Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 47-59)
Tafsir: Ġarāʾib al-Qurʾān wa-raġāʾib al-furqān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القراءات : { تسير الجبال } على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو . الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال . ما أشهدناهم يزيد . الآخرون { ما أشهدتهم } { وما كنت } على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد . الباقون على التكلم { ويوم نقول } بالنون : حمزة الباقون على الغيبة { قبلاً } بضمتين : عاصم وحمزة والكسائي . الباقون بكسر القاف وفتح الباء . { لمهلكهم } بفتح الميم وكسر اللام : حفص { لمهلكهم } بفتحهما ، يحيى وحما والمفضل . الباقون بضم الميم وفتح اللام . الوقوف : { بارزة } لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك { أحداً } ه ج للآية مع العطف { صفاً } ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتمونا { أول مرة } ز لأن " بل " قد يبتدأ به مع أن الكلام متحد { موعداً } ه { أحصاها } ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار " قد " { حاضراً } ه ط { أحداً } ه { إلا إبليس } ط { أمر ربه } ط { عدواً } ط { بدلاً } ه أنفسهم ص { عضداً } ه { موبقاً } ه { مصرفاً } ه { مثل } ط { جدلاً } ه { قبلاً } ه { ومنذرين } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { هزواً } ه { يداه } ط { وقراً } ، ط لاختلاف الجملتين مع ابتداء الشرط { أبداً } ه { الرحمة } ط { العذاب } ط { موئلاً } ه { موعداً } . التفسير : لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله ، وفيه رد على أغنياء المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير : واذكر يوم كذا عطفاً على وأضرب . ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل { ولقد جئتمونا } وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى ، فتسييرها إما إلى العدم لقوله : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } [ طه : 105 ] ، { وبست الجبال بساً ، فكانت هباء منبثاً } [ الواقعة : 5 - 6 ] وإما إلى موضع لا يعلمه إلا الله { وترى الأرض بارزة } لأنه لا يبقى على وجهها شيء يسترها من العمارات ولا من الجبال والأشجار ، وإما لأنها أبرزت ما في بطنها من الأموات لقوله : { وألقت ما فيها وتخلت } [ الانشقاق : 4 ] فيكون الإسناد مجازياً أي بارزاً ما في جوفها { وحشرناهم } الضمير للخلائق المعلوم حكماً { فلم نغادر منهم أحداً } من الأوّلين والآخرين . يقال : غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء . والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله . ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحداً من خلقه غير محشور وإلا كان قدحاً في عمله وحكمته وقدرته . قالت المشبهة : في قوله : { وعرضوا على ربك } دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله : { لقد جئتمونا } وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان . وانتصب { صفاً } على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً . والصف إما واحد وإما جمع كقوله { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : صفاً أي قياماً وبه فسر قوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } [ الحج : 36 ] . وقال القفال : يشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول . وقد مر في " الأنعام " أن وجه التشبيه في قوله { خلقناكم } أنهم يبعثون عراة لا شيء معهم ، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعداً . أي وقتاً لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك . { ووضع الكتاب } أي جنسه وهو صحف الأعمال . والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال ، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار . { فترى المجرمين مشفقين } خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح . ومعنى النداء في { يا ويلتنا } قد مر في " المائدة " في { يا ويلتي أعجزت } [ الآية : 31 ] وقوله : { صغيرة ولا كبيرة } صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم ، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار ، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل . وعن الفضيل : ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر . قلت : وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر . وعن ابن عباس : الصغير التبسم والكبيرة القهقهة . وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا . وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر . وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله : { إنْ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ النساء : 31 ] فتذكر { ووجدوا ما عملوا حاضراً } في الصحف مثبتاً فيها أو وجدوا أجزاء ما عملوا ظاهراً على صفحات أحوالهم { ولا يظلم ربك أحداً } استدل الجبائي به على بطلان مذهب الأشاعرة في أن الأطفال يجوز أن تعذب بذنوب آبائهم فإن ذلك ظلم . والجواب أن الظلم إنما يتصوّر في حق من تصرف في غير ملكه قالوا : لو ثبت أن له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء من غير اعتراض عليه لم يكن لهذا الإخبار فائدة . وأجيب بأن تلك القضية بعد الدلائل العقلية علمت من مثل هذه الآية . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة : يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له : ما شغلك عني ؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول : كان هذا عبداً مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار . ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال : أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول : ماذا عملت فيما آتيتك فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار " ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه . قال جار الله : قوله : { كان من الجن } كلام متسأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل : { كان من الجن ففسق } والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقه ولو كان ملكاً لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة . وقال آخرون : اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن . ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر ، ومن أوجب قال : " كان " بمعنى " صار " أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن ، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سوة البقرة . ومعنى { فسق عن أمر ربه } خرج عن طاعته . وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولولا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال : { فسق عن أمر ربه } . وقال قطرب : هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره . ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر . والمعاصي وخالق أمر الله فقال : { أفتتخذونه } كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه { وذريته أولياء من دوني } وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً { بئس للظالمين بدلاً } أي بئس البدل من الله . إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته . قال الجبائي . في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم والتوبيخ ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . قال أهل التحقيق : إن الداعي لكفار قريش إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم هو النخوة والعجب والترفع والتبكر ، وهذا شأن إبليس ومن تابعه . فكل غرضه من العلم أو العمل الفخر على الأقران والترفع على أبناء الزمان فإنه مقتدٍ بإبليس وذريته وهذا مقام صعب نسأل الله الخلاص منه . ثم دل على فساد عقيدة أهل الشرك وبطلان طريقتهم بقوله : { ما أشهدتهم } فالأكثرون على أن الضمير للشركاء والمراد أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم يعني لو كان بعضهم شاهدين خلق بعض مشاركين لي فيه كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } لأمكن أن يكونوا شركاء لي في العبادة لكن الملزوم المساوي منتف فاللازم مثله يؤيد هذا التفسير قوله : { وما كنت متخذ المضلين } أي متخذهم { عضداً } أعواناً فوضع المضلين موضع الضمير نعياً عليهم بالإضلال . وقيل : الضمير للمشركين الذي التمسوا طرد فقراء المؤمنين ، والمراد أنهم ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له : لست سلطان البلد ولا مدبر المملكة حتى تقبل منك كل اقتراحاتك . وقيل : أراد أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدّها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم ، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء . ومن قرأ { وما كنت } بفتح التاء فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تغترّ بهم ، ثم عاد إلى تهويلهم بأحوال يوم القيامة وأضاف الشركاء إلى نفسه على معتقدهم توبيخاً لهم وفحوى الكلام : اذكر يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ { يقول } الله لهم { نادوا } أي ادعوا من زعمتم أنهم { شركائي } فأهلتموهم للعبادة . قال المفسرون : أراد الجن { فدعوهم } لم يذكر في هذه الآية أنهم كيف دعوا تلك الشركاء ولعل المراد بما في الآية الأخرى { إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا } [ إبراهيم : 21 ] { فلم يستجيبوا لهم } ولم يدفعوا عنهم ضرراً { وجعلنا بينهم موبقاً } عن الحسن { موبقاً } عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها الهلاك كقولهم " لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفا " . وقال الفراء : البين الوصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة . وفي الكشاف : الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم مشتركاً هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعاً . وجوز أن يريد بالشركاء الملائكة وعزيراً وعيسى ومريم . وبالموبق البرزخ أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً يهلك فيه السائرون لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان . قوله : { فظنوا } قيل : علموا وأيقنوا : والأقرب أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } [ الفرقان : 12 ] { ولم يجدوا عنها مصرفاً } أي معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر . ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال : { ولقد صرفنا } وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة . وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبداً يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحداً بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصومة فقوله : { أكثر شيء } كقوله { أول مرة } وقد مر في " الأنعام " . وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية ، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم . قال أهل البرهان : قوله تعالى في سورة " بني إسرائيل " : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } [ الاسراء : 94 ] وقال في هذه السورة بزيادة { ويستغفروا ربهم } لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم : " أبعث الله بشراً رسولاً ، هلا بعث ملكاً " وجهلوا أن التجانس يورث التوانس . ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا الإتيان بسنة الأوّلين وانتظار ذلك . وعن الزجاج : إلا طلب سنتهم وهو قولهم " إن كان هذا هو الحق " وزاد في هذه السورة { ويستغفروا ربهم } لأن قوم نوح أمروا بالاستغفار { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } [ نوح : 10 ] وكذا قوم هود { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } [ هود : 52 ] وقوم صالح { فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب } [ هود : 61 ] وقوم شعيب { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود } [ هود : 90 ] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم . والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عياناً . ومن قرأ بضمتين أراد أنواعاً جمع قبيل . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلاً . وقالت الأشاعرة : العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه ، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة . ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين أن مع هذه الأحوال { يجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا } ويزيلوا ويبطلوا { به الحق } من إدحاض القدم وهو إزلاقها { واتخذوا آياتي وما أنذروا } أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم { هزواً } موضع استهزاء . قال جار الله : جدالهم قولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] وما أشبه ذلك . قال أهل العرفان : قوله : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } أي بالقرآن بدليل قوله : { أن يفقهوه } وبتذكير الضمير . { فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه } من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية . وإنما قال في السجدة { ثم أعرض عنها } [ الآية : 22 ] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد ، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك . وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزماناً بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم . وقوله { إنا جعلنا } وقد مر تفسيره في " الأنعام " إلى قوله : { فلن يهتدوا إذا أبداً } متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلاً لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله ، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته . ورحمته على عباده كما قال : { وربك الغفور ذو الرحمة } قال المفسرون الضمير في قوله : { لو يؤاخذهم } لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والموعد يوم بدر . وأقول : لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } والموعد القيامة ، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه . قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار ، والرحمة إيصال النفع ، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول ، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال . أقول : هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضاً لا يخلو عن مبالغة ، وكثيراً ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين . وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضاً نظر ، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك . ثم أشار إلى قرى الأولين اعتباراً لغيرهم فقال : { وتلك القرى } فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم ، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى { أهلكناهم } ويجوز أن يكون { تلك القرى } منصوباً بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير . { وجعلنا } لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكم { موعداً } وعداً أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر ، والمراد أنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً يمكنهم التوبة قبل ذلك . التأويل : { ويوم نسير الجبال } وهي الأبدان الجامدة عن السلوك ، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق ، وحشرنا جميع القوى البشرية { وعرضوا على ربك صفاً } لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها ، فالروح في صف الأرواح ، والقلب في صف القلوب ، وكذا النفس وقواها . { ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } على هيئة الفطرة ، وقيل الأنبياء في صف ، والأولياء في صف ، والمؤمنون في صف ، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير { لا يغادر صغيرة } هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات . { ولا كبيرة } هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة { ما أشهدتهم } لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ الكهف : 53 ] { ورأى المجرمون النار } رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي ، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها { ولم يجدوا عنها مصرفاً } كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع ، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم } أسباب الهداية { ويستغفروا ربهم } إن كانوا مذنبين { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم " والله لولا الله ما اهتدينا " { أو ما يأتيهم العذاب قبلاً } كقوله : " أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " والله أعلم . ( م ) .