Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 114-118)
Tafsir: Ġarāʾib al-Qurʾān wa-raġāʾib al-furqān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القراءات : { قالوا اتخذ الله } بلا واو العطف : ابن عامر اتباعاً لمصاحف أهل الشام { كن فيكون } بالنصب كل القرآن : ابن عامر إلا قوله { كن فيكون الحق } في آل عمران ، و { كن فيكون قوله الحق } في الأنعام . وافقه الكسائي في النحل ويس . الوقوف : { خرابها } ( ط ) للفصل بين الاستفهام والخبر { خائفين } ط لأن ما بعده إخبار وعيد مبتدأ منتظر { عظيم } ( ه ) { وجه الله } ( ط ) { عليم } ( ه ) { وإذا } ( لا ) تعجيلاً للتنزيه { سبحانه } ( ط ) { والأرض } ( ط ) لأن ما بعده مبتدأ { قانتون } ( ه ) { والأرض } ( ط ) لأن إذا أجيبت بالفاء وكانت للشرط { فيكون } ( ه ) { آية } ( ط ) { قلوبهم } ( ط ) لأن قد لتوكيد الاستئناف { يوقنون } ( ه ) . التفسير : عن ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى الذرية وأحرق التوراة ، ولم يزل خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمان عمر فنزلت الآية فيهم . وعن الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك بعض النصارى . ورد بأن بختنصر كان قبل مولد المسيح بزمان . وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إلى الله بمكة ألجأوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام . وقيل : المراد منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . ووجه اتصال الآية بما قبلها على القولين الأولين . هو أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط ، فبين أنهم أظلم منهم فكيف يدخلون الجنة ؟ وعلى الآخرين هو أنه جرى ذكر مشركي العرب في قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون } فعقب ذلك بسائر قبائحهم و " من " استفهامية لتقرير النفي أي ليس أحد أظلم ممن منع و { أن يذكر } ثاني مفعوليه لأنك تقول : منعته كذا أو بدل من { مساجد } أو حذف حرف الجر مع أن والتقدير كراهة أن يذكر فيكون مفعولاً له . وهذا حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله تعالى مفرط في الظلم ، ولا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً من أظلم ممن آذى الصالحين ؟ ومثله { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق . وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضاً لا الذين منعوا من أولئك النصارى أو المشركين بأعيانهم والسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان قيل : إن قوله { ومن أظلم } الذي هو في قوة ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وكذا الزنا وقتل النفس قلت : أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى في غاية الحسن ، لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه ، فالمانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه . وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركاً فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه ، وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله ، لأن من اعتقد أن لو معبوداً عرف وجوب عبادته له عقلاً أو شرعاً ، والعبادة تستدعي متعبداً لا محالة . فتخريب المتعبد ينبئ عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستلزم إنكار المعبود ، فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلماً وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق ، والمنافق كافر أسوأ حالاً من الكافر الأصلي بالاتفاق { أولئك } المانعون { ما كان لهم } أي ما ينبغي لهم { أن يدخلوها } في حال من الأحوال { إلا خائفين } على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم . وقيل : هذه بشارة للمؤمنين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين من أن يعاقبوا أو يقتلوا إن لم يسلموا . وقد أنجز الله هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر : ألا لا يحجن بعد العام مشرك . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، وصار بيت المقدس في أيدي المسلمين . وقيل : يحرم عليهم دخول المسجد إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمحاكمة أو المخاصمة أو المحاجة . وقيل : اللفظ خبر ولكن معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] فمن هنا قال مالك : لا يجوز للكافر دخول المساجد . وخصص الشافعي المنع بالمسجد الحرام لجلالة قدره ومزيد شرفه ، للتصريح بذلك في قوله { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] . وجوز أبو حنيفة دخول المساجد كلها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد ثقيف فأنزلهم المسجد . وأجيب بأنه في أول الإسلام ثم نسخ بالآية { خزي } ذل يمنعهم من المساجد أو بالجزية في حق أهل الذمة وبالسبي والقتل في حق أهل الحرب ، وفيه ردع لهم عن ثباتهم على الكفر . وقيل : الخزي فتح مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية ، والعذاب العظيم يناسب الظلم العظيم ولنذكر هنا فوائد : ( الأولى ) في بيان فضل المساجد ومن ذاك إضافتها إلى الله في الآية وذلك دليل على شرفها وكذا في قوله { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] بلام الاختصاص { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 18 ] { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور : 39 ] وقال صلى الله عليه وسلم " أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها " وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر الحبيب ، والسوق يشغل عنه ، وفي الآية نكتة وهي أن مخرب المساجد لما كان في نهاية الظلم والكفر يلزم أن يكون عامر المساجد في غاية العدل والإيمان . ( الثانية ) في فضل المشي إلى المساجد عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال " من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فيه فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة " وقال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد " دياركم تكتب آثاركم " ( الثالثة ) في تزيين المساجد . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أمرت بتشييد المساجد " قال ابن عباس : بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى . التشييد رفع البناء وتطويله ، والزخرفة التزيين والتمويه . وأمر عمر ببناء مسجد فقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس . ( الرابعة ) في تحية المسجد . عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " وتؤدى التحية بالفرض أو النفل نواها أولا وهذا مذهب الحسن البصري ومكحول والشافعي وأحمد وإسحق . وقيل : يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة ومالك والثوري وأصحاب الرأي . ( الخامسة ) في الدعاء عند الدخول في المسجد والخروج منه . روت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال : " رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك " . ( السادسة ) في فضيلة القعود فيه لانتظار الصلاة عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول : اللهم اغفر له وارحمه ما لم يحدث " . ( السابعة ) في كراهية البيع والشراء فيه ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيها ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة يعني لمذاكرة العلم ونحوه ، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة ، وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه أيضاً . عن أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا " وقد كره بعض السلف المسالة في المسجد ، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد ، وقال معاذ بن جبل : إن المساجد طهرت من خمس : من أن تقام فيها الحدود ، أو يقبض فيها الخراج ، أو ينطق فيها بالأشعار ، أو ينشد فيها الضالة ، أو تتخذ سوقاً . ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ، ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد ، وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد . ( الثامنة ) النوم في المسجد . عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى . وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد وجوازها في البيت إلا الانبطاح ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " إنها ضجعة يبغضها الله " ( التاسعة ) في كراهة البزاق في المسجد . عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها " وعنه صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجله فيدفنه " ( العاشرة ) عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا " وعنه صلى الله عليه وسلم " من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس " . ( الحادية عشرة ) في بناء المساجد في الدور عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب . وفيه دليل أن مجرد تسمية الموضع بالمسجد لا يخرجه عن ملكه ما لم يسبله . قوله عز من قائل { ولله المشرق والمغرب } الآية ، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه : أحدها : أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال : إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى ، فكانت الآية مقدمة لما أراد من نسخ القبلة ، وثانيها عن ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت رداً عليهم . وثالثها قول أبي مسلم : إن كلاً من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم ، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة ، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق ؟ ورابعها : قول قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة . وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء . وسادسها : روى عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية عذراً لنا في خطئنا . وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة ، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة . وسابعها : عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يومئ برأسه نحو المدينة . فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله ، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة ، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة . فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج ، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة ، وعلى الوجه الرابع منسوخة ، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة . وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضاً فقيل : الخطاب في { تولوا } للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم . عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم فنزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم } " [ آل عمران : 199 ] الآية . فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي . فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] وعن الحسن ومجاهد والضحاك : لما نزلت { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه ؟ فنزلت ، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فللَّه بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها ، ففي أي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] { فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 144 ] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجداً " وقيل : نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غيرها ، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأياً فهو مصيب . ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها . ويقال : ولى هارباً أي أدبر ، فالتولية من الأضداد ، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار و { ثم } إشارة إلى المكان خاصة . وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجهاً وأيضاً سماه واسعاً ، والسعة من نعوت الأجسام . والجواب أن الآية عليه لا له ، فإن الوجه لو حمل على مفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذياً للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذياً للغربي ، فلا بد من تأويل هو : أن الإضافة للتشريف مثل " بيت الله " " وناقة الله " لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 79 ] أو المراد فثم مرضاة الله مثل { إنما نطعمكم لوجه الله } [ الدهر : 9 ] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئاً فشيئاً كالمتوجه إلى شخص ذاهباً إليه شيئاً فشيئاً . و كيف يكون له وجه أو وجهة ، أم كيف يكون جسماً أو جسمانياً وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدماً بالذات والعلية والشرف ؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام ، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها ، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم . قوله { وقالوا اتخذ الله ولداً } نوع آخر من قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين جميعاً فقد مر ذكرهم في قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } وفي قوله { ومن أظلم } كما مر . والضمير يصلح للعود إليهم ، فاليهود قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بل له ما في السموات والأرض } ملكاً وخلقاً وإبداعاً وصنعاً ، ومن جملتهم الملائكة وعزير والمسيح . والولد لا بد أن يكون من جنس الوالد ، ومن أين المناسبة بين واجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته ؟ اللهم إلا في مطلق الوجود ، وذلك لا يقتضي شركة في الحقيقة الخاصة بكل منهما . وقد يتخذ الولد للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته وذلك على الغني المطلق والقيوم الحق محال { كل له قانتون } التنوين عوض عن محذوف أي كل ما في السموات والأرض والقنوت في الأصل الدوام ثم الطاعة ، أو طول القيام أو السكوت فالمعنى أن دوام الممكنات واستمرارها جميعاً به ولأجله وقيل : عن مجاهد وابن عباس مطيعون فسئل ما للكفار ، فأجاب : أنهم يطيعون يوم القيامة فسئل هذا للمكلفين . وقوله { بل له ما في السموات } يعم المكلف وغيره ، فعدل إلى تفسير آخر قائلاً المراد كونها شاهدة على وجود الخالق بما فيها من آثار القدرة وأمارات الحدوث ، أو كون جميعها في ملكه وتحت قهره لا يمتنع عن تصرفه فيها كيف يشاء . وعلى هذه الوجوه جمع السلامة في { قانتون } للتغليب ، أو يراد كل من الملائكة وعزير والمسيح عابدون له مقرون بربوبيته منكرون لما أضافوا إليهم من الولدية ، وعلى هذا الوجه يجمع على الأصل . يحكى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله تعالى لصرت على دينه . فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله ؟ فقال علي : إن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره ؟ وإنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني وبهت { بديع } خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع { السموات والأرض } عم أولاً لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجداً للمملوك ، ثم خص ثانياً فقال بديع : بدع الشيء بالضم فهو بديع ، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال ، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه . وقيل : بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف ، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال : { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أصل التركيب من " ق ض ى " يدل على القطع . قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى ، وانقضى الشيء انقطع ، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج ، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ، لأن إتمام العمل قطع له ، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف ، والأمر الشأن ، والفعل ههنا ، ومعنى قضى أمراً أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال : @ وعليهمـا مسـرودتـان قضـاهمـا داود أو صنـع السـوابـغ تبـع @@ ثم من قرأ { فيكون } بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال ، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لا بد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو : اذهب تنتفع ، أو اذهب يذهب زيد ، أو اذهب ينفعك زيد ، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو : اذهب تذهب فغير جائز لأن الشيء لا يكون شرطاً لنفسه . قلت : لا استبعاد في هذا ، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئاً مغايراً لفعل الأمر وذلك أكثري ، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئاً آخر مغايراً له . فقول القائل " اذهب تذهب أو فتذهب " معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر ، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود ، فأوقع " كان " التامة جواباً لمثلها لهذا الغرض ، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جواباً له من حيث المعنى . فإن قلت : إن قوله { فيكون } لما كان من تتمة المقول . فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو " اذهب فتذهب " قلت : هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله { أمراً } وفي قوله { له } ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة ، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيراً لشأنه في سهولة تكونه ، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك . وههنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة " كن " منه لوجوه : الأول أن قوله { كن } إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً ، لأن النون لكونه مسبوقاً بالكاف يكون محدثاً لا محالة ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان مقدر يكون محدثاً أيضاً ، ولأن " إذا " للاستقبال فالقضاء محدث ، وقوله " كن " مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله " كن " بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضاً ، ولا جائز أن يكون " كن " محدثاً وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على " كن " ( الثاني ) إما أن يخاطب المخلوق بـ " كن " قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه . ( الثالث ) المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة . ( الرابع ) إذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله { كن } فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى { كن } ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بـ { كن } فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته ، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة بـ { كن } ولا نزاع في اللفظ . ( الخامس ) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا . ( السادس ) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين ، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلا بد من تأويل ، وأصحه أن يقال : المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى ، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل : إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، عن أبي الهزيل . وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم . وقيل : أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة { وقال الذين لا يعلمون } يعني الجهلة من المشركين . وقيل : من أهل الكتاب أيضاً . ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به . فالآية الأولى فيها بيان قدحهم في التوحيد ، وهذه الآية فيها بيان قدحهم في النبوة . ولولا حرف تحضيض أي هلا يكلمنا وتقرير الشبهة أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء اختار أقرب الطربق المؤدية إلى المطلوب ، ثم إنه تعالى كلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة ؟ فإن لم يفعل ذلك فلم لا تأتي بآية ومعجزة ؟ وهذا طعن منهم في كون القرآن آية ومعجزة فأجابهم الله تعالى بقوله { كذلك قال الذين من قبلهم } من مكذبي الرسل { تشابهت قلوبهم } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله { أتواصوا به } [ الذاريات : 53 ] فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] { أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] فكذلك هؤلاء المشركون { قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] وكذلك المعاصرون من اليهود والنصارى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] { قد بينا الآيات لقوم } يفقهون فـ { يوقنون } أنها آيات . فلو كان غرضهم طلب الحق لوقع الاكتفاء بها لكونها آيات ظاهرة هي القرآن العظيم الذي أخرس شقاشق الفصحاء عن آخرهم ، ومعجزات باهرة كمجيء الشجرة وحنين الجذع وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأيضاً لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال ما اقترحوه لفعلها ، لكنه علم لجاجهم وعنادهم فلا جرم لم يفعل ذلك وأيضاً ، لعل في تلك الآيات مفاسد لا يعلمها إلا علام الغيوب كإفضائها إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف ، وكإيجابها استئصاهم بالكلية إذا استمروا على التكذيب ، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة ، وأيضاً كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق لعادة فلا تبقى آيات ، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال ، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم . التأويل : مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر ، النفس والقلب والروح ، والسر والخفي - وهو سر السر - وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد . فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات ، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات ، كما أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة . وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات ، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات ، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات { أولئك ما كان لهم } أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب { لهم في الدنيا خزي } من ذل الحجاب { ولهم في الآخرة عذاب } الحرمان من جوار الله . { ولله المشرق والمغرب } القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها ، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق ، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى ، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود ، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة ، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال ، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود ، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء ، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء . وتلاشي العبدية في كعبة العندية ، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ، رفعت القبلة وما بقي إلا الله { فأينما تولوا فثم وجه الله } { إن الله واسع } يوسع قلب من يشاء من عباده ليسعه { عليم } بتوسيع القلب لسعته بلا كيف وحيف كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم .