Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 1-15)

Tafsir: Ġarāʾib al-Qurʾān wa-raġāʾib al-furqān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القراءات : { كيهعص } بإمالة الهاء فقط : أبو عمرو { كهيعص } بإمالة الياء فقط : حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان ، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى ويحيى وحماد بإمالتهما . وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب . الباقون بتفخيمها { صاد ذكر } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل { من ورائي } بفتح الياء مهموزاً : ابن كثر غير زمعة والخزاعي عن ا لبزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي { من وراي } مثل { عصاي } { يرثني ويرث } بالجزم فيهما : أبو عمرو وعليّ . الباقون برفعهما { يبشرك } ثلاثياً وكذلك في آخر السورة : حمزة { عتباً } و { جثياً } و { صلياً } و { بكياً } بكسر الأوائل : حمزة وعلي وافق حفص إلا في { بكياً } الخزاز عن هبيرة { عتباً } الأولى بالكسر والثاني بالضم . { وقد خلقناك } حمزة وعلي . الآخرون { خلقتك } على التوحيد { إلى آية } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة . الوقوف : { كهيعص } ه كوفى { زكريا } ه ح لجواز تعلق " إذ " بـ { ذكر رحمة ربك } ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفاً . { خفياً } ه { شقياً } ه { ولياء } لا { آل يعقوب } ق والوجوه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين { يحيى } لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي . { سمياً } ه { عتياً } ه { كذلك } ه بناء على أن التقدير الأمر كذلك { شيئاً } ه { آية } ط { سوياً } ه { وعشياً } ه { بقوة } ط { صبياً } ه لا للعطف أي آتيناه الحكم وحناناً منا عليه { وزكاة } ط { تقياً } ه { عصياً } ه { حياً } ه . التفسير : حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية ، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات ، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائياً ، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه . فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معاً فعلى العادة ، ومن قرأ بتفخيمهما جميعاً فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين . وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل : لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها . والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة ، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله { كهيعص } ثناء من الله تعالى على نفسه ، فالكاف كاف لأمور عباده ، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز ، والصاد صادق . وعنه أيضاً أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير ، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى . وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير ، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام ، وارتفع { ذكر رحمة } على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة { ربك } وانتصب { عبده } على أنه مفعول لذكر و { زكريا } عطف بيان ، وقرىء برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول ، وعن الكلبي أنه قرأ { ذكر } بلفظ الماضي مشدداً تارة و { رحمة } و { عبده } منصوبان على المفعولية ، والفاعل ضمير المتلو . ومخففاً أخرى و { عبده } مرفوع على الفاعلية . وقرىء { ذكر } على الأمر وهي قراءة ابن معمر . وقيل : يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته ، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صل الله عليه وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا . وفي خفاء ندائه . وجوه منها : أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه . ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته . ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم . ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ " صوته خفات وسمعه تارات " ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفياً لنهاية كبره . ثم شرع في حكاية ندائه قائلاً : { قال رب إني وهن العظم مني } إلى قوله : { واجعله رب رضياً } قال علماء المعاني : في الآية لطائف وذلك أصل الكلام : يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه ، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني ، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار : إني وهنت العظام من بدني ، لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاماً واهنة عندك ، فإذا قلت : " من بدني " فقد فصلت ، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام ، ثم لطلب شمول العظام فرداً فرداً قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل { إني وهن العظم مني } فحصل أني وهنت العظام مني . وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى . وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي . وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب الرأسي ، ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل { اشتعل } بدل " انتشر " فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب ، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي " اشتعل رأسي شيباً " . وكونها أبلغ من وجهات منها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت : " اشتعل بيتي ناراً " مكان " اشتعل النار في بيتي " . ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز ، ومنها تنكير { شيباً } للتعظيم كما هو حق التمييز . ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي " اشتعل الرأس مني شيباً " لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو { وهن العظم مني } ثم ترك لفظ " مني " ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ . وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال " رب " بحذف حرف النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره . وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني . ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلاً { ولم أكن بدعائك رب شقياً } كما حكى أن محتاجاً قال لكريم : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل إلينا وقضى حاجته . تقول العرب : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها ، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها . ومعنى { بدعائك } أي بدعائي إياك . واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة : الأول كونه ضعيفاً ، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين وذلك قوله { وإني خفت الموالي } قال ابن عباس والحسن : أي الورثة . وعن مجاهد العصبة . وعن أبي صالح : الكلالة . وعن الأصم : بني العم وهم الذين يلونه في النسب . وعن أبي مسلم : المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من تقدم في ميراثة كالولد . والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين ، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعيناً للحبورة . وقوله : { من ورائي } أي بعد موتي لا يتعلق بـ { خفت } لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي ، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما . وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم . وإنما قال : { خفت } بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف ، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال . وقرىء { خفت الموالي } بتشديد الفاء . وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه ، والظرف متعلق بالموالي ، أو معناه قدامي والظرف متعلق بـ { خفت } أي درجوا ولم يبق من يعتضد به . ثم صرح بالمسألة قائلاً : { فهب لي } وأكده بقوله : { من لدنك } أي ولياً صادراً من عندك مضافاً إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة . من قرأ { يرثني ويرث } بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء ، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا : إنه صفة . وقال صاحب المفتاح : الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل : لم تطلب الولد ؟ فقال مجيباً : يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا . واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع ، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم . أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة . وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب . وأقول : الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا " هب لي ولياً موصوفاً بالوراثة " أو بأن الغرض منه الوراثة ، أوهب لي ولياً أخبر عنه بأنه يرثني . وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب . والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران ، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه . ويمكن أن يقال : لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا ، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقى ذلك الكتاب أو الشرع معمولاً به بعد زكريا أيضاً إلى حين . وقد روى صاحب الكشاف ههنا قراآت شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان . فقيل : هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول " جاءني فلان فجاءني رجل " لا تريد به إلا الأول ، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية ، وتجرد الكلام عنه . وأقول : يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية . وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها . واختلف المفسرون في أنه طلب ولداً يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره ؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] ولقوله في سورة الأنبياء { ربي لا تذرني فرداً } [ الأنبياء : 89 ] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال { أنى يكون لي غلام } ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك . والجواب ما مر في آل عمران . واختلفوا أيضاً في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك : هي وراثة المال . وعنهم أيضاً أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس . وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة . فلفظ الإرث مستعمل في المال { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } [ الأحزاب : 17 ] وفي العلم { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } [ غافر : 53 ] " العلماء ورثة الأنبياء " وحجة الأولين ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " رحم الله زكريا وما عليه من يرثه " فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم " إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وأيضاً العلم والنبوة كيف يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة إلى قوله : { واجعله رب رضياً } لأن النبي لا يكون إلا مرضياً . وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه . والمراد يكون رضياً أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى ، وقج مر الحديث هناك . ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلاً على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به . احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال ، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً عنده ، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل ، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث . واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن بعقوب ، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق ، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه السلام . وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل . وعن مقاتل : أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها . قوله : { يا زكريا } الكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله : { رب إني وهو العظم مني } إلى قوله : { رب أنى يكون لي غلام } ومنهم من قال : هو نداء الملك لقوله في آل عمران { فنادته الملائكة } [ الآية : 49 ] وجوز بعضهم الأمرين . واختلفوا في عدم السمي فقيل : أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله . وقيل : أراد أنه لا نظير له كقوله { هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] وذلك أنه سيداً وحصوراً ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله : { واجعله رب رضياً } وأيضاً سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص . قال بعض العلماء : القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله : { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول : السميّ هناك يراد به المثل والنظير . ويمكن أن يقال : إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضاً . قال جار الله : إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سمي . قلت : ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم . ولم سمي بيحيى ؟ تكلفوا له وجوهاً . فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه . وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { إذا دعاكم لما يحييكم } [ الأنفال : 24 ] . ولهذا كان من أول من آمن بعيسى . وقيل : لأنه استشهد والشهداء أحياء . وقيل : لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين . قوله : { وقد بلغت من الكبر } قال جار الله : أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية فـ " من " للتعليل ، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى { عتياً } وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام . يقال : عنا العود عتياً إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس . سؤال : إنه قال في آل عمران { وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } [ آل عمران : 40 ] فلم عكس الترتيب في هذه السورة ؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب . قلت : إن ذاك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وههنا راعى الفاصلة . { قال } الأمر { كذلك } تصديقاً له . ثم ابتدأ قائلاً { قال ربك } فمحل { كذلك } رفع ، ويحتمل أن يكون نصباً { قال } وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله : { هو } أي خلق الغلام { عليّ هين } ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا { أنى يكون لي غلام } أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ؟ فأجيب بقوله : { كذلك } أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما . ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد { ولم تك شيئاً } لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً بعتد به كالنطفة ، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد ، فيه نفس استبعاد زكريا ، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن { قال رب اجعل لي آية } قد مر تفسير الآية في أول عمران . قوله : { سوياً } قيل : إنه صفة لليالي أي تامة كاملة . والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ { فخرج على قومه من المحراب } قيل : كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه . وقيل : كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه . { فأوحى إليهم } عن مجاهد : أشار بدليل قوله في أول آل عمران { إلا رمزاً } وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض . و { أن } هي المفسرة و { سبحوا } أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله . عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر ، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه ، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه ، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة . وههنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له : { يا يحيى خذ الكتاب } أي التوراة لأنها المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى { إني عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30 ] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس ، وإما الأخذ من حيث المعنى وهو القيام بمواجبه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهى عنه . ثم أكده بقوله : { بقوة } أي بجد وعزيمة . { وآتيناه الحكم } أي الحكمة . عن ابن عباس : هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال : ما للعب خلقت . وعن معمر : العقل . وقيل : النبوة . وكل هذه الأوصاف على الأقول من الخوارق كما حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة . والحنان أصله توقان النفس ، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد ههنا . وما قيل إنه يحتمل أن يراد حناناً منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو . وقيل : أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وأراد بقوله : { وزكاة } أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [ النور : 2 ] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة { من لدنا } وعن عطاء : أن معنى حناناً تعظيماً من لدنا . وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج : أن معنى زكاة عملاً صالحاً زكياً . وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود . وقيل : بركة كقول عيسى { جعلني مباركاً } وقيل : صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم . ثم أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن جملة أحواله بقوله : { وكان تقياً } بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط { وبرّاً بوالديه } لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله { ولم يكن جباراً عصياً } وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام ، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفاً بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق . قال سفيان : الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله : { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض } [ القصص : 19 ] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها ، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله ، وقيل : إنما قال : { حياً } مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيهاً على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى { ويوم أبعث حياً } [ مريم : 33 ] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول . والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حياً فوضع الأخص موضع الأعم تأكيداً . قيل : السلام عليه يوم ولد لا بد أن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه ، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب . قلت : أكثر أموره خارق للعادة ، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك . التأويل : إن زكريا الروح { نادى ربه نداء خفياً } من سر السر { قال رب إني وهن } مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية ، وإني خفت صفات النفس أن تغلب { وكانت امرأتي } يعني الجثة التي هي روح الروح { عاقراً } لا تلد إلا بموهبة من الله { فهب لي من لدنك } سأل { ولياً } فأعطاه الله نبياً وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه { يرثني ويرث من آل يعقوب } أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية { واجعله رب رضياً } بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] { اسمه يحيى } إن الله أحياه بنوره { ولم نجعل له من قبل سمياً } لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة ، وهو سر حمل الأمانة كما قال : " ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن " { وقد بلغت من الكبر } أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب { عتياً } يبساً وجفافاً من غلبات صفات النفس { آيتك أن لا تكلم الناس } لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه { ثلاث ليال } هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات { سوياً } متمكناً في هذا الحال من غير تلون { فخرج } زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته ، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد { يا يحيى } القلب { خذ } كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل { بقوة } ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفاً { وآتيناه الحكم } في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره { زكاة } وتطهراً من الالتفات إلى غيرنا { وبراً بوالديه } الروح والقالب . أما البروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلاً ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه ، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه ، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة . وأما بر والدة القلب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة { ولم يكن جباراً عصياً } كالنفس الأمارة بالسوء { وسلام عليه يوم يولد } في أصل خلقه { ويوم يموت } من استعمال المعاصي بالتوبة { ويوم يبعث حياً } بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي .