Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 7-7)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قولُه تَعَالَى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } . " صِرَاطَ الذِيْنَ " بدل منه ، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ . والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها : بدلُ كُلّ من كُلّ ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ ، وبدلُ اشْتِمَالٍ ، وبدلُ غَلَطٍ ، وبدل نِسْيَان ، وبدل بَدَاء ، وبدل كُلّ من بعض . أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ ، فلا خلافَ فِيها . وأما بدلُ البدَاء ، فأثبته بعضُهم ؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة ، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ " ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ . وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ ، فأثبتهما بعضُهم ؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ : [ البسيط ] @ 75 - لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ @@ قال : لأنَّ " الحُوّة " السّوادُ الخالِصُ ، و " اللَّعَسُ " سواد يشوبه حُمْرَة ، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ . وأما بدل الكُلّ من البعض ، فأثبته بعضهُم ، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله : [ الخفيف ] @ 76 - نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ @@ في رواية مَنْ نَصَبَ " طَلْحَةَ " ، قال : لأنَّ " الأَعْظُمَ " بعضُ " طَلْحَةَ " ، و " طَلْحَةَ " كُلّ وقد أُبْدِلَ منها ؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [ الطويل ] @ 77 - كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ @@ فـ " غَدَاةَ " بعضُ " اليوم " ، وقد أُبْدِلَ " اليوم " منها . ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ ، أما الأولُ : فإنَّ الأَصْلَ " أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة " ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه ؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ " طَلْحَةَ " على أنَّ الأصل : " أعظم طلحة " ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف . وأما الثاني : فإنَّ " اليَوْمَ " يُطلقُ على القطعةِ من الزمان ، كما تقدّم ، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن . وقيل : " الصراط " الثاني غير الأول ، والمرادُ به : العلمُ بالله تعالى . قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رحمه الله تعالى : وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ . والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى : بدل مَعرفةٍ ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ . ويَنْقَسمُ أيضاً إلى : بدل ظاهِر من ظاهرٍ : ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ ، وظاهرٍ مِنْ مضمر ، ومضمرٍ من ظاهر . وفائدةُ البَدلِ : الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى ، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل . و " الذين " في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة ، وهو اسمُ موصولٍ ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ ، وهو جمع " الذي " في المعنى ، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ ، رفعاً ، ونصباً ، وجرًّا ؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم ؛ ومنه : [ الرجز ] @ 78 - نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا يَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا @@ وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 79 - وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ @@ ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ ، [ ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم ، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم ] وغيرهم . و " أَنْعَمْتَ " : فِعْلٌ ، وفاعلٌ ، صِلَة المَوْصُولِ . والتاء في " أنعمتَ " ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل . و " عليهم " جار ومجرور متعلّق بـ " أنعمتَ " ، والضميرُ هو العائدُ ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء ، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ . والهمزةُ في " أنعمتَ " ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه ، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه ، ولكن ضُمِّنَ معنى " تَفَضَّلَ " فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ . وقرأ عمر بنُ الخَطّابِ ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - " صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ " . ولـ " أَفْعَلَ " أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى ، تقدّمَ وَاحِدٌ . والتعدِيَةُ ؛ نحو : " أَخْرَجتُه " . والكثرةُ ؛ نحو : " أَظْبَى المَكَانُ " أَيْ : " كَثُرَ ظِبَاؤُه " . والصَّيرورةُ ؛ نحو : " أَغَدَّ البَعِيرُ " صار ذا غُدّة . والإعانة ؛ نحو : " أَحْلَبْتُ فُلاَناً " أي : أعنتُه على الحَلْبِ . والتَّشْكِيَةُ ؛ نحو : " أَشكيتُه " أي : أزلتُ شِكَايَتَهُ . والتَّعرِيضُ ؛ نحو : " أبعتُ المبتاعَ " ، أي : عرضتُه للبيع . وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه ؛ نحو : " أحمدتُه " أي : وجدتُه محموداً . وبلوغُ عَدَدٍ ؛ نحو : " أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ " ، أي : بلغتِ العَشَرَة . أو بلوغُ زَمانٍ ؛ نحو " أصبح " ، أو مَكَانٍ ؛ نحو " أَشْأَمَ " . وموافقَةُ الثّلاثي ؛ نحو : " أحزتُ المكانَ " بمعنى : حُزْتُهُ . أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي ؛ نحو : " أَرْقَلَ البعيرُ " . ومطاوعةُ " فَعَلَ " ؛ نحو قَشَع الريح ، فَأَقْشَع السّحابُ . ومطاوعَةُ " فَعَّلَ " ؛ نحو : " فَطَّرْتُه ، فَأَفْطَرَ " . ونَفْيُ الغريزَةِ ؛ نحو : " أسرع " . والتَّسميةُ ؛ نحو : " أخطأتهُ " ، أَيْ : سَمَّيْتُه مخْطِئاً . والدعاءُ ؛ نحو : " أسقيتُه " ، أَي : قلتُ له : سَقَاكَ الله تعالى . والاستحقاقُ ؛ نحو " أَحْصَدَ الزرعُ " ، أَيْ : استحقَّ الحصادَ . والوصولُ ؛ نحوه : " أَعْقَلْتُهُ " ، أَيْ : وَصَّلْتُ عقلي إليه . والاستقبالُ نحو : " أَفَفْتُه " ، أَي : استقبلتُه بقول : أُفٍّ . والمجيءُ بالشيء ؛ نحو : " أكثرتُ " أَيْ : جئتُ بالكثير . والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل ، نحو : أَشْرَقَتِ الشَّمسُ : أضاءتْ ، وشَرَقَتْ : طَلَعَتْ . والهجومُ ؛ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم ، أيْ : اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ . و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً ؛ نحو : عليه دَيْنٌ : ولها معانٍ أُخَرُ ، منها : المُجَاوزة ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 80 - إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا @@ أيْ : عَنِّي . وبمعنى " الباءِ " { حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] ، أي : بأَنْ ، وبمعنى " فِي " ؛ { ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ } [ البقرة : 102 ] أيْ : فِي [ مُلْكِ ] ، { ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } [ البقرة : 177 ] . والتعليلُ : { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم . وبمعنى " مِن " : { حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] ، أيْ : إلاّ مِنْ أَزواجهم . والزيادة كقوله : [ الطويل ] @ 81 - أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ @@ لأنَّ " تُروقُ " يتعدى بنفسِه ، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر . وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ ، والاسْمِيَّةِ ؛ فتكون اسماً في موضعين : أحدهُما : أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ] @ 82 - غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ @@ ومعناها " فَوْق " ، أيْ : من فوقه . والثاني : أنْ يؤدي جعلُه حرفاً ، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها ؛ ومن ذلك قوله : [ المتقارب ] @ 83 - هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا @@ ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن " عَنْ " ، وستأتي إنْ شاء الله تعالى . وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددةٌ بين الاسم ، والفِعْلِ ، والحرفِ . أما الاسمُ والحرفُ ، فقد تقدما . وأما الفعلُ : قال : فإنك تقولُ : " عَلاَ زيدٌ " أي : ارتفع . وفي هذا نَظَرٌ ؛ لأن " عَلاَ " إذا كان فِعْلاً ، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً ، فلا اشتقاقَ له ، فليس هو ذَاكَ ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ ، [ بقولهم : إنَّ " خَلاَ " ، " وَعَدا " مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر ] . والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة ، أو كسرةٌ ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين ؛ نحو : عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ . والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك ، والكسرُ قبلَ ساكن ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء ، أما إذا ضممتَ ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة ؛ كقوله : " وفِيهُمِ الحكام " بِكَسْرِ المِيمِ . وفي " عَلَيْهِمْ " عشرُ لُغاتٍ : قُرِىءَ بِبَعْضِها : " عَلَيْهُِمْ " بكسر الهاء وضمها ، مع سُكُون الميم . " عَلَيْهِمِي " ، بكسر الهاء ، وزيادة الياء ، وبكسر الميم فقط . " عليهُمُو " بضم الميم ، وزيادة واو ، أو الضم فقط . " عليهِمُو " بِكَسْرِ الهاءِ ، وضم الميمِ ، بزيادة الواو . " عليهُمِي " بِضَمِّ الهاء ، وزيادة ياء بعد الميم . أو الكسر فقط " عليهِمُ " بكسر الهاء ، وضم الميم ، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي . والتفسيرُ ، قال البَغَويُّ - رحمه الله تعالى - : صراط الذين أنعمت عليهم أي : مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق ، وقال عِكْرَمة - رضي الله تعالى عنه - : مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام . وقِيل : على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ } [ النساء : 69 ] وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى ، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام ، قبل أن غيروا دينهم . وقال أَبُو العَالِيَةَ : هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما . وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رضي الله عنه - : هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل بَيْتِهِ . وقرأ حَمْزَةُ " عَلَيْهُمْ " ، و " إلَيْهُمْ " ، و " لَدَيْهُمْ " بضم الهاء . ويضم يَعْقُوب كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً ، إلاّ قولَه تعالى : { بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] . والآخرُونَ : بكسرها . فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل ؛ لأنها مضمومة عند الانفراد . ومَنْ كسرها ، فالأصل الياءُ السَّاكنة ، والياءُ أختُ الكسرة . وضم ابنُ كَثِير ، وأَبُو جَعْفَر كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ ، إذا لم يلقها ساكن ، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع . ونَافِعٌ يُخَيِّرُ ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع . وإذا تلقته ألفُ الوصلِ ، وقبل الهاء كسرٌ ، أو ياءٌ ساكنةٌ ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو ، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله . والآخرون : بضمّ الميم ، وكسرِ الهاء ؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها ، وضمّ الميم على الأصل ، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه - : " صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " . قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى - : اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ : فقال بعضُهم : إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ . [ ومنهم مَنْ يقولُ : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير ] . قالوا : وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [ والحقّ أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ] ، وإنْ كان فعله محظوراً ؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما ؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى ، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك . ولنرجع إلى تفسير الحَدّ : فنقول : أما قَولُنا : " المنفعة " ؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً . وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان ؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه ، نَفْعَ المفعولِ به ، فلا يكون نِعْمَةً ، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ ، ليربَحَ عليها . وها هنا فوائدُ : الفائِدَةُ الأُوْلَى : أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع ، ودفع الضَّرر ، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ : أحدُها : نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا ، نحو : أنْ خَلَق ورَزَقَ . وثانيها : نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى ؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ ، كان ذلك العبدُ مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسِه ، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى . وثالثها : نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى ؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات ، وأعاننا عليها ، وهدانا إليها ، وأَزَاحَ الأعذار عَنا ، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها ، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى . الفائدةُ الثَّانيةُ : اختلفوا [ في أنه ] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ ؟ فقال بعضُ أصحابنا : ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة . وقالت المعتزلةُ : لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية ، ونعمة دنيوية . واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم ، بالقرآن [ الكريم ] ، والمعقول . أما القرآنُ ؛ فقوله تبارك وتعالى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ ، وذلك بَاطِلٌ ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ . فإن قَالُوا : إنَّ قَوْله : { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ . قلنا : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه : { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ؛ فكان التَّقْدِير : " اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ . وقوله تبارك وتعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْماً } [ آل عمران : 178 ] . وأما المَعْقُولُ : فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام ، كالقَطْرة في البحر ، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً ، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً ؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير ، فكذا ههُنا . وأما الَّذِين قالوا : إن لله على الكافر نعمةً ، فقد احتجُّوا بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً } [ البقرة : 21 ، 22 ] ، على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم ، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً ؛ وقولِه تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ ، وشرحِ النعم . وقولِه تعالى : { يَٰبَنِي إِسْرَٰءِِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] . وقولِه تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] . وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] . ولو لم تحصل النعمة ، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة . الفائدة الثالثةُ : قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله - : قوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية : " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم ؛ بقوله تعالى : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } [ النساء : 69 ] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ ، لما جَازَ الاقتداء به ] ، فثبت [ بما ذكرناه دلالة هذه الآية على ] إمامة أبي بكر رضي الله عنه . الفائدة الرابعة : قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا ، أو نعمة الدين ، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين . فنقول : كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان ، فرجع حاصل القول في قوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل ، فيتفرع عليه أحكام : الأول : أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان ، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة ، ثبت أنّ الخالق للإيمان ، والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة ، وكان الإيمان أعظم النعم ، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى ، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم . الحكم الثاني : يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار ؛ لأن قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة ، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم . الحكم الثالث : دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [ الصلاح والأصلح ] في الدين ؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً ، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب . الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه ، وأرشده إليه ، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار ، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام ، مع أن الإقدار ، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل ، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار ، وإزاحة الموانع . قوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } " غير " بدل من " الذين " بدل نكرة من معرفة . وقيل : نعت لـ " الذين " ، وهو مشكل ؛ لأن " غير " نكرة و " الذين " معرفة ، وأجابوا عنه بجوابين : أحدهما : أن " غير " إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين ، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية ، فيتعرف " غير " حينئذ بالإضافة ، تقول : " مررت بالحركة غير السكون " والآية من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج ، وهو مرجوح . والثاني : أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه ، فعومل معاملة النكرات . وقيل : إن " غير " بدل من المضمر المجرور في " عليهم " ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه ، وينوي بالأول الطّرح ؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد ، ألا ترى أن التقدير يصير : " صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم " . و " المغضوب " خفض بالإضافة ، وهو اسم مفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، فـ " عليهم " الأولى منصوبة المَحَلّ ، والثانية مرفوعته ، و " أل " فيه موصولة ، والتقدير : " غير الذين غُضِب عليهم " . والصحيح في " أل " الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ . واعلم أن لفظ " غير " مفرد مذكر أبداً ، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه ، نقول : " قامت غيرك " ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل ، وهو مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة ، وكذلك أخواتها ، أعني نحو : " مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب " . وقد يستثنى بها حملاً على " إلاّ " كما يوصف بـ " إلاّ " حملاً عليها ، وقد يراد بها النفي كـ " لا " ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها ، كما يجوز في " لا " تقول : " أنا زيداً غَيْرُ ضارب " أي : غير ضارب زيداً ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] @ 84 - إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ عَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ @@ تقديره : غير مكفور عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي . لو قلت : " جاء القوم زيداً غير ضارب " ، تزيد : غير ضارب زيداً لم يجز ؛ لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في " لا " . وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً . وقول ثالث : يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ ، فيمتنع فيها ذلك ، وبين ألاّ يكون فيجوز . وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً ، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ . واختلفوا هل يجوز دخول " أل " على " غير وبعض وكل " والصحيح جوازه . قال البغوي - رحمه الله تعالى - : " غير " ها هنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها ، كما يقال : " فلان غير مُحْسن ولا مجمل " ، فإذا كان " غير " بمعنى " لا " ، فلا يجوز العَطْفُ عليها بـ " لا " ؛ لا يجوز في الكلام : " عندي سوى عبد الله ولا زيد " . وقرىء : " غَيْرَ " نصباً ، فقيل : حال من " الَّذِين " وهو ضعيف ؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى : وقيل : من الضمير في " عليهم " . وقيل على الاستثناء المنقطع ، ومنعه الفَرَّاء ؛ قال : لأن " لا " لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي ، كقول الشاعر : [ البسيط ] @ 85 - مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ @@ وأجابوا بأن " لا " صلة زائدة مثلها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الرجز ] @ 86 - فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 87 - وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 88 - أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ @@ فـ " لا " في هذه المواضع كلها صلةٌ . وفي هذا الجواب نظر ؛ لن الفَرَّاء لم يقل : إنها غير زائدة ، وقولهم : إن " لا " زائدة في الآية ، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد ، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا : وجدت " لا " زائدةً من غير تقدّم نفي ، كهذه المواضع المتقدمة . ويحتمل أن تكون " لا " في قوله : " لا البُخْلَ " مفعولاً به لـ " أَبَى " ، ويكون نصب " البُخْلَ " على أنه بدل من " لا " أي : أبى جُودُهُ قَوْلَ لا ، وقول : لا هو البخل ، ويؤيد هذا قوله : " واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ " فجعل " نَعَمْ " فاعل " اسْتَعْجَلَتْ " ، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي ، أي : إلى جود هذا اللَّفظ ، واستعجل به هذا اللفظ . وقيل : إن نصب " غير " بإضمار أعني . ويحكى عن الخليل ، وقدّر بعضهم بعد " غير " محذوفاً قال : التقدير : " غير صِرَاط المَغْضُوب " ، وأطلق هذا التَّقدير ، فلم يقيده بِجَرّ " غير " ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله تعالى : { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف ؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف ، فالأولى أن تكون صفةً لـ " صراط الذين " ، ويجوز أن تكون بدلاً من " الصراط المستقيم " ، أو من " صراط الذين " إلا أنه يلزم منه تكرار البدل ، وفي جوازه نَظَر ، وليس في المَسْألة نقل ، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة ، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني . واعلم أنّه حيث جعلنا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " ، أو إبهام الموصوف ، وجريانه مجرى النكرة ، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ " غير " . و " لا " في قوله تعالى : { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من " غير " لئلا يتوهّم عطف " الضَّالين " على " الذين أنعمت " . وقال الكوفيون : هي بمعنى " غير " وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صرح بـ " غير " كانت للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما . و " الضَّالين " مجرور عطفاً على " المغضوب " ، وقرىء شاذاً " الضَّأَلِّينَ " ، بهمز الألف ؛ وأنشدوا : [ الطويل ] @ 89 - وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْ بَيَاضاً ، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ @@ قال الزَّمَخْشَرِي : " وفعلوا ذلك ، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين " . وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ ؛ قال الشاعر : [ الرجز ] @ 90 - وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ @@ بهمز " العألم " . وقال آخر : [ البسيط ] @ 91 - وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً … @@ بهمز ألف " زَوْرَأَة " ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ ؛ فإنهم قالوا في قراءة ابن ذَكْوَان : " مِنْسَأَتَهُ " بهمز ساكنة : إنّ أصلها ألف ، فقلبت همزة ساكنة . فإن قيل : لم أتى بصلة " الذين " فعلاً ماضياً ؟ قيل : ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة " أل " اسماً ليشمل سائر الأزمان ، وجاء مبنيًّا للمفعول ؛ تحسيناً للفظ ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية ، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطُّف ، وترفّق لطلب الإحسان ، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام . والإنعام : إيصال الإحسان إلَى الغير ، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء ، فلا يقال : أنعم فلان على فَرَسِهِ ، ولا حماره . والغضب : ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه " . وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره . قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : هنا قاعدة كليةٌ ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة ، والفرح ، والسُّرور ، والغضب ، والحَيَاء ، والعُتُوّ ، والتكبر ، والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات . ومثاله : الغضب : فإنّ أول غليان دم القلب ، وغايته : إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [ المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضاً الحَيَاءُ ] له أول وهو انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب . ويقال : فُلاَن غُضبَّة : إذا كان سريع الغَضَبِ . ويقال : غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً . وقيل : الغضب تغيُّر القلب لمكروه . وقيل : إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل ، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ . والضلال : الخَفَاء والغيبوبة . وقيل : الهلاك ، فمن الأول قولهم : ضَلَّ الماءُ في اللبن . [ وقال القائل ] : [ الوافر ] @ 92 - أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ عَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا ؟ @@ " والضَّلضلَة " : حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي . ومن الثاني : { أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضّلال : العُدُول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليل قوله : { فَتُذَكِّرَ } [ البقرة : 282 ] . التفسير : قيل : " المغضوب عليهم " هم اليهود . وقيل : " الضالون " هم النصارى ؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى : { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] ، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] . وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز من دينهم أولى . وقيل : " المغضوب عليهم " : هم : الكُفّار ، و " الضّالون " : هم المنافقون . وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما : " غير المغضوب عليهم " بالبِدْعَةِ ، " والضّالين " عن السُّنَّة . والأَوْلَى أن يحمل " المغضوب عليهم " على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد ؛ لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل . فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : " غير المغضوب عليهم " يدلُّ على أن أحداً من الملائكة ، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين ، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله ؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فَصْلٌ في إضافة الغضب لله قالت المعتزلة : غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم ، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم . وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى - : لما ذكر غضب الله عليهم ، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد . أما لو قلنا : إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك مُحَال . فَصْلٌ قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق : أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } . وأهل البغي والعدوان ، وهم المراد بقوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } . وأهل الجهل في دين الله ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . فإن قيل : لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ ؟ قلنا : لأن كل أحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفِسْق ، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك . قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : ها هنا سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولَّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه ، فهذا العلم إما أن يقال : إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان قديماً فلم خلقه ، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود ، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم ، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [ يعقل ] إقدامه على إيجَادِهِ وتكوينه ؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاًّ للحوادث ، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر ، وتسلسل ، وهو مُحَال . والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد . سؤال آخر وهو أن من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه ، وأن يكون من الضَّالين ، فلما ذكر قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ؟ والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرَّجَاء والخوف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا " ، فقوله : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل ، وقوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } يوجب الخوف الكامل ، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حَدِّ الكمال . سؤال آخر ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضَّالين ؟ فالجواب : أنّ الذين كملت نعم الله - تَعَالَى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقّ لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ ، وهم المغضوب عليهم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [ النساء : 93 ] . وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] . فصل في حروف لم ترد في هذه السورة قالوا : إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف ، وهو الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب ، فالثناء أوّل حروف الثبور . والجيم أوّل حروف جهنم . والخاء : أول حروف الخِزْي . والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق ، والزّقوم والشّقاوة . والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب ، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء . والفاء أول حروف الفراق قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] . قلنا : فائدته أنه - تعالى - وصف جَهَنّم بأن { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذَاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة ، وآمن بها ، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة . القول في " آمين " : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : اللَّهم اسمع واستجب . وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما - : معناه كذلك يكون ، فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ . وقيل : ليس باسم فعل ، بل هو من أسماء البَارِي تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ ، لأنه منادى مفرد معرفة . والثاني : أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ . ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى : أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى ؛ لأنه اسم فعل ، وهو توجيه حسن نقله صاحب " المُغْرِب " . وفي " آمين " لغتان : المَدّ ، والقَصْر ، فمن الأول قول القائل : [ البسيط ] @ 93 - آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا @@ وقال الآخر : [ البسيط ] @ 94 - يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداً وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ : آمِينَا @@ ومن الثاني قوله : [ الطويل ] @ 95 - تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُ أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا @@ وقيل : الممدود : اسم أَعْجَمِيّ ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيل وهَابِيل . وهل يجوز تشديد الميم ؟ المشهور أنه خطأ ، نقله الجَوْهَرِيّ - رحمه الله تعالى - ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ ، من أمَّ : إذا قصد ، أي : نحن قاصدون نحوك . ومنه : { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] . وقيل : معناه : هو طابع الدعاء . وقيل : هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ ، وظهور ما فيه . وقال النَّووي - رحمه الله تعالى - في " التهذيب " : وقال عطية العوفي : [ " آمين " ] كلمة عبرانية ، أو سُرْيانية ، وليست عربية . وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد : " آمِينَ " كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى . وروي فيها الإِمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي ، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل : أَيْنَ وَكَيْفَ . وقيل : آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها . وقيل : معناه : اللَّهم آمنا بخير . وقال بعضهم : بنيت لأنها ليست عربية ، وأنها سم فعل [ كـ " صَهٍ " " ومَهٍ " أَلاَ ترى أن معناها : " اللهم استجب ، وأعطنا ما سألناك " . وقالوا : إن مجيء " آمِين " دليلٌ على أنها ليست عربيةً ] ؛ إذ ليس في كلام العرب " فَاعِيل " . فأما " آري " فليس بـ " فَاعِيل " ، بل هو عند جماعة " فَاعُول " . وعند بعضهم " فَاعِلي " . وعند بعضهم [ " فَاعِي " ] بالنقصان . وقال بعضهم : إن " أمين " المقصورة لم يجىء عن العرب ، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو : [ الطويل ] @ 96 - … فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا @@ روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا قَالَ الإمَامُ : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، فقولوا : آمِين ، فإنّ المَلائِكَةَ تقول : آمين ، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ " . فصل في وجوب القراءة في الصلاة قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة . وعن الأَصَمّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا : لا تجب لنا [ أن كلّ دليل نذكره في بيان أن ] قراءة الفاتحة واجبة ، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب ، ونزيد - ها هنا - وجوهاً : الأول : فهو قوله تبارك وتعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ } [ الإسراء : 78 ] . والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر الوجوب . الثاني : عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه - " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال : " نَعَمْ " فقال السَّائل : وجبت ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله : " وَجَبَتْ " " . الثالث : عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله تعالى عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : أيقرأ في الصلاة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " أتَكُونُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ " ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني . وحجّة الأصم - رحمه الله تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي " جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست مرئية ، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة ، والجواب : أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم . فصْلٌ قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة ، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته ، وبه قال الأكثرون . وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ . لنا وجوه : الأول : أنه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة ، فوجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : { وَٱتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] ، ولقوله : { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] ، ولقوله تعالى : { فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] . ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على النّاصية ، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة ، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحّة الصَّلاة غير موقوفةٍ عليها ، وهذا من العَجَائب . الثاني : قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [ البقرة : 43 ] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السَّابق ، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاة إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها . وإذا كان كذلك كان قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [ البقرة : 43 ] جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر [ الوجوب ] ، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتحَةِ في الصَّلاةِ . الثالث : أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدلُّ عليه ما روي في " الصّحيحين " " أن النَّبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة بـ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، وإذا ثبت هذا وجَبَ علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي " " . ولقوله عليه الصلاة والسلام : " اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي : أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ " رضي الله عنهما . والعجب من أبي حنيفة - رحمه الله - أنه تمسَّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان - رضي الله عنه - مع أن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث ، فلم يتمسّك بعمل [ كل ] الصحابة - رضي الله عنهم - على سبيل الإطباق ، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة ، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن ، والإخبار ، والمعقول ! الرابع : أن الأمّة [ وإن ] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا ؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَلِ فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة ، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول : إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 115 ] فإن قالوا : إنَّ الذين اعتقدوا أنَّهُ لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد النّدبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها . فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بَيَّنَّا إطباق الكُلّ على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَلِ فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ ، وهذا القدر يكفينا في الدَّلِيلِ ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادِّعَاء الإجماع في اعتقاد الوجوب . الخامس : قوله عَزَّ وجَلَّ : " قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن ، فإذا قَالَ العَبْدُ : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله تَعَالى : حَمِدَنِي عَبْدِي … " ، إلى آخر الحديث . وجه الاستدلال : أنه - تَعَالَى - حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلاّ بسبب هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط في صِحّة الصلاة . السَّادس : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " . قالوا : حرف النفي دخل على الصَّلاة ، ودخل على غير مُمْكِنٍ ، فلا بُدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصَّلاة ، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال . والجواب من وجوه : الأول : أنه جاء في بعض الرِّوَايات : " لا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة ، وإنما دخل على حصولها للرَّجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها ، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على ظاهره . الثاني : من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة ، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة ؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها ، وإذا ثبت هذا فقولهم : إنه لا يمكن إدخال حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة ، وهذا [ هو ] أول المسألة ، فثبت أن قولنا : يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة ، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما : أقرب إلى الحقيقة ، والثاني : أبعد ؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب . إذا ثبت هذا فنقول : المُشَابهة بين المعدوم ، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [ أتم من المُشابَهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً ] ، لكنه لا يكون كاملاً ، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى . الحُجَّة السَّابعة : عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج ، فهي خداج " أي غير تمام ، قالوا : الخِدَاجُ هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز . قلنا : بل هذا يدلّ على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصَّلاة دائم ، والأصل في الثابت ، البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ ، فعند الإتيان بها على سبيل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه قال : لو صام يوم العِيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح ؛ لأن الواجب عليه هو الصَّوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العُهْدَةِ . وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا ؟ الحُجّة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في " تعليقه " عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " . الحُجّة التاسعة : روى رفاعة بن مالك - رضي الله عنه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى ، فلما فرغ من صلاته ، ذكر في الخبر أن الرجل قال : علّمني الصَّلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبِّرُوا ، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَابِ " ، وهذا أمر ، والأمر للوجوب . الحُجّة العاشرة : " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها " ، قالوا : نعم ، قال : " فما تقرءونه في صَلاَتكم " ؟ فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين ، قال : " هِيَ هِيَ " " . وجه الدليل : " أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال : " ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم " ؟ قالوا : الحمد لله رب العالمين " ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة ، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم . الحُجّة الحادية عشرة : التمسُّك بقوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ . فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها . وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة ، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز . واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن ؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ . الحُجّة الثَّانية عشرة : الأصل بقاءُ التكليف ، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس . أما الأول فباطل . [ لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] وقد بينا أنه دليلنا . وأما القياس ] فباطل ؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس . الحُجّة الثالثة عشرة : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره ، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع ، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : " اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا " ، و " أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا " . واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر . أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] . وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لا صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ ، ولو بفاتحة الكِتَاب " . والجواب عن الأول : أنا بَيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا . وعن الثاني : أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة ، وأيضاً لا يجوز أن يقال : المراد من قوله : " لا صَلاَةَ إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب " وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى . فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا ؟ قال الشافعي - رضي الله عنه - : التّسمية آية من الفاتحة ، ويجب قراءتها مع الفاتحة ، وقال مالك والأوزاعي ، - رضي الله تعالى عنهما - : إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل ، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً ، إلاّ في قيام شهر رمضان ، فإنه يقرؤها . وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فلم ينص عليها ، وإنما قال : يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها ، ولم يقل : إنها آية من أول السورة أم لا . قال : سُئل محمد بن الحسن - رحمه الله - عن " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال : ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عز وجل - القرآن . قلت : فَلِمَ يُسَرّ بها ؟ فلم يجبني . وقال الكَرْخي - رحمه الله تعالى - : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة . وقال بعض الحنفية - رحمهم الله - : تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة ؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن ، أو ليست من القرآن أمر عظيم ، فالأولى السّكوت عنه . حُجّة من قال : إن التسمية من الفاتحة : روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت : " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب ، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية ، إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ آية ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية " ، وهذا نَصّ صريح . وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري " ؟ فقلت : بلى قال : " بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاَة ؟ " قلت : ببسم الله الرحمن الرحيم قال : " هِيَ هِي " وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن . وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحَمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - " أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له : " كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة " ؟ قال : أقول : الحمد لله رب العالمين ، قال : " قل : بسم الله الرحمن الرحيم " " . وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى : { آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] قال : فاتحة الكتاب ، فقيل للنابغة ، أين السَّابعة ؟ فقال : { بسم الله الرحمن الرحيم } . وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، والنبي يحدث أصحابه ، إذ دخل رجل يصلّي ، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رجل ، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة ، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد ؟ من تركها فقد تركها فقد تَرَكَ آيةً منها ، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته ، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا " . وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم ، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالَى " . وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما - : " " مَا أعظم آيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى " ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم " . ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل ، فتعيّن أن تكون آية تامةً في أوّل الفاتحة . وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم " المدينة " فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها ، فقرأ أمّ القرآن ، ولم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ، فلما قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت ؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن ؟ فأعاد معاوية الصَّلاة ؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة ، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها . فصل في بيان عدد آيات الفاتحة حكي عن الزَّمخشري : الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات . وحكى ابن عطية قولين آخرين : أحدهما : هي ستّ آيات ، فأسقط البَسْمَلَة ، وأسقط " أنعمت عليهم " . والثاني : أنها ثماني آيات فأثبتهما . قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول : إنّ هذه السورة ثماني آيات ، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات ، وبه فسّروا قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } [ الحجر : 87 ] . إذا ثبت هذا ، فنقول : إنَّ الذين قالوا : إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا : قوله تعالى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] إلى آخرها آية تامة منها . وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال : قوله تعالى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية ، وقوله : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } آية أخرى . ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة ، ورعاية التَّشابه في المَقَاطع لازم ، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين : مُتَقَاربة ، ومُتَشَاكلة . فالمتقاربة كَسُورَةِ " ق " . والمُتشَاكلَة في سورة " القمر " ، وقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين ، فامتنع جعله من المَقَاطع . وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ابتداء آية ، فقد جعلنا أول الآية لفظ " غير " ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله ، أو استثناء مما قبله ، والصّفة مع الموصوف كالشَّيءِ الواحد ، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد ، وإيقاع الفَصْل [ بينهما ] على خلاف الدليل ، أما إذا جعلنا قوله تعالى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة آية واحدة [ كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة ، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً ، وآية واحدة ] ، وذلك أقرب إلى الدّليل . فَصْلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا ؟ وللشافعي قولان : قال ابن الخطيب : " والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور ، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة ، أو هي مع ما بعدها آية " . وقال بعض الحنفية : إنّ الشّافعي خالف الإجماع في هذه المسألة ؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل : إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور . ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخطّ القرآن ، فوجب كونه قرآناً ، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال في سورة " الملك " إنها ثلاثون آية ، وفي سورة " الكوثر " إنها ثلاث آيات ، ثم أجمعوا على أنَّ هذا العدد حاصل بدون التسمية ، فوجب ألاّ تكون التسمية آية من هذه السّور . والجَوَاب أنا إذا قلنا : بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعدها آية واحدة ، فالإشْكَال زائل . فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة ، فكيف يمكنكم أن تقولوا : إنها بعض آية من سائر السور ؟ قلنا : هذا غير بعيدٍ ، ألا ترى أن قوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } آية تامة ؟ ثم صار مجموع قوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] آية واحدة ، فكذا ها هنا . وأيضاً فقوله : سورة " الكوثر " ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات ، وأما التسمية فهي كالشّيء المشترك فيه بين جميع السُّور ، فسقط هذا السُّؤال ، والله أعلم . فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - أن التسمية آية من الفاتحة إلاّ أنه يُسرّ بها في كل ركعة . وأما الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال : ليست آية من الفاتحة ويجهر بها . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : ليست آية من الفاتحة ، ولا يجهر بها . والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة ، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً ، وإما أن يكون بعضها سرياً ، وبعضها جهرياً ، فهذا مفقودٌ في جميع السور ، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية . وقالت الشِّيعة : السُّنة هي الجَهْر بالتسمية ، سواء كانت الصلاة [ جهرية أو سرية ] . والذين قالوا : إن التسمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة ، وفيه قولان : الأول : أن التسمية ليست من القرآن ، وهؤلاء فريقان : منهم من قال : كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور ، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً ، فلا حاجة إلى إثبات التسمية ، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ . ومنهم من قال : إنه يجب إثباتها في المُصْحف ، ولا يجوز تركها أبداً . والقول الثاني : أنها من لقرآن ، وقد أنزلها الله تعالى ، ولكنها آية مستقلة بنفسها ، وليست بآية من السورة ، وهؤلاء أيضاً فريقان : منهم من قال : إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ . ومنهم من قال : لا ، أنزلها مرة واحدة ، وأمَرَ بإثباتها في [ أول ] كل سورة . والذي يدلّ على أن الله - تعالى - أنزلها ، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد " بسم الله الرحمن الرحيم " آية فاصلةً . وعن إبراهيم بن يزيد قال : قلت لعمرو بن دينار : إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليست من القرآن ، فقال : سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل ! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أنزل عليه " بسم الله الرحمن الرحيم " على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها . وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال : من ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةً . فَصْلٌ قال ابن الخطيب - رحمه الله - : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم ، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن . واعلم أن هذا في غاية الصعوبة ؛ لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن ، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رضي الله عنه - عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل . وإن قلنا : النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال : إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية . والأغلب على الظن أن يقال : هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ ، والله الهادي إلى الصواب ، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب .