Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 255-257)
Tafsir: Ġarāʾib al-Qurʾān wa-raġāʾib al-furqān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القراءات : تعرف ممَّا مرَّ . الوقوف : { إلا هو } ج ، لأن قوله : { الحي القيوم } يصلح بدلاً عن الضمير وخبر ضمير آخر محذوف { القيوم } ج لاختلاف الجملتين ، { ولا نوم } ط ، { وما في الأرض } ط لابتداء الاستفهام . { بإذنه } ط لانتهاء الاستفهام . { وما خلفهم } ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقاً وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي . { بما شاء } ج لاختلاف الجملتين . { حفظهما } ج { العظيم } هـ . { الغي } ج ، لأن من للشرط مع فاء التعقيب . { الوثقى } ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالاً للعروة أي : استمسك بها غير منفصمة { لها } ط . { عليم } هـ . { آمنوا } لا ، لأن { يخرجهم } حال والعامل معنى الفعل في { ولي } تقديره : الله يليهم مخرجاً لهم أو مخرجين { إلى النور } ط للفصل بين الفريقين : { الطاغوت } لا ، لأن { يخرجونهم } حال . إلى الظلمات ط . { النار } ج . { خالدون } هـ . التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض . والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل ؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه . وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد . فقال { الله لا إله إلا هو الحى القيوم } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة " وعن عليّ رضي الله عنه : " سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره والأبيات حوله " وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي ؟ . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي " وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : " لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول : يا حي يا قيوملا يزيد على ذلك . ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك . فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له " واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات . ولنشتغل بالتفسير . أما لفظ " الله " فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب . وأما قوله { لا إله إلاَّ هو } فقد سبق تفسيره في قوله { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } [ البقرة : 163 ] وأما { الحي القيوم } فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، إلا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله " الحي القيوم " . ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود . وأما الدليل العقلي فإن " الحي " قيل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك . ونحن نقول إن " الحي " في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيًّا . ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض . فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة . ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة . فالمفهوم من " الحي " هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته . وأما " القيوم " فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره . والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم " الحي " . ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً ؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيَّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً ؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك ؛ ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيًّا قيوماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه . ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر . " والحي " أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله " حيو " بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو . " والقيوم " مبالغة قائم ، وأصله " قيووم " على " فيعول " ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة . ولو كان " قوّوما " على " فعول " لقيل " قووم " ، وعن عمر أنه قرأ " الحي القيام " . وقرىء " القيم " ثم لما بين أنه " حي قيوم " أكد ذلك بقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا / يأخده نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً . ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم . ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم . وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيًّا ولا قيوماً وهذا خلف . " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قاروتين مملؤتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ . فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا " وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين . وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على " الحي القيوم " والتجويز شك ، والشك في مثله كفر . ثم لما بيَّن كونه " قيوماً " وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله { له ما في السموات وما في الأرض } لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه . فأشار إلى الأول بقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ، وإلى الثاني بقوله { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يَكون بعدهم والضمير لما في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول { مَنْ ذا } من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء . عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة ؛ وعن الضحاك والكلبي : { ما بين أيديهم } : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، " وما خلفهم " الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم . وعن ابن عباس : { يعلم ما بين أيديهم } من السماء إلى الأرض ، " وما خلفهم " يريد ما في السموات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد / ذلك ، والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يراد : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى . ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال { وسع كرسيه السموات والأرض } يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به . قال صلى الله عليه وسلم : " لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي " أي : لم يحتمل غير ذلك . وأما " الكرسي " فأصله من التركيب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه . وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا . وعن السدي أنه تحت الأرض . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشيبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى . وههنا أسرارا لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره . وقيل : المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه ؛ فإن الملك مكانه الكرسي . وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه . ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض . وقيل : المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد . واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم ؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له / يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم . وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك . وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين . وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال : { وكان عرشه على الماء } [ هود : 71 ] ثم قال { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] ثم قال { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً . ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي { ولا يؤده } لا يثقله ولا يشق عليه ؛ { حفظهما } حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة . ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : { وهو العلي العظيم } والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة . وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان . وقوله سبحانه : { لا إكراه في الدين } الآية : لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للأعذار ذكر بعد ذلك . أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار . ومما يؤكد ذلك قوله : { قد تبين الرشد من الغي } يقال بَانَ الشيء واستبان وتبيَّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين . والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه . أي : تميز الحق من الباطل ، والإيمان الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبينات ووفور الدلائل والآيات . { فمن يكفر بالطاغوت } قال النحويون : وزنه " فعلوت " نحو جبروت وأصله من " طغى " ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها . وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل . ولهذا قال تعالى : { أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] والأصل فيه التذكير . قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } [ النساء : 60 ] فأما قوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } [ الزمر : 17 ] فالتأنيث لإرادة الآلهة . وأما معنى " الطاغوت " فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان . وعن سعيد بن جبير : الكاهن . وقال أبو العالية : الساحر . وعن بعضهم : الأصنام . وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت / هذه الأشياء أسباباً للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } [ إبراهيم : 36 ] ويعلم من قوله { فمن يكفر بالطاغوت } ثم من قوله : { ومن يؤمن بالله } ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلاً ، ثم يؤمن بعد ذلك ، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به . والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية . والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصَمْتُه فانفصم . والمقصود من قوله { لا انفصام لها } هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول ههنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي مَن له . وقيل : معنى قوله { لا إكراه في الدين } لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه . ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله { جاهد الكفار والمنافقين } [ التحريم : 9 ] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحُكْم المجوس حُكْمهم . وأما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام . وقيل يقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون . " روي أنه كان لأنصاريٍّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصَّرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما . فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما " وقيل معنى قوله { لا إكراه } أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحَّ إسْلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } [ النساء : 94 ] . { والله سميع عليم } يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث . " وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سراً وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك " . قوله سبحانه : { الله ولي الذين آمنوا } أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم " فعيل " / بمعنى " فاعل " والتركيب يدل على القرب ، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ، ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير ، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين . والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي ، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات ، وإن لم يكونوا في الظلمة ألبتة ؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع تشابه ، ومثله قوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار . " ويروى أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله فقال : " على الفطرة " فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله قال : " خرج من النار " ومن المعلوم أنه ما كان فيها . قال الواحدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فإنه عنى به الليل والنهار . قال : وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك . قلت : قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النَفس بها نورية وإشراقاً فلا حاجة إلى هذا التكلف . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } مصدر ، ولهذا وحد في موضع الجمع { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد ، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه . كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد ، والمنحنية غير محدود . وإسناد الإضلال إلى الطاغوت ، وهو كل من ينسب إلى الطغيان ، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مراراً . { أولئك } الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل { أصحاب النار } فيكون زجراً للكل ووعيداً لهم أعاذنا الله من ذلك . التأويل : { الحي القيوم } : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه " الحي " مشتمل على جميع أسمائه وصفاته . فإن من لوازم الحي أن يكون قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً مريداً باقياً إلى غير ذلك من نعوت الكمال ، واسمه " القيوم " دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه ؛ فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين ، انكشف للعبد عند تجلي صفته " الحي " معاني جميع أسمائه وصفاته ؛ وعند تجلي صفته " القيوم " فناء جميع المخلوقات ، إذ كان قيامها / بقيومية الحق لا بأنفسهم ، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا " الحي القيوم " إذ سلب " الحي " جميع أسماء الله وسلب " القيوم " قيام الممكنات ، ففني التعدد وبقيت الوحدة . فيذكره عند شهود عظمة الواحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية ، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؛ لأنه حينئذٍ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه . فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته ، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم . كما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال : الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت . { لا تأخذه سنة ولا نوم } ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة ، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة . { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل : من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] . { ويعلم } محمد صلى الله عليه وسلم { ما بين أيديهم } من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق ، كقوله صلى الله عليه وسلم " أول ما خلق نوري ، أول ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام " { وما خلفهم } من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار ، { ولا يحيطون بشيء من علمه } وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل } [ هود : 120 ] ويعلم أمور آخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار ، وهم لا يعلمون شيئاً من ذلك { إلا بما شاء } أن يخبرهم عنه { وسع كرسيه السموات والأرض } : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه ؛ ومثال الكرسي : سره . وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله { الرحمن علىالعرش استوى } [ طه : 9 ] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن . { ولا يؤده حفظهما } لا يثقل الروح الإنساني حفظ أسرار السموات والأرض ، { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علواً في المرتبة وعظمة في الخلقة إظهاراً لكمال القدرة والحكمة ، تردَّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال : { وهو العلي العظيم } فمن علا في الآخرة والأولى فبإعلائه ، ومن عظم فبتعظيمه . ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله { لا إكراه في الدين } كما قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الدين بالتمني " مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو / الإجبار ، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً والتسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج وضيق عطن . ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله { فمن يكفر بالطاغوت } يتبرأ منه ؛ فطاغوت العوام الأصنام ، وطاغوت الخواص هو النفس ، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله . وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى . وشهود القلب مع المولى . وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة القلب إلى الفناء في الله ، وإخلاء السر للبقاء بالله ، وهذا هو السكر الموجب للشكر . ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي { تبت إليك } [ الأحقاف : 15 ] أي عن هذه الإفاقة ، فكان مخصوصاً عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكاً مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل : @ لي سكرتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي @@ ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة ، بل تكون من بطشه { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامه في الإيمان ؛ فهي للعوام توفيق الطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] ولخواص الخواص الجذبة الإلهية التي تفنيه عن ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين " وأعمالهما فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام ، فالمجذوب لا يخلص منها أبد الآبدين . ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية ، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان ، والأولياء بلفظ الجمع ، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله { أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] ؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس ؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية / والشيطانية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، دركات بعضها تحت بعض { أولئك } أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والأصنام أصحاب النار ، لأن الأرواح ، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم فهو منهم . والله المستعان .