Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 25-54)
Tafsir: Ġarāʾib al-Qurʾān wa-raġāʾib al-furqān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم القراءات : { ربنا أرنا } بسكون الراء : ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس . الآخرون : بكسر الراء . { اللذين } بتشديد النون : ابن كثير . { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة . الباقون : بضم الياء وكسر الحاء { أعجمي } بهمزة واحدة : هشام . وقرأ بتحقيق الهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز . الباقون : بالمد { ثمرات } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل . { شركاي } مثل { من وراي } على وزن { عصاي } قد مر في سورة مريم { إلى ربي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { ونأى بجانب } وقد مر في السورة { سبحان الذي أسرى } . الوقوف : { والإنس } ج للابتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق { خاسرين } ه { تغلبون } ه { يعملون } ه { النار } ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً أي كائناً لهم فيها { دار الخلد } ج { يجحدون } ه { الأسفلين } ه { توعدون } ه { وفي الآخرة } ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول { تدعون } 5 ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلاً { رحيم } ه { المسلمين } ه { السيئة } ط { حميم } ه { صبروا } ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد { عظيم } ه { بالله } ط { العليم } ه { والقمر } ط { تعبدون } ه { يسأمون } ه سجدة { اهتزت وربت } ط { الموتى } ط { قدير } ه { علينا } ط { القيامة } ط { شئتم } ه لا ليكون ما بعده دالاً على أنه أمر تهديد { بصير } ه { لما جاءهم } ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر ههنا أو بعد قوله { من خلفه } كما يجيء { عزيز } ه لا لاتصال الصفة { من خلفه } ط { حميد } ه { من قبلك } ط { أليم } ه { وآياته } ط { وعربي } ط { وشفاء } ط { عمى } ط { بعيد } ه { فيه } ط { بينهم } ط { مريب } ه { فعليها } ط { للعبيد } ه { الساعة } ط { بعلمه } ط ج { شركائي } لا لأن { قالوا } عامل { يوم } { آنذاك } لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده { من شهيد } ه ج للآية مع العطف { محيص } ه { الخير } ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما { قنوط } ه { هذا لي } لا تحرز إعمالاً يقوله مسلم قائمة كذلك { للحسنى } ه ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب { عملوا } إمهالاً للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين { غليظ } ه { بجانبه } ج فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين { عريض } ه { بعيد } ه { الحق } ط { شهيد } ه { ربهم } ج { محيط } ه . التفسير : لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر . ومعنى { قيضنا } سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل ، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر . والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين { فزينوا لهم ما بين أيديهم } وهو الدنيا وما فيها من الشهوات { وما خلفهم } وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل : ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها ، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم . والآية على مذهب الأشاعرة واضحة . وقالت المعتزلة : معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين . ومعنى { في أمم } كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل الأعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت { وقال الذين كفروا } الآية . يقال : لغى بكسر الغين يلغى بالفتح ، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضاً ، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظاً ومعنى ، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض { لا تسمعوا لهذا القرآن } إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز { لعلكم تغلبون } القارىء على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد . وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله { فلنذيقن } الآية . والمضاف في قوله { أسوأ } محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله { ذلك جزاء أعداء الله } وقوله { النار } بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر . و { دار الخلد } موضع المقام . قال الزجاج : هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله { بما كانوا بآياتنا يجحدون } موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم { ربنا أرنا } أي أبصرنا { اللذين أضلانا من الجن والإنس } وذلك أن الشياطين ضربان : جني وإنسي ، وقد ورد في القرآن كثيراً ، وقيل : هما إبليس الذي سن الكفر ، وقابيل الذي سن القتل . ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة . وقد يقال : معناه إذ ذاك أعطناه . وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه ، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار . { نجعلهما تحت أقدامنا } أي نطأهما إذلالاً وإهانة { ليكونا من الأسفلين } الأذلين وقيل : في الدرك الأسفل . وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة . وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله { ربنا الله } إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها . وقوله { ثم استقاموا } إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 5 ] ومعنى " ثم " تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار ، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة . وقال أهل العرفان : قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح ، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح . وعن أبي بكر الصديق : معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره . { تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة . و " أن " مفسرة أو مخففة . ولقد فسرنا الخوف والحزن مراراً والإبشار لازم . قال الجوهري : يقال بشرته بمولود فأبشر إبشاراً . وقوله { ألا تخافوا ولا تحزنوا } إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال . وقوله { وأبشروا } إخبار عن حصول المنافع . وقوله { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا } يقابل قوله { وقضينا لهم قرناء } فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس ، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة . وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية . وقيل : في الحياة الدنيا بالاستغفار . { وفي الآخرة } بالشفاعة . وقيل : كنا نحفظكم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } يعني الحظوظ الجسمانية { ولكم فيها ما تدعون } أي تمنون من المواهب الروحانية ، وقد مر في " يس " سائر الوجوه . والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر . وفي ذكر الغفور الرحيم ههنا مناسبة لا تخفى . قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم { قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] { لا تسمعوا لهذا القرآن } حرض سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهار المزية على الجهال وتحصيلاً للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال { ومن أحسن قولاً } ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال ، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين . زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان ، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة ، ورفعوه إلى عائشة . والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده ، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون ، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون ، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء ، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب . وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه . ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية . قال جار الله : ليس معنى قوله { وقال إنني من المسلمين } أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول : هذا قول أبي حنيفة . وقال آخرون : أراد به التلفظ به تفاخراً بالإسلام وتمدحاً . وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز : أنا مسلم إن شاء الله . فإنه لو كان ذلك معتبراً لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه ، فإن التجويز غير الإيجاب . ثم صبر رسوله صلى الله عليه وسلم على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } " لا " زائدة لتأكيد نفي الاستواء ، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلاً كأنه سأل : فكيف نصنع ؟ فأجيب { ادفع بالتي هي أحسن } فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال : الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن " لا " غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة . مثاله : رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته . قال : ومن جعل " لا " مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة . ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها . قال العارفون : الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب ، والسيئة الالتفات إلى غيره . { فإذا الذي } إذا فعلت ذلك انقلب عدوك ولياً مصافياً . قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان وكان مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه . ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله { وما يلقاها إلا الذين صبروا } أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره . { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية ، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل . وعن الحسن : ما عظم حفظ دون الجنة . ثم ذكر طريقاً آخر في دفع الغضب والانتقام قائلاً { وإما ينزغنك } وقد مر في آخر الأعراف . والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال ههنا { إنه هو السميع العليم } بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسباً لما تقدّمه من قوله { وما يلقاها } مؤكداً بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة . وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال { ومن آياته } الخ . والضمير في { خلقهن } للآيات أو الليل وما عطف عليه . ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء . وفي قوله { إن كنتم إياه تعبدون } تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلاً منهم وزعماً أنها الواسطة بين الخلق والإله ، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها ، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفاً ظاهراً في نفسه { فإن استكبروا } عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر { فالذين عند ربك } عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون { يسبحون له بالليل والنهار } أي على الدوام والاستمرار { وهم لا يسأمون } من السآمة والملالة . والحاصل أنهم إن يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابداً مخلصاً . ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج ، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفقير الكاسف البال المتلبس بثوب أطمار . وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله { لا يخفون علينا } وكفى به وعيداً . ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله { أفمن يلقى } الخ . وقوله { يوم القيامة } ظرف لآمنا أو ليأتي . ثم هددهم بقوله { اعملوا ما شئتم } الخ . ثم أبدل من قوله { إن الذين كفروا بالذكر } أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه ، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله { لا يخفون } وإنه كلام مستأنف . وعلى هذا فاختلفوا في خبر " إن " . فالأكثرون على أنه { أولئك ينادون } وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر . وقيل : خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك . وقيل : هو محذوف . ثم اختلفوا فقال قوم : إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم . وقال آخرون : هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك ، وهذا يمكن تقديره بعد قوله { لما جاءهم } وبعد قوله { من خلفه } وبعد قوله { حميد } والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب ، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته . ثم أكد هذا الوصف بقوله { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } قال جار الله : وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء . وقيل : أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه . وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعماً منه أن النسخ نوع من البطلان ، ولا يخفى ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته . { تنزيل } أي هو منزل { من } إله { حكيم } في جميع أفعاله { حميد } إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه . ثم سلى نبيه عليه السلام بقوله { ما يقال لك } وفيه وجهان : أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم . { إن ربك لذو مغفرة } للمحقين { وذو عقاب أليم } للمبطلين ، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه . وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم . ويجوز أن يكون المقول هو قوله { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب } فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه . كانوا يقولون : لولا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتاً منهم فأجابهم الله بقوله { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا } معترضين منكرين { لولا فصلت آياته } أي بينت بلسان نفهمه . أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي ؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب ، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن ، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول : وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير . ولو قلت : واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل . ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي ، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربياً أو أعجمياً . وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم { قلوبنا في أكنة } فإن القرآن إذا كان بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } لداء الجهل { والذين } أي وللذين { لا يؤمنون في آذانهم وقر } وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين ، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه . وقرأ والذين لا يؤمنون به الخ . والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي . ثم أكد هذا المعنى بقوله { أولئك ينادون من مكان بعيد } فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع ، وإن سمع لم يفهم . ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته . والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ . ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحداً ثم كان لسائل أن يسأل : متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال { إليه } لا إلى غيره { يرد علم الساعة } أي إذا سأل عنها . قيل : لا يعلمها إلا هو . ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه . والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة . ثم ذكر من أحوال القيامة طرفاً آخر فقال { ويوم يناديهم أين شركائي } وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مراراً { قالوا آذناك } قال ابن عباس : أي أسمعناك من أذن بالكسر أذناً بالفتح إذا استمع . وقال الكلبي : أعلمناك قال الإمام فخر الدين الرازي : هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالإعلام في حقه محال . قلت : لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد ؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتاً في علمك القديم أنا سنقوله كقوله { ولما يعلم الله الذين جاهدوا } [ آل عمران : 142 ] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر . وقولهم { آذناك } ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ . ومعنى { ما منا من شهيد } ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عياناً أنه لا شريك لك . أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما أضيف إليها من الشركة . ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع ، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا . ومعنى { يدعون } يعبدون . والظن بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب . وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم ، بين أن الكافر تبدله في حالاته كلي أو أكثري . ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال ، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار ، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث ، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا ، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } [ الآية : 36 ] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله { فلننبئن } وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } أي تعظم وتجبر . وقد سلف في " سبحان " . واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه ، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضاً وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب . فإن قيل : كيف قال أولاً { فيؤس قنوط } ثم قال { فذو دعاء عريض } ؟ قلنا : أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان ، أو قنوط من الصنم دعاء الله ، أو الأول في قوم والثاني في آخرين . ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال { قل أرأيتم } الآية . وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم { قلوبنا في أكنة } [ فصلت : 5 ] { لا تسمعوا لهذا القرآن } ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي . وقوله { ممن هو في شقاق بعيد } من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بياناً لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف . وأقول : جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلاً فمن أضل منكم . وإنما قال في الأحقاف { وكفرتم } [ الآية : 10 ] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول " ثم " مع أنها تفيد التراخي في الرتبة ، وهناك عطف عليه قوله { وشهد شاهد } فلم يحسن إلا الواو . ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال { سنريهم آياتنا في الآفاق } وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة . { وفي أنفسهم } وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم { حتى يتبين لهم أنه } أي محمداً أو القرآن أو الدين { الحق } ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقاً دل على صدق المخبر بل إعجازه . وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء . وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه . ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، وإنما يوقف عليها حيناً بعد حين . وقد أكثر الله تعالى من تقدير تلك الدلائل في القرآن ، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات ، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وفي قوله { سنريهم } دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله . قال جار الله : معنى قوله { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء . وقال حكماء الإسلام : أراد بقوله { أو لم يكف } توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود ، فإن هذا هو طريقة الصديقين ، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق . قال أهل المعرفة : النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله { أو لم يكف } لخواص الخواص . وقيل : أولم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيداً عليهم . وقيل : أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها . ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلاً على حسب ما يستحقه والله أعلم .