Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 96-97)

Tafsir: al-Kaššāf ʿan ḥaqāʾiq ġawāmiḍ at-tanzīl wa-ʿuyūn al-aqāwīl fī wuǧūh at-taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وُضِعَ لِلنَّاسِ } صفة لبيت ، والواضع هو الله عز وجلّ ، تدل عليه قراءة من قرأ « وضع للناس » بتسمية الفاعل وهو الله . ومعنى وضع الله بيتا للناس ، أنه جعله متعبداً لهم ، فكأنه قال إن أوّل متعبد للناس الكعبة . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال 182 " المسجد الحرام . ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما ؟ قال « أربعون سنة » " وعن عليّ رضي الله عنه أن رجلاً قال له أهو أوّل بيت ؟ قال لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة . وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش . وعن ابن عباس هو أوّل بيت حُجَّ بعد الطوفان . وقيل هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته . وقيل هو أوّل بيت بناه آدم في الأرض . وقيل لما هبط آدم قالت له الملائكة طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } البيت الذي ببكة ، وهي عَلَمٌ للبلد الحرام ، ومكة وبكة لغتان فيه ، نحو قولهم النبيط والنميط ، في اسم موضع بالدهناء ونحوه من الاعتقاب أمر راتب وراتم . وحمى مغمطة ومغبطة وقيل مكة ، البلد ، وبكة موضع المسجد . وقيل اشتقاقها من « بكه » إذا زحمه لازدحام الناس فيها . وعن قتادة يَبُكُّ الناس بعضهم بعضاً الرجال والنساء ، يصلي بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة . قال @ إذَا الشَّرِيبُ أخذَتْهُ الأَكَّهْ فَخَلِّهِ حَتى يَبُكَّ بَكَّهْ @@ وقيل تبك أعناق الجبابرة أي تدقها . لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى . { مُبَارَكاً } كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب ، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف ، لأن التقدير للذي ببكة هو ، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار { وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ } لأنه قبلتهم ومتعبدهم { مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ } عطف بيان لقوله { ءَايٰتٌ بَيّنٰتٌ فَٱسْأَلْ } . فإن قلت كيف صح بيان الجماعة بالواحد ؟ قلت فيه وجهان أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد ، كقوله تعالى { إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً } النحل 120 والثاني اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية . ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما . دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما . ونحوه في طيِّ الذكر قول جرير @ كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمو مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا @@ ومنه قوله عليه السلام 183 " حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة " وقرأ ابن عباس وأبيّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة « آية بينة » ، على التوحيد . وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان . فإن قلت كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات ؟ وقوله { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية ؟ قلت أجزت ذلك من حيث المعنى ، لأن قوله { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } دلّ على أمن داخله ، فكأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت فيه آية بينة ، من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى قولك فيه آية بينة ، أمن من دخله . فإن قلت كيف كان سبب هذا الأثر ؟ قلت فيه قولان أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه . وقيل إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل انزل حتى يغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه . ومعنى { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } معنى قوله { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } العنكبوت 67 وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا } البقرة 126 وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر رضي الله عنه « لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه » وعند أبي حنيفة من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج . وقيل آمنا من النار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم 184 " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " وعنه عليه الصلاة والسلام 185 " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود . 186 وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة ، فقال « يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم 187 " من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار ، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " { مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ } بدل من الناس . وروي 188 أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء . وعن ابن الزبير هو على قدر القوّة . ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه . وعنه ذلك على قدر الطاقة ، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة ، وعن الضحاك إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع . وقيل له في ذلك فقال إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج . والضمير في { إِلَيْهِ } للبيت أو للحج . وكلُّ مأتيّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ومنها قوله { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً ، وفيه ضربان من التأكيد أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين . ومنها قوله { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 189 " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً " ونحوه من التغليط 190 " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ، ومنها قوله { عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وإن لم يقل عنه ، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود ، فإنهم قالوا الحج إلى مكة غير واجب وروى 191 أنه لما نزل قوله تعالى { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال إن الله كتب عليكم الحج فحجوا » فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه ، فنزل { وَمَن كَفَرَ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم 192 " حجوا قبل أن لا تحجوا ، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة " وروي . 193 « حجوا قبل أن لا تحجوا ، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه » وعن ابن مسعود حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت . وعن عمر رضي الله عنه لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا وقرىء « حج البيت » بالكسر .