Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 105-110)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ … } الآية ، هذه الآية صيغتُها صيغةُ أمْرٍ مضمَّنها الوعيدُ . وقال الطبري : المراد بها الذين ٱعتذروا من المتخلِّفين وتابوا . قال * ع * : والظاهر أن المراد بها الذين اعتَذَروا ، ولم يتوبوا وهم المتوعَّدون ، وهم الذين في ضمير { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } ، ومعنى : { فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } ، أي : موجوداً معرَّضاً للجزاء عليه بخَيْرٍ أو بِشَرٍّ . وقال ابنُ العرَبِيِّ في « أحكامه » : قوله سبحانه : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } هذه الآية نزلَتْ بعد ذكر المؤمنين ، ومعناها : الأمر ، أي : ٱعملوا بما يُرْضِي اللَّه سبحانه ، وأمَّا الآية المتقدِّمة ، وهي قوله تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 94 ] ؛ فإنها نزلت بعد ذكْر المنافقين ، ومعناها : التهديد ؛ وذلك لأن النفاق موضِعُ ترهيبٍ ، والإيمانُ موضعُ ترغيبٍ ، فقوبل أهْلُ كلِّ محلٍّ من الخطاب بما يليقُ بهم . انتهى . وقوله سبحانه : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } : عَطْفٌ على قوله أولاً : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ } : ومعنى الإِرجاء : التأخير ، والمراد بهذه الآية فيما قال ابنُ عباس وجماعةٌ : الثلاثةُ الذين خُلِّفوا ، وهم كَعْبُ بْنُ مالكٍ ، وصاحباه ؛ على ما سيأتي إن شاء اللَّه ، وقيل : إِنما نَزلَتْ في غيرهم من المنافقين الذين كانوا مُعَرَّضين للتوبة مع بنائهم مَسْجِدَ الضِّرارِ ، وعَلَى هذا : يكون { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } بإسقاط واو العطف بدلاً من { آخَرُونَ } ، أو خبر مبتدأ ، تقديره : هم الذين ، وقرأ عاصم وعوامُّ القُرَّاء ، والنَّاسُ في كل قُطْرٍ إلاَّ بـــ « المدينة » : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } ، وقرأ أهلُ المدينة ، نافع وغيرُهُ الَّذِينَ ٱتَّخَذُوا - بإسقاط الواو ؛ على أنه مبتدأ ، والخبر : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ } وأما الجماعة المرادة بـــ { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا } ، فهم منافقو بني غَنْم بن عَوْف ، وبني سَالمِ بنِ عَوْف ، وأسند الطبريُّ ، عن ٱبنِ إِسحاق ، " عن الزُّهْرِيِّ وغيره ، أنه قال : أَقْبَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تَبُوكَ ، حتى نَزَلَ بذي أَوَانَ - بلدٌ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهار - وكان أصحابُ مسجِدِ الضِّرَارِ ، قد أَتَوهُ صلى الله عليه وسلم وهو يتجهَّز إِلى تبوكِ ، فقالوا : يا رسُولَ اللَّهِ ؛ إنا قد بَنَيْنَا مسَجِداً ؛ لِذِي العِلَّة والحاجة واللَّيْلَة المَطِيرة ، وإِنا نُحِبُّ أَن تأتينا فتصلِّي لنا فيه ، فقال : « إِنِّي عَلَىٰ جَنَاحِ سَفَرٍ ، وَحَالِ شُغْلٍ ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ » ، فَلَمَّا قَفَلَ ، وَنَزَلَ بِذِي أوَان ، نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ في شَأْنِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُنِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ ، أو أخاهُ عاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ ، فَقالَ : « ٱنْطَلِقَا إِلَى هَذَا المَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ ، فَٱهْدِمَاهُ ، وَحَرِّقَاهُ » " فَٱنْطَلَقَا مُسْرِعَيْنِ فَفَعَلاَ وَحَرَقَاهُ ، وذكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث لِهَدْمِهِ وتحريقه عَمَّار بن ياسر وَوَحْشِيًّا مَوْلَى المُطْعم بن عَدِيِّ ، وكان بَانُوهُ ٱثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً ، منهم ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ ، ومُعْتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، ونَبْتَلُ بْنُ الحَارِثِ وغيرهم ، وروي أنه لما بنى صلى الله عليه وسلم مَسْجداً في بني عمرو بن عوف وقْتَ الهِجْرَة ، وهو مَسْجِدُ « قُبَاءٍ » وتشرَّفَ القومُ بذلك ، حَسَدَهم حينئذٍ رجالٌ من بني عَمِّهم من بني غَنْم بْنِ عَوْفٍ ، وبني سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وكان فيهم نفاقٌ ، وكان موضعُ مَسْجِدِ « قُبَاءٍ » مربطاً لحمارِ ٱمرأةٍ من الأنصار ، ٱسْمُها : لَيَّةُ ، فكان المنافقُونَ يقولُونَ : واللَّه لا نَصْبِرُ على الصَّلاة في مَرْبَطِ حمارِ لَيَّةَ ، ونحو هذا من الأقوال ، وكان أبو عامرٍ المعروفُ بِالرَّاهِبِ منهم ، وهو أبو حنظلة غسيلِ الملائكةِ ، وكان سيِّداً من نظراء عبدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ٱبْنِ سَلُولَ ، فلما جاء اللَّهُ بالإِسلام ، نافق ، ولم يَزَلْ مجاهراً بذلك ، فسمَّاه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الفاسِق ، ثم خرج في جماعة من المنافقينَ ، فَحَزَّبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردَّهم اللَّه بغَيْظهم ، أقام أبو عامر بـــ « مكة » مظهراً لعداوته ، فلما فتح اللَّه « مكة » ، هَرَبَ إِلى « الطائف » ، فلما أسلم أهْلُ الطائف ، خرج هارباً إِلى الشام ، يريد قَيْصَرَ مستنصراً به عَلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى المنافقين من قومه أَن ٱبْنُوا مسجداً ، مقاومةً لمسجد « قُبَاء » ، وتحقيراً له ، فإِني سآتي بِجَيْشٍ من الرومِ ، أُخْرِجُ به محمَّداً ، وأصحابه من « المدينة » ، فبَنُوهُ وقالوا : سيأتي أبو عامرٍ ويصلي فيه ، فذلك قوله : { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعني : أبا عامر ، وَقَوْلَهُمْ : سيأتي أبو عامر ، وقوله : { ضِرَارًا } أي : داعيةً للتضارُرِ من جماعتين . وقوله : { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } : يريدُ : تفريقاً بين الجماعة التي كانَتْ تصلِّي في مسجد « قباء » ، فإن مَنْ جاور مَسْجدهم كانوا يَصْرِفُونه إليه ، وذلك داعيةٌ إلى صرفه عن الإِيمان ، وقيل : أراد بقوله : { بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } جماعةَ مسجدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وروي : أنَّ مسجد الضِّرار ، لَمَّا هدم وأُحرِق ، ٱتُخِذَ مزبَلَةً تُرْمَىٰ فيه الأقذار والقِمَامَات ، وروي : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما نزلَتْ : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } كَانَ لا يمرُّ بالطريق التي هو فيها . وقوله : { لَّمَسْجِدٌ } : قيل : إن اللام لام قسمٍ ، وقيل : هي لام ابتداء ، كما تقول : لَزَيدٌ أَحْسَنُ النَّاسِ فِعْلاً وهي مقتضية تأكيداً ، وذهب ابن عباس وفرقةٌ من الصحابة والتَّابعين إلى أنَّ المراد بـــ « مسجد أسس على التقوى » : مسجد « قباء » وروي عن ابن عمر وأبي سعيد وزَيْد بنِ ثابت ؛ أنه مسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويليق القولُ الأول بالقصَّة إِلاَّ أن القولَ الثانيَ مرويٌّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا نَظَرَ مع الحديثِ ، قال ابنُ العَرَبي في « أحكامه » : وقد رَوَى ابْنُ وهْبٍ وأشهبُ ، عن مالكٍ ؛ أن المراد بـــ « مسجد أُسس على التقوَىٰ » : مسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال اللَّه تباركَ وتعالَى : { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } [ الجمعة : 11 ] وكذلك روى عنه ابن القاسم ، وقد روى الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ ، قال : تَمَارَىٰ رَجُلاَن في المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ : هُوَ مَسْجِدُ « قُبَاء » ، وَقَالَ الآخَرُ : هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « هُوَ مَسْجِدِي هَذَا » . قَالَ أبو عيسَىٰ : هذا حديثٌ صحيحٌ ، وخرَّجه مسلم انتهى . ومعنى : { أَن تَقُومَ فِيهِ } : أي : بصلاتك وعبادتك . وقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } ٱخْتُلِفَ في الضمير أيضاً ، هل يعودُ على مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو على مسجد « قُبَاءَ » ؟ روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بالطُّهُورِ ، فَمَاذَا تَفْعَلُونَ ؟ » قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ اليَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالمَاءِ يُرِيدُونَ ٱلاسْتِنْجَاءَ ، فَفَعَلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ ، لَمْ نَدَعْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « فَلاَ تَدَعُوهُ إِذَنْ " . والبنيانُ الذي أُسِّس على شفا جُرُفٍ : هو مسجدُ الضِّرار ؛ بإِجماع ، و « الشَّفَا » : الحاشية والشَّفيرُ ، و { هَارٍ } : معناه مُتهدِّمٌ بالٍ ، وهو من : هَارَ يَهُورُ ؛ البخاريُّ : هَارَ هَائِرٌ تَهَوَّرَتِ البِئْرُ ، إِذا تهدَّمت وَٱنْهَارَتْ مثله . انتهى . وتأسيسُ البناء علَى تقوَىٰ ؛ إِنما هو بحُسْن النية فيه وقَصْدِ وجه اللَّه تعالى ، وإِظهارِ شرعه ؛ كما صنع في مَسْجِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وفي مسجدِ « قُبَاء » ، والتأسيسُ على شفا جُرُفٍ هَارٍ إِنما هو بفسَاد النيَّة وقصدِ الرياءِ ، والتفريقِ بَيْنَ المؤمنين ، فهذه تشبيهاتٌ صحيحةٌ بارعةٌ . وقوله سبحانه : { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } : الظاهر منه أَنَّه خارجٌ مَخْرَجَ المَثَلِ ، وقيل : بل ذلك حقيقة ، وأن ذلك المَسْجِدَ بعينه ٱنهار في نَارِ جَهَنَّم ؛ قاله قتادةُ وابْنُ جُرَيْج ، وروي عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وغيره ؛ أنه قال : رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ منه علَى عهد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وروي في بَعْضِ الكُتُبِ ؛ أنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَآهُ حين ٱنْهَارَ بَلَغَ الأَرض السابعة ، فَفَزِعَ لذلك صلى الله عليه وسلم ، وروي أنهم لم يُصلُّوا فيه أكْثَرَ من ثلاثةِ أيامٍ ، وهذا كلُّه بإِسناد لَيِّنٍ ، واللَّه أعلم ، وأسند الطبريُّ عن خلفِ بْنِ ياسِين ، أنه قَالَ : رَأَيْتُ مسْجِدَ المنافقينَ الذي ذَكَرَه اللَّه في القرآن ، فَرَأَيْتُ فيه مكاناً يخرجُ منه الدُّخَان وذلك في زَمَن أبي جَعْفَرٍ المنصورِ ، وروي شبيه بهذا أو نحوه عَن ٱبْنَ جُرَيْج : أسنده الطبري . قال ابن العربيِّ في « أحكامه » وفي قوله تعالَى : { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } ، مع قوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 9 ] إِشَارَةٌ إِلَى أَن النار تَحْتُ ؛ كما أن الجَنَّةَ فَوْقُ . انتهى . والرِّيبة : الشَّكُّ ، وقد يُسَمَّىٰ ريبةً فسادُ المعتقدِ ، ومعنى الرِّيبةِ ، في هذه الآية : أمرٌ يعمُّ الغيظَ والحَنَقَ ، ويعمُّ ٱعتقادَ صَوَابِ فعْلهم ونحو هذا ممَّا يُؤدِّي كلُّه إِلى ٱلارتياب في الإِسلامِ ، فمقصدُ الكلام : لا يَزَالُ هذا البنيانُ الذي هُدِّم لهم ، يُبْقِي في قلوبهم حَزَازَةً وأَثَرَ سُوءٍ ، وبالشكِّ فسَّر ابن عباس الريبةَ هنا . وبالجملة إِن الريبة هنا تعمُّ معانيَ كثيرةً يأخذ كلُّ منافق منها بحَسَب قَدْره من النِّفاق . وقوله : « أَلا أَنْ تُقطَّع قلوبهم » - بضم التاء - يعني : بالموت ، قاله ابن عباس وغيره وفي مُصْحَف أُبَيٍّ : « حَتَّى المَمَاتِ » ، وفيه : « حَتَّى تُقَطَّع » .