Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 21-30)
Tafsir: Ġarāʾib al-Qurʾān wa-raġāʾib al-furqān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القراءات : { يمكرون } بياء الغيبة : سهل وروح . الباقون : بالتاء الفوقانية . { ينشركم } النون : ابن عامر ويزيد . الباقون { يسيركم } من التسيير { متاع } بالنصب : حفص والمفضل . الباقون بالرفع { قطعاً } بسكون الطاء : ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب . والآخرون بفتحها { تتلو } بتاءين من التلاوة : حمزة وعلي وخلف وروح ، وروي عن عاصم { نبلو } بالنون ثم الباء الموحدة . { كل نفس } بالنصب الباقون : بتاء التأنيث { كل } بالرفع . الوقوف : { آياتنا } ط { مكراً } ط ، { تمكرون } ه { والبحر } ط { في الفلك } ج ط للعدول مع أن جواب " إذا " منتظر ، { أحيط بهم } لا لأن قوله : { دعوا } بدل من { ظنوا } لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به ، وإن جعل { دعوا } جواباً عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه . { الدين } ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول { الشاكرين } ه { بغير الحق } ط . { على أنفسكم } ط ، إلا لمن جعله متعلقاً بـ { بغيكم } { تعملون } ه { الأنعام } ط { عليها } لا لأن ما بعده جواب " إذا " . { بالأمس } ط { يتفكرون } ه { السلام } ط { مستقيم } ه { وزيادة } ط { ولا ذلة } ط ، { الجنة } ج ط { خالدون } ه { بمثلها } لا لأن قوله { وترهقهم } معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة . { عاصم } ج ط لأن الكاف لا يتعلق بـ { عاصم } مع تعلقها بذلة قبله معنىً ، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما { مظلماً } ط { أصحاب النار } ج ط { خالدون } ه { وشركاؤكم } ج للعدول مع فاء التعقيب { تعبدون } ه { لغافلين } ه { يفترون } ه . التفسير : لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بقوله : { وإذا أذقنا } روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام - وقيل نسبوها إلى الأنواء - فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة . وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة . وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه . قال في الكشاف : معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . وهذا أيضاً من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد . و " إذا " الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في جواب الشرط كما في قوله : { إذا هم يسخطون } [ التوبة : 58 ] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في وقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه { قل الله أسرع مكراً } يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظاً بيانه قوله { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله : { ويرسل عليكم حفظة } [ الأنعام : 62 ] . واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله : { وإذا مس الإنسان الضر } [ يونس : 12 ] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأساً برأس . ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالاً حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال : { هو الذي يسيركم } ومن قرأ { ينشركم } فكقوله : { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] قال بعض العلماء : المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى ، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار . والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى ، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله : { والفلك التي تجري في البحر } [ البقرة : 164 ] قال القفال : هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلباً للمعاش ، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير . وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة ، والضمير في { جرين } للفلك على أنها جمع كما مر . وثالثها فرحهم بها . والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضاً : أوّلها { جاءتها } أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن ، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح . وثانيها { وجاءهم الموج من كل مكان } أي من جميع جوانب أحياز الفلك ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر . وثالثها { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي غلب على ظنونهم الهلاك . وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار ، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلاً في الهلاك . وقرىء { في الفلكي } والياء زائدة كما في " الأحمري " أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه . قال في الكشاف : وإنما التفت في قوله : { وجرين بهم } إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح . وقال الإمام فخر الدين الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله : { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] دليل الرضا والتقريب . قلت : هذا وجه حسن . أما قوله : { دعوا الله مخلصين } فقد قال ابن عباس : تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية . وقال الحسن : ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري . وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله . وعن أبي عبيدة : أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : " أهيا شراهياً " تفسيره " يا حي يا قيوم " يحكى أن رجلاً قال لجعفر الصادق رضي الله عنه : ما الدليل على إثبات الصانع ؟ فقال : أخبرني عن حرفتك . فقال : التجارة في البحر قال : صف لي كيف حالك ؟ فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة . قال جعفر الصادق رضي الله عنه : هل وجدت في قلبك تضرعاً ؟ فقال : نعم . قال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت . { لئن أنجيتنا من هذه } الشدة كما مر في الأنعام { يبغون في الأرض بغير الحق } البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله : { بغير الحق } قال في الكشاف : إنما زاد هذا القيد احترازاً من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . قلت : ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل : يتمتعون متاع الحياة الدنيا . ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام ، أو على أنه خبر وقوله : { على أنفسكم } صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال صلى الله عليه وسلم : " أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة " وروي " اثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين " وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر . قال تعالى : { إنما بغيكم على أنفسكم } أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها { ثم } إلى ما وعدنا من المجازاة { مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت . ثم ذكر مثلاً لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال : { إنما مثل الحياة الدنيا } أي صفتها العجيبة الشأن { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به } أي اشتبك بسبب هذا الماء { نبات الأرض } فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف . { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } قال الجوهري : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر . { وازينت } أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصل . وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها ، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها { وظن أهلها } أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا { أنهم قادرون عليها } متمكنون من تحصيل ريعها . { أتاها أمرنا } بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات . { ليلاً أو نهاراً } أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم { فجعلناها } أي زرعها { حصيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله . { كأن لم تغن } أي كأن الشأن لم يلبث زرعها { بالأمس } أي في زمان قريب . يقال : غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به . والأمس مثل في الوقت القريب . هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب . قال في الكشاف : شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه . وقيل : المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه ، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت . وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد . ويحتمل أن يكون هذا مثلاً لمن لا يؤمن بالمعاد ، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور { كذلك نفصل الآيات } نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سبباً لقوة اليقين وموجباً لزوال الشك { لقوم يتفكرون } في أحوال الآفاق والأنفس . ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله : { والله يدعوا إلى دار السلام } ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سيد بنى داراً وصنع مائدة وأرسل داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد ، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم " وعنه صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثلقين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام " واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية . فقيل : لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف ، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات ، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلاً وشرفاً وبهجة وسروراً . وقيل : سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات . وقيل : لفشوّ السلام بينهم { تحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [ الرعد : 24 ] { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته . وقالت المعتزلة : المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها . والمراد من الهداية الألطاف ، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة : فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله ، وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم . وأما الحسنى فقال في الكشاف : المراد المثوبة الحسنى . وقال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها . وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده ، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية . وقالت المعتزلة : الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة ، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ فاطر : 30 ] وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدراً بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة . أما إذا كان غير مقدر كما لو قال : أعطيتك الحنطة زيادة . لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه . والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة ، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة . وعن علي عليه السلام : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس : الحسنى الجنة والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وعن مجاهد : مغفرة من الله ورضوان . وعن يزيد بن سمرة : هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم . هذا شأن المنافع الحاصلة لهم ، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله : { ولا يرهق } أي لا يغشى { وجوههم قتر } غبرة فيها سواد { ولا ذلة } ولا أثر هوان وكسوف بال . ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وهذا معنى قول علماء الأصول " الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم " ثم بين حال الفريق الآخر بقوله : { والذين } أي وجزاء الذين { كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحد بسيئة مثلها لا يزاد عليها . ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها . قالت المعتزلة : وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله . { وترهقهم ذلة } فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سبباً لذلهم وهوانهم على أنفسهم ، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه : @ كل بيت أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج ومريض أنت عائده قد أتاه الله بالفرج @@ { ما لهم من الله من عاصم } أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه ، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين . والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال : { كأنما أغشيت } أي ألبست { وجوههم قطعاً من الليل } من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة و { مظلماً } صفته . ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعه فمظلماً حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في { من الليل } أو { أغشيت } لأن قوله : { من الليل } صفة لقوله : { قطعاً } فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف . واعلم أن جمعاً من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله : { والذين كسبوا السيئات } هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } [ آل عمران : 106 ] وقوله : { ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 40 - 42 ] ولقوله بعدها { ويوم نحشرهم } والضمير عائد إلى { هؤلاء } . ثم إنه وصفهم بالشرك . وقال الآخرون : اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة . ثم شرع بعض أحوال المشركين في القيامة فقال : { ويوم نحشرهم } منصوب بإضمار " اذكر " أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس . وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق ، فإذا اتخذ الممكن معبوداً برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا الصدق . قال في الكشاف : { مكانكم } أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم . وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب . و { أنتم } لتأكيد الضمير في { مكانكم } لسده مسد قوله : " الزموا " . { وشركاؤكم } عطف عليه . { فزيلنا بينهم } ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا . قيل : عين الكلمة " واو " لأنه من زال يزول . وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة " فيعل " أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد . وقيل : هي من زلت الشيء أزيله ، فعينه على هذا ياء والوزن " فعل " ونظير زيلنا قوله : { ونادى أصحاب الأعراف } [ الآية : 48 ] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن { وقال شركاؤهم } في صحة هذه الإضافة وجوه منها : أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم . ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله : { مكانكم } ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء . وقيل : هم الملائكة لقوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } وقيل : كل من عبد من دون الله . وقيل : الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين . وكيف تنطق هذه الأصنام ؟ وقيل : لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق . ثم هل يبقيهم أو يفنيهم ؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه . وقيل : يخلق فيهم الكلام فقط . وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديداً في حق المعبودين ؟ قالت المعتزلة لا ، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه . وقالت الأشاعرة : لا يسأل عما يفعل . أما قول الشركاء { ما كنتم إيانا تعبدون } وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم : { فكفى بالله شهيداً } الآية . ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور . وقيل : لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين . وقيل : إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزناً فجعلوها كالعدم . وقيل : المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد ، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال . و { هنالك } أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان . { تبلوا كل نفس } تختبر وتذوق { ما أسلفت } من العمل . ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر ، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر . ومن قرأ { تتلو } بتائين فمعناه تتبع ما أسفلت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار . أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر . { وردّوا إلى الله مولاهم الحق } الصادق ربوبيته { وضل عنهم } وضاع عنهم { ما كانوا } يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة . والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك . التأويل : { وإذا أذقنا الناس } ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود { من بعد ضراء } وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف { إذا لهم مكر في آياتنا } بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول . { قل الله أسرع مكراً } فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد { من حيث لا يشعرون } { هو الذي يسيركم } في بر البشرية وبحر الروحانية ، أو في بر العبودية وبحر الربوبية { حتى إذا كنتم } في فلك جذبات العناية { وجرين بهم } بهبوب نسيم شهود الجمال { وفرحوا } بالوصول والوصال { جاءتها } نكباء تجلى صفات الجلال { وجاءهم } موج البلايا والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل { فلما أنجاهم } فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال ، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق { كماء أنزلناه } من سماء القلب إلى أرض البشرية { فاختلط به } الصفات المولدة من أرض البشرية { مما يأكل الناس والأنعام } من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية { أتاها } حكمنا الأزلي { ليلاً } عند استيلاء ظلمات صفات النفس { أو نهاراً } عند بقاء ضوء الفيض الروحاني ، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة . { والله يدعوا إلى دار السلام } وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الأثنينية والجهالة { ويهدي من يشاء } بجذبات العناية { إلى صراط مستقيم } يؤدي إلى السير بالله في الله . { للذين أحسنوا الحسنى } فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه ، والزيادة الجنة وما فيها من النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق .