهل الطبع . والطغيان الغلو في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } بالكسر وهما لغتان ، كلقيان ولقيان ، وغنيان وغنيان . فإن قلت أي نكتة في إضافته إليهم ؟ قلت فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم ، وأن الله برىء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين لو شاء الله ما أشركنا ، ونفياً لو هم من عسى يتوهم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته . ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين ، أطلق الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله { وَإِخْوٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ } الأعراف 202 . والعمه مثل العمى ، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة ، وهو التحير والتردّد ، لا يدري أين يتوجه . ومنه قوله بالجاهلين العمه ، أي الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق . وسلك أرضاً عمهاء لا منار بها . ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به ، على سبيل الاستعارة ، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر . ومنه @ أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذ تَنَصَّرَا @@ وعن وهب قال الله عز وجل فيما يعيب به بني إسرائيل « تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة » . فإن قلت كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى ؟ قلت جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به ، ولأن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة . والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء . يقال ضلّ منزله ، وضل دريص نفقه فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين . والربح الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي الشف ، من قولك أشف بعض ولده على بعض ، إذا فضله . ولهذا على هذا شف . والتجارة صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشتري للربح . وناقة تاجرة كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها . وقرأ ابن أبي عبلة « تجاراتهم » . فإن قلت كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها ؟ قلت هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ، كما تلبست التجارة بالمشترين . فإن قلت هل يصح ربح عبدك وخسرت جاريتك ، على الإسناد المجازي ؟ قلت نعم إذا دلت الحال . وكذلك الشرط في صحة رأيت أسداً ، وأنت تريد المقدام إن لم تقم حال دالة لم يصح . فإن قلت هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة ؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة . قلت هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقاً ، وهو المجاز المرشح . وذلك نحو قول العرب في البليد كأن أذني قلبه خطلاً ، وإن جعلوه كالحمار ، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين ، وادعوا لهما الخطل ، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة . ونحوه @ ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأَيَةٍ وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِي @@ لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه @ فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ إذَا الشّيْطانُ قَصعَ في قَفَاها تَنفّقْناهُ بالحُبلِ التُّوَامِ @@ أي إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم . يريد إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها . استعار التقصيع أوّلاً ، ثم ضم إليه التنفق ، ثم الحبل التوام . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلاً لخسارهم وتصويراً لحقيقته . فإن قلت فما معنى قوله { فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } . قلت معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان سلامة رأس المال ، والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة . وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة ، لم يوصفوا بإصابة الربح . وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح ، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر .