Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 17-20)
Tafsir: al-Kaššāf ʿan ḥaqāʾiq ġawāmiḍ at-tanzīl wa-ʿuyūn al-aqāwīl fī wuǧūh at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فإن قلت كيف تطابق قوله { ٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } وقوله { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ } حتى عطف أحدهما على صاحبه ؟ قلت كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود ، وهو أنه نبيّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك ، ولكرامته عليه وزلفته لديه ، ثم زلّ زلّة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها . على طريق التمثيل والتعريض ، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب ، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمّه الواصب ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم ؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم اصبر على ما يقولون ، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم ، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلّة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي { ذَا ٱلأَيْدِ } ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه ، كان على نهوضه بأعباء النبوّة والملك يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشدّ الصوم ، ويقوم نصف الليل . يقال فلان أيد ، وذو أيد ، وذو آد . وأياد كل شيء ما يتقوّى به { أَوَّابٌ } توّاب رجاع إلى مرضاة الله . فإن قلت ما دلك على أنّ الأيد القوّة في الدين ؟ قلت قوله تعالى { إِنَّهُ أَوَّابٌ } لأنه تعليل لذي الأيد { وَٱلإشْرَاقِ } وقت الإشراق ، وهو حين تشرق الشمس ، أي تضيء ويصفوا شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها ، يقال شرقت الشمس ، ولما تشرق . وعن أمّ هانىء 956 دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال " يا أمّ هانىء هذه صلاة الإشراق " وعن طاووس ، عن ابن عباس قال هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن ؟ قالوا لا ، فقرأ { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } وقال كانت صلاة يصليها داود عليه السلام . وعنه ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية . وعنه لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها في الآية { يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } وكان لا يصلي صلاة الضحى ، ثم صلاها بعد . وعن كعب أنه قال لابن عباس إني لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس ، فقال أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى ، يعني هذه الآية . ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق ، ومنه قوله تعالى { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } الحجر 73 وقول أهل الجاهلية أشرق ثبير ، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق . ويسبحن في معنى ومسبحات على الحال . فإن قلت هل من فرق بين يسبحن ومسبحات ؟ قلت نعم ، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك ، وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال ، كأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح . ومثله قول الأعشى @ إلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي يَفَاعٍ تَحْرِقُ @@ ولو قال محرقة ، لم يكن شيئاً . وقوله { مَحْشُورَةً } في مقابلة يسبحن إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء ، جيء به اسماً لا فعلاً . وذلك أنه لو قيل وسخرنا الطير يحشرن - على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئاً شيء والحاشر هو الله عزّ وجلّ - لكان خلفاً ، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير فسبحت ، فذلك حشرها . وقرىء « والطير محشورة » ، بالرفع { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } كل واحد من الجبال والطير لأجل داود ، أي لأجل تسبيحه مسبح ، لأنها كانت تسبح بتسبيحه . ووضع الأوّاب موضع المسبح إمّا لأنّها كانت ترجع التسبيح ، والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعاً بعد رجوع وإمّا لأن الأوّاب - وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته - من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه . وقيل الضمير لله ، أي كل من داود والجبال والطير لله أوّاب ، أي مسبح مرجح للتسبيح { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قوّيناه ، قال تعالى { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ } القصص 35 وقرىء « شددنا » على المبالغة . قيل كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة أنّ رجلاً ادّعى عنده على آخر بقرة ، وعجز عن إقامة البينة ، فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن اقتل المدّعى عليه ، فقال هذا منام ، فأعيد الوحي في اليقظة ، فأعلم الرجل فقال إنّ الله عزّ وجلّ لم يأخذني بهذا الذنب ، ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله ، فقال الناس إن أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه ، فقتله ، فهابوه { ٱلْحِكْمَةَ } الزبور وعلم الشرائع . وقيل كل كلام وافق الحق فهو حكمة . الفصل التميز بين الشيئين . وقيل للكلام البين فصل ، بمعنى المفصول كضرب الأمير ، لأنهم قالوا كلام ملتبس ، وفي كلامه لبس . والملتبس المختلط ، فقيل في نقيضه فصل ، أي مفصول بعضه من بعض ، فمعنى فصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه ومن فصل الخطاب وملخصه أن لا يخطىء صاحبه مظانّ الفصل والوصل ، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ، ولا يتلو قوله { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ } الماعون 4 إلا موصولاً بما بعده ، ولا والله يعلم وأنتم حتى يصله بقوله { لاَ تَعْلَمُونَ } البقرة 232 ونحو ذلك ، وكذلك مظانّ العطف وتركه ، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل ، كالصوم والزور ، وأردت بفصل الخطاب الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو كلامه في القضايا والحكومات ، وتدابير الملك والمشورات . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وهو قوله البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، وهو من الفصل بين الحق والباطل ، ويدخل فيه قول بعضهم هو قوله « أمّا بعد » لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله بقول أمّا بعد . ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ ولا إشباع مملّ . ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل لا نذر ولا هذر .