Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 2-2)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قولُه تعالى : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } . الحمدُ : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعْمةً مْبْتدأة إلَى أَحَدٍ أَمْ لاَ . يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به ، وحمدتُه على شَجَاعته ، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ ، دون عمل الجَوَارِح ، إذْ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً ، بخلاف الشكر ؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير . يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني ، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه ، ويكون بالقلبِ ، واللِّسَانِ ، والجَوَارح ؛ قال الله تعالى : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] وقال الشاعرُ : [ الطويل ] . @ 37 - أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا @@ فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه . وقيل : الحمدُ هو الشكر ؛ بدليلِ قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ شُكْراً " . وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق . والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ . وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [ بأوصافِه ، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعَاله ] فالحامِدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة . وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِنْ كان منقولاً عن ثَعْلَب ؛ لأنَّ المقلوبَ أقلُّ اسْتِعْمالاً من المقلوب منه ، وهذان مُسْتَوِيَان في الاستعمالِ ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْس ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيْن . وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْد ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال : مَدَحْتُه ، ولو كان مَقْلُوباً لما امتنع ذلك . ولقائلٍ : أَنْ يَقُولَ : منع من ذلك مانِعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك . وقال الرَّاغِبُ : " الحَمْدُ لله " : الثناءُ بالفَضِيلَةِ ، وهو أخصُّ من المدحِ ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه ، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار ، فقد يُمْدَح الإنسان بطول قَامَتِهِ ، وصَبَاحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ . قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى - : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه : أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلْحَيِّ ، ولغيرِ الحَيِّ ? أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ ، فإنه يَمْدَحُها ؟ فثبت أَنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ . الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ ، وقد يكونُ بعدَه ، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان . الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه ؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ : " احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ " أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ " الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل . وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدّالُّ على كونه مُخْتَصًّا بِفَضِيلة مُعَيَّنَةٍ ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان ، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ . وأَمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكْرِ ، فهو أَنَّ الحمدَ يَعُمُّ إذا وَصَلَ ذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك ، وأما الشُّكْرُ ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك . وقال الرَّاغِبُ - رحمه الله - : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة ، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً ، وكل حمد مَدْحٌ ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً . ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد ، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً ، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ . واحمدُ أَيْ : أَنَّه يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ . والألفُ : واللام في " الحَمْد " قِيل : للاستغراقِ . وقيل : لتعريفِ الجِنْس ، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 38 - … إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ @@ وقيل : للعَهْدِ ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ ، ولم يُبَيّنْ وجهةَ ذلك ، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ ، لا الإخبار به ، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه ، بخلاف كونها للجِنْسِ . والأصلُ في " الحَمْدِ " المصدريةُّ ؛ فلذلك لا يُثَنَّى ، ولا يُجْمَعُ . وحكى ابنُ الأَعْرَابِيِّ جَمْعَهُ على " أَفْعُل " ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 39 - وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي @@ وقرأ الجُمْهُورُ : " الحَمْدُ لِلَّه " برفْعِ الدّال وكسرِ لاَمِ الجَرِّ ، ورفعُهُ على الابتداءِ ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة . ثم ذلك المحذوفُ إنْ شئتَ قَدَّرْتَهُ [ اسْماً ، وهو المُخْتارُ ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَهُ ] فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله ، واسْتَقَرَّ لِلَّه . والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيّنُ في بَعْضِ الصورِ ، فلا أَقَلَّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها ، وذلك أنّك إذا قُلْتَ : " خرجتُ فإِذَا في الدَّار زَيْدٌ " و " أمَّا في الدارِ فَزَيْدٌ " يتعيّنُ في هاتَيْن الصُّورَتَيْنِ [ أن يقدر بالاسم ] ؛ لأَنَّ " إذا " الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيلِيَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأُ . وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعض الصُّورِ ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ ، نحو : الَّذِي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره ؟ والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ ، أَو الخبر ، وليس أَجْنَبِيًّا ، فكان اعتباره أَوْلَى ، بخلاف وقوعه صِلةً ، [ والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ ] . ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ - ها هنا - لعُمُومِ فائدتها ، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً ، أو حالاً ، أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر : [ الطويل ] @ 40 - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ ، وَإِنْ يَهُنْ فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ @@ وأما قولُه تبارك وتَعَالى : { فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يقصدْ جعل الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلّقَ به ، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرُه باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعْلاً . واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة ؟ فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ ، [ وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ ] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين . وقُرِىءَ شَاذًّا بنصب الدالِ من " الحَمْد " ، وفيه وجهان : أظهرُهُما : أنه منصوبٌ على المصدريَّةِ ، ثم حُذِف العاملُ ، ونابَ المصدرُ مَنَابه ؛ كقولِهِم في الأخبار : " حمداً ، وشكراً لا كُفْراً " والتقدير : " أَحمد الله حمداً " ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ . وقال الطَّبَرِيُّ - رحمه الله تعالى - : " إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه ، فكأَنَّه قال : " قولوا : الحَمْد للهِ " وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إِيَّاكَ " . فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيًّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً ، ولا يجوزُ إظهار الناصب ، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه . والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ ، أَي : اقْرَءُوا الحَمْدَ ، أَو اتْلُوا الحَمْدَ ؛ كقولهم : " اللَّهُمَّ ضَبُعاً وَذِئْباً " ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً ، والأوّلُ أَحْسَنُ ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ . وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب ، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ ، بخلافِ النَّصْبِ ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله - : إن جوابَ إِبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه : { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة : { قَالُواْ سَلاَماً } [ هود : 69 ] امتثالاً لقولِه تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ لنساء : 86 ] . و " لله " على قراءةِ النصبِ يتعلّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ ، لأنَّها للبيانِ ، تقديرهُ : أَعْنِي لله ، كقولِهم : " سُقْياً له ورَعياً لك " تقديرُه : " أَعْنِي له ولك " ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً ، ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ ؛ لأنَّ " لَهُمْ " لا يتعلّقُ بـ " تَعْساً " كما مَرَّ . ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في " سُقياً لك " ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل ؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده . وقُرِىءَ : - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال ، ووجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده ، وهي لُغَةُ " تَمِيم " ، وبَعْضِ " غَطَفَان " ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني ؛ للتَّجَانُسِ . ومنه : [ الطويل ] @ 41 - … اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ @@ بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ ، ومثلُه : [ البسيط ] @ 42 - وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ @@ الأصل : وَيْلٌ لأُمِّهَا ، فحذفَ اللاَّمَ الأُولَى ، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها ، وحذَفَ الهَمْزَةَ ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ ، فصار اللفظ : " وَيْلِمِّهَا " . ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ ، فيقول : " وَيْلُمِّهَا " بِضَمِّ اللاَّمِ ، قال : [ البسيط ] @ 43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ @@ ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ ، لأنَّ الإعرابَ مُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ . وقرىء أيضاً : " لُلَّهِ " بضم لاَمِ الجَرِّ ، قَالُو : وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ ، وهي لغةُ بَعْضِ " قَيْس " ، يُتْبِعُون الثانِي نحو : " مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ " بضم الدَّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرىء : { مُرُدفين } [ الأنفال : 9 ] بِضَمِّ الراءِ ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ . فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في " الحَمْدُ لِلَّهِ " . ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ : الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي : المُلْكُ : المالُ لِزَيْدٍ . والاستحقاقُ : الجُل لِلْفَرَسِ . والتَّمْلِيكُ : نحو : وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ الشورى : 11 ] لتسكنوا إليها . والنسب : نحو : لِزَيْدٍ عَمٌّ . والتعليلُ : نحو : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [ النساء : 105 ] ، والتبليغُ : نحو : قُلْتُ لَكَ . والتبليغُ : نحو قلتُ لك . وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 44 - لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ @@ والتَّبْيِينُ نحو قولِه تَعَالَى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] . والصيرورةُ : نحو قولِهِ تَعَالَى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى " فِي " : كقوله تعالى : { وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } [ الأنبياء : 47 ] ، أَوْ بِمَعْنَى " عِنْدَ " : كقولِهم : " كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ " ، أيْ : عِنْدَ خَمْسٍ ، أَوْ بِمَعْنَى " بَعْدَ " : كقوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أيْ : بَعْدَ دُلُوكها . والانتهاءُ : كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُّسَمًّـى } [ الرعد : 2 ] . والاستعلاءُ : نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] . وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه ؛ كقولِه تَعَالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، [ وإذا ] كان العامِلُ فرعاً ، نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] . وَبِغَيْرِ اطرادٍ ؛ نحو قوله في ذلك البيت : [ الوافر ] @ 45 - فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا @@ وأما قولُه تَعَالَى : { عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، فقِيل : على التَّضْمِينِ ، وقِيلَ : هي زَائِدَةٌ . ومن الناسِ مَنْ قال : تقديرُ الكَلام : قُولُوا : الحمد لله . قال ابنُ الخَطِيب : - رحمه الله تعالى - : وهذا عندي ضعيفٌ ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصَار إليه ليصحّ الكلامُ ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكَلام ، والدليل عليه : أن قوله - تعالى - " الحَمْدُ لِلَّهِ " إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقًّا [ لله تعالى ] وملَكاً له ، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه ، فلا حاجةَ إلى الإضمار . وأيضاً فإن قولَه : " الحمد لله " يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته ، وبحسبِ أَفْعالِه ، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه . قال ابنُ الخَطِيب : - رحمه الله تعالى - : " الحَمْدُ لِلَّه ثمانيةُ أَحْرُفٍ ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [ أبواب ] ، فمن قال : " الحمد لله " بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية " والله أعلم . فَصْلٌ تمسّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى : " الحمدُ لِلَّهِ " أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه : الأولُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ أشْرَفَ وأَكْمَل ، وكانت النعمةُ الصادِرَةُ عنه أَعْلَى وأفضل ، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ ، فلو كان الإيمانُ فِعْلاً للعبد ، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له ، ولما لم يكنْ كذلك ، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ . الثاني : أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ على نعمةِ الإيمانِ " ، فلو كان العَبْدُ فاعلاً للإيمانِ لَكَان قولُهم : " الحمد للَّه على نعمة الإيمان " ؛ باطلاً ، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لا يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ ؛ لقوله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] . الثالثُ : أَن قوله تعالى : " الحمدُ للهِ " يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله ، وانه لَيْسَ لِغَيْر الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً ، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى ، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم ، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى . الرابعُ : أَن قولَهُ : " الحَمد لله " مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بين الخَلْقِ ، فلما بدأ كتابَهُ بمدحِ النفْسِ ، دَلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ . الخامسُ : عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً ، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ ، وإلا كان عبثاً ، وذلك في حقه تعالى محالٌ ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [ أن تَكُونَ ] واجِبةً ، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ . أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب ، والعوض إلى المُكَلَّفِين . وأما الذي يكونُ من باب التفضل ، فهو مثلُ أنَّه يزيد على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ . فنقولُ : هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد ، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا : الحمدُ لله . وتقريرهُ أن نقولَ : أما أداء الواجِباتِ ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارٍ ، فأدّاه ، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً ، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [ له ] عن الذَّمِّ ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد . وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزِيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ ، لما حَصَل له الحمدُ ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح . السَّادسُ : قولُه : الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ ، فنقولُ : استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْراً ثابتاً لذاته ، فإنْ كان الأوّل ، امتنَع ثُبوتُه لغيره ، فامتنع - أيضاً - أنْ يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم ؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه ، فوجب أَلاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوَابِ ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة . وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول : فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُسْتكملاً بغيره ، وذلك على الله - تعالى - محالٌ . أما قول المعتزلة : إنَّ قَوْلَهُ : " الحَمْدُ لِلَّهِ " لا يتم إلاَّ على قولِنَا ؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطْلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ ، ولا جَوْرَ في قَضِيَّتِهِ ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ ? وعندنا أنَّ الله - تعالى - كذلك ؛ فكان مُسْتَحِقًّا لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح . أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه ، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه ، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه ؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر ، ثم يعذبُه عليه ، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا ، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد ؟ وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسبب الإلهيَّة ؛ إِمَّا أن يستحِقَّهُ على العبدِ ، أَوْ عَلَى نفسه ، فإن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ . وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ ؛ وذلكَ بَاطِلٌ ، قالوا : فثبت أَنَّ القولَ بالحَمْدِ لا يصحُّ إلا على قولنا . فَصْل هل وجوب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع ؟ اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ . مِنَ الناس مَنْ قال : إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ ، لقوله تبارك وتعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولقوله تبارك وتعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] . ومِنْهم مَنْ قال : إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع ، وبعد مجيئه على الإطلاقِ ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى : " الحَمدُ لِلَّهِ " وبيانه من وجوه : الأولُ : أَن قولَه تعالى : " الحمدُ لله " يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ ، وملكُه على الإطْلاَقِ ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع . الثاني : أنه تعالى قال : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ؛ وقد ثَبَتَ في [ أصُول ] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلَّلاً بذلك الوصف ، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه ، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمِينَ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم ، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات ، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي ، أو بعده . فصل قال ابنُ الخَطيب - رحمه الله تعالى - : تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا : الحمدُ لِلَّهِ ؛ لأن قوْلنا : " الحمد للَّه " إخبارٌ عن حُصُولِ الحَمْد ، والإخبارُ عَن الشيءِ مغايرٌ للخَبَرِ عنه ، فنقولُ : حَمْدُ المنعم عبارةٌ عن كُلِّ فِعْلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعماً ، وذلك الفعل : إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ ، أو فعل اللّسَانِ ، أوْ فِعل الجوارح . أمَّا فعلُ القلبِ : فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُوفاً بصفات الكمال والإجْلاَل . وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [ والإجلال ] . [ وأما فعل الجوارح ؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال ] . واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً : فمنهم مَنْ قال : إنه لا يجوزُ عقلاً أنُ يأمرَ الله عَبِيدَه بأن يَحْمَدُوه ، واحتجوا عليه بوجوه : الأولُ : أن ذلك التحميدَ ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم ، أَوْ لا بِنَاءَ عليه ، فالأول باطِلٌ ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً ، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم ، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة . وأما الثاني : فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً ، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ . الثاني : قالُوا : إِنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ ، والكامل [ لذاته ] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره ، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً . الثالثُ : أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ : أنه لَوْ لم يفعلْ لاسْتَحَقَّ العذابَ ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ ، لَعَاقَبْتُكَ ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى ، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ ، ولو تركته [ لعاقبتك ] أَبَدَ الآبادِ ، وهذا لا يَلِيقُ بالحَلِيم الكريم . والفريقُ الثاني : قَالُوا : الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه : الأولُ : أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ . والثاني : أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى إلاَّ مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ . والثالثُ : أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعمةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه ؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم ، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده ، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ ، وحظُّ النَّفسِ ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ . وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّم وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها ، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى : { وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] ، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وغَيْرِه . فإن قِيل : إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة ، قُلْنَا : نُسلِّمُ ، ولكنه قد سمى نفسه به ، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به . وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع ، فقال اللهُ تعالى : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] . قولُه تَعَالَى : { رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ } . الرَّبُّ : لُغَةً : السيدُ ، والمَالِكُ ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ ؛ ومنه قولُه : [ الطويل ] @ 46 - أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ @@ والمُصْلِحُ ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى : الصّاحبِ ؛ وأنشد القائل : [ الكامل ] @ 47 - قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ @@ والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك ، فليس هو معنى زائداً . وقيل : يكون بمعنى الخَالِقِ . واختُلِفَ فيه : هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر ؟ فمنهم من قال : [ هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى " مُرَبٍّ " ] ، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه . [ فمنهم من قال ] : هو على " فَعِل " كقولك : " نَمَّ - يَنُمَّ - فهو نَمٌّ " من النّمام ، بمعنى غَمّاز . وقيل : وزنه " فَاعِل " ، وأصلُه : " رَابٌّ " ، ثم حُذِفت الألفُ ؛ لكثرةِ الاستعمالِ ؛ لقولِهم : رَجَلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ . ولقائلٍ أنْ يقولَ : لا نسلم أن " بَرّ " مأخوذ من " بَارّ " بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ " ربًّا " أصله " رابٌّ " . ومنهم مَنْ : قال إنه مَصْدرٌ " رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبًّا " أي : مَلَكَهُ . قال : " لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ " . فهو مصدر في معنى الفاعل نحو : " رجل عَدْل وصَوْم " . ولا يُطْلقُ على غَيْر الباري - تعالى - إلاّ بقيد إضافةٍ ، نحو قوله تعالى : { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : " هو رَبُّ الدَّارِ ، ورَبُّ البَعِير " ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ : [ الخفيف ] @ 48 - وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ @@ وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ . وقرأ الجمهورُ : " رَبِّ " مجروراً على النعتِ " لله " ، أو البَدَلِ منه . وقرِىءَ مَنْصُوباً ، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ : إِمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ ، تقدِيرُه : " أحمد ربَّ العالمين " . أو على القطع من التبعية ، أو على النِّدَاءِ وهذا أضعفُهَا ، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف . وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية ، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ ، أيْ : " هُوَ رَبُّ " وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ ، لِعُمومِ فَائِدَتِه فنقول : اعلمْ أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته ، وكان الوصفُ مَدْحاً ، أو ذماً ، أو ترحُّماً - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ . والقطعُ : إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ ، ولا هذا المبتدإِ ، نحو قولِهم : " الحَمْدُ لله أَهْلَ الحَمْدِ " رُوِيَ بنصبِ " أَهْل " ورفعِه ، أيْ : أعني أَهْلَ ، أو هو أَهلُ الحمدِ . وإِذا تكررتِ النُّعُوتُ ، والحالةُ هذه ، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه : إما إتباعُ الجَميعِ ، أو قَطْعُ الجَمِيع ، أوْ قَطْعُ البَعْضِ ، وإتباعُ البَعْضِ . إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ ، نحو : " مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ " ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ . و " العَالَمِينَ " خَفْضٌ بالإضافَةِ ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ ، وهم اسْمُ جَمْعٍ ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه ، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً لـ " عَالَمٍ " ؛ لأن الصحيح في " عَالَمِ " أن يُطْلَق على كل موجودٍ سوى الباري تَعَالى ، لاشتقاقه من العَلاَمةِ ، بمعنى أنه دالّ على صانِعهِ . و " عَالَمُون " بصيغة الجمع لا يُطْلق إلا على العُقلاءِ دون غيرهم ، فاستحال أن يكون " عالمون " جمع " عَالَم " ؛ لأنَّ الجمعَ لا يكونُ أخَصَّ مِنَ المُفْرَدِ . وهذا نظيرُ ما فعله سِيْبَويَه - رحمه الله تعالى - في أنَّ " أعراباً " لَيْسَ جَمْعاً لـ " عَرَب " ؛ لأنَّ " عرباً " يُطْلَقُ على البَدَوِيِّ دُونَ القروِيّ . فإن قِيلَ : لِمَ لاَ يَجُوزُ أَنِ يكونَ " عَالَمُونَ " جَمْعاً لـ " عَالَم " مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره ، فيزولَ المحذُورُ المذكور ؟ وأُجِيبَ عنه : بأنه لَوْ جاز ذلك ، لَجَازَ أَنْ يُقالَ : " شَيْئُون " جَمْعُ " شَيْءٍ " مُرَاداً به العاقل دون غيره ، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك . وفي الجواب نَظَرٌ ، إذْ لِقائل أنْ يقول : " شيئون " منع منه مانِعٌ آخرُ ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً ، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عَالَمِين " مراداً به العاقل . ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ " عَالَمِين " إنما جمع هذا الجمع ؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ . وقال الراغِبُ أيضاً : " إنَّ العَالَم في الأصل اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ " وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه . وقال الرَّاغِبُ : " وأما جمعُه جَمْعَ السَّلامَةِ ، فلكون الناس في جُمْلَتِهم ، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللّفظِ غَلَبَ حُكْمُه " ، فظاهر هذا أَنَّ " العَالَمِين " يطلق على العُقَلاء وغَيْرِهم ، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء ، كما زعم بعضُهم ، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ . فصل في وجوه تربية الله لعبده قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى - : " وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، ونحن نذكر منها أمثله : الأولُ : لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً ، ثم مُضْغَةً ثانيةً ، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ ، مثلُ العِظَامِ ، والغَضَارِيفِ ، والرّبَاطَاتِ ، والأَوْتَارِ ، والأوردَةِ ، والشرايِين ، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ ، ثُمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى ، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ ? والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ " ! . والثَّاني : أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض ، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها ، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها ، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب . أما الشق الأعلى ، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً ، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ ، واللطافة ، وهي القُشُور ، واللّبوبُ ، ثم الأدهان . وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة ، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ، ومع غايةِ لُطْفِها ، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة ، وأودع فيها قُوًى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها ، والحكمةُ في كُلّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ ، والإدام ، والفواكه ، والأشربةِ ، والأدْوِيَةِ ؛ كما قال تعالى : { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } [ عبس : 25 - 26 ] . فَصْلٌ اختلفوا في { ٱلْعَالَمِينَ } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " هُمُ الجنُّ والإِنْسُ ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ " ؛ قال الله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . وقال قتادةُ : والحَسَنُ ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم - : " جميعُ المخلوقِينَ " ؛ قال تبارك وتعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [ الشعراء : 23 - 24 ] . واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ ، سُمُّوا بذلك ؛ لِظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم . قال أَبُو عُبَيد - رحمه الله تعالى - : هم أرْبَعُ أُمَمٍ : الملائكةُ ، والإنسُ ، والجِنُّ ، والشَّيَاطِينُ ، مُشْتَقٌّ من العلم ، ولا يُقَال للبهائِمِ ؛ لأنها لا تَعْقِلُ . واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم . قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب - رضي الله عنه - : " لِلَّه ألْفُ عَالَمٍ : سِتُّمائةٍ في البَحْرِ ، وأربعمائة في البرِ " . وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان - رضي الله عنه - : " ثَمانُونَ أَلْفاً ، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ ، وأربعونَ ألفاً في البَرِّ " . وقال وَهْبٌ - رضي الله عنه - : " لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ ، الدّنيا عَالَمٌ منها ، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسْطاطٍ في صَحْرَاء " . وقال كَعْبُ الأحبارِ - رضي الله عنه - : " لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عز وجل - " ؛ قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] .