Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 3-4)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة ، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب ، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب ، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين : أحدهما : إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً ، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف . والثاني : إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما ، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين . فإمَّا إثبات الإله ، فبقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ، وأمَّا إثبات المعاد ، فبقوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } [ يونس : 4 ] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن ، فإن قيل : كلمة " الَّذي " وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع ، كما إذا قيل لك : مَنْ زَيْدٌ ؟ فتقول : الذي أبوه مُنْطلق ، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع ، فهاهنا لما قال : { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف ؟ . فالجواب : أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى ؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل ، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم ، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم ، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف . فإن قيل : ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض ، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ ؟ فالجواب على قول أهل السُّنَّة : أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد ، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح ، وأمَّا على قول المعتزلة : وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة ، فقال القاضي : " لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين " ثم قال : فإن قيل : فمن المُعْتَبر ؟ ثم أجاب فقال : أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً . فإن قيل : فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد ؟ . قلنا : إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت ، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك ، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور ، لأنَّا نخشى الفَوْت ، ونخافُ العَجْز . قال : وإذا ثَبَتَ هذا ، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض . فإن قيل : أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان ؟ قلنا : الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها ، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته ؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى . لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ . وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك . فإن قيل : هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا ، أو كما قال ابن عباس : إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون فالجواب : قال القاضي : الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة ، ويمكن أن يقال : لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها . فإن قيل : هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف ؟ فالجواب : التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السموات والأرض في مدَّة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر ، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام . فإن قيل : هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة . فالجواب : أن تلك المُدَّة غير موجودة ، بل هي مفروضة موهُومة ، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة ، فنحن نقوله في حدوث العالم . فإن قيل : اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده ، فما المرادُ بهذه الآية ؟ فالجواب : أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته . قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } قال ابنُ الخطيب : لا يمكن حمل الآية على ظاهرها ، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه ، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل ، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش ، وإنه لولا العرش لسقط ونزل ، وذلك محالٌ ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له ، وأيضاً فإن قوله : " ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ " يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ ، وكل متغير محدث ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق . وأيضاً : لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّه تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً ، وذلك من صفاتِ المُحدثات . وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ؛ لأنَّ كلمة " ثُمَّ " للتَّراخي ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش ، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة ، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش ، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة ، وإذا تقرَّر هذا ، فقال جمهور المفسِّرين : المراد بالعرش هنا : هو الجسم العظيم الذي في السَّماء ، وهو مخلوق قبل خَلْق السموات والأرض ، بدليل قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [ هود : 7 ] . وقيل : المراد من العرش : الملك ، يقال : فلان على عرشه أي : ملكه . وقال أبُو مسلم الأصفهاني . " المراد بالعَرْش : أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً ، وبانيه يسمَّى عارشاً ، قال تعالى { وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] أي : يبنون ، وقال : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ] ، والمراد : أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها ، وقال : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [ هود : 7 ] أي : بناؤه على الماءِ ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك ، لأنه أعجب في القدرة ، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة ، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه ، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش : هو الاستعلاء عليه بالقَهْر ، لقوله { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } [ الزخرف : 12 ، 13 ] ، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك ، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء ، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع ، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً " . وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] الآية . قوله : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لـ " إنَّ " . الثاني : أنَّه حالٌ . الثالث : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب . ومعنى " يدبِّر الأمر " : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة ، أي : يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ ، وأحوال ملكوت السموات والأرض . قوله { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي : يدبر الأشياء ، لا بشفاعة شفيعٍ ، ولا تدبير مدبر ، فمعناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ . فإن قيل : كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة ؟ فالجواب : قال الزَّجَّاج : إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون : إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله . وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث ، كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى . وقال أبو مسلم : " الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني ، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال : الزوْج والفرد " . فمعنى الآية : خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه ، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر ، وهو المراد من قوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي : لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود ، إلاَّ من بعد أن قال له : كُنْ حتَّى كان . ثم قال { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له ، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات ، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها . ثم قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة . قوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الآية . لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله " إليه مرجعكم " الرجع بمعنى الرجوع و " جميعها " نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت . وقوله : " وعْدَ اللهِ " منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ ؛ لأنَّ معنى " إلَيْهِ مرْجِعكُمْ " : وعدكم بذلك . وقوله : " حَقّاً " مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد ، وناصبه مضمر ، أي : أحَق ذلك حقّاً . وقيل : انتصب " حَقّاً " بـ " وَعْدَ " على تقدير " في " ، أي : وَعْدَ الله في حق ، يعني على التَّشْبيه بالظرف . وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 2871 - أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ @@ " إنَّهُ يَبْدَؤا " الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف ، وقرأ عبد الله ، وابن القعقاع ، والأعمش ، وسهيل بن شعيب بفتحها ، وفيها تأويلاتٌ : أحدها : أن تكون فاعلاً بما نصب " حَقّاً " أي : حقَّ حقًّا بدءُ الخَلْقِ ، ثُمَّ إعادته ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2872 - أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً … @@ البيت . وهو مذهبُ الفرَّاء ، فإنَّه قال " والتقدير : يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق " . والثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب " وَعْدَ اللهِ " ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه . الثالث : أنه على حذفِ لام الجرِّ ، أي : لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره . الرابع : أنَّهُ بدلٌ من " وَعْدَ اللهِ " قالهُ ابن عطية . الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس " حَقّاً " أي : بالمصدر المنون ، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل " حَقّاً " غير مؤكدٍ ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله ، وفيه بحث . السادس : أن يكون " حَقّاً " مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً ، و " إنَّه " في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً ، كقولهم : أحقاً أنَّك ذاهبُ ، قالوا : تقديره : أفي حقٍّ ذهابك . وقرأ ابن أبي عبلة " حَقٌّ أنَّه " برفع حق وفتح " أنّ " على الابتداء والخبر ، قال أبو حيَّان : وكون " حق " خبر مبتدأ ، و " أنه " هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب ، كما تقول : صحيحٌ أنك مخرج ؛ لأنَّ اسم " أن " معرفة ، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة ، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس ، وهذا قد ورد في باب " إنَّ " ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2873 - وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ @@ وقوله : [ الطويل ] @ 2874 - وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا وهَلْ عندَ رسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ @@ على جَعْلِ " أنْ سَفَحْتُهَا " بدلاً من " عَبْرَة " ، وقد أخبر في " كان " عن نكرةٍ بمعرفةٍ ، كقوله : [ الوافر ] @ 2875 - … ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا @@ وقوله : [ الوافر ] @ 2876 - … يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ @@ قال مكِّي : " وأجاز الفرَّاء رفع " وَعْد " ، بجعله خبراً لـ " مَرْجِعُكُمْ " . وأجاز رفعَ " وَعْد " و " حَقّ " على الابتداء والخبر ، وهو حسنٌ ، ولم يقرأ به أحد " . قال شهابُ الدِّين : نعم لم يرفع " وَعْد " ، و " حَقّ " معاً أحد ، وأمَّا رفعُ " حَقٌّ " وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه ، وتقدَّم توجيهه ، ولا يجوز أن يكون " وعْد الله " عاملاً في " أنَّه " لأنه قد وُصِفَ بقوله " حَقّاً " قاله أبو الفتح ، وقرىء " وعَدَ اللهُ " بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً ، وعلى هذه يكون " إنَّه يَبْدأ " معمولاً له إنْ كان هذا القَارِىءُ يفتح " أنه " ، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ ، وابنُ أبي طلحة " يُبْدِىء " مِنْ أبْدَأ ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد . فصل في هذه الآية إضمار ، تقديره : إنَّه يبدأ الخلق ؛ ليأمرهم بالعبادة ، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم ، كقوله في البقرة : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] . إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا ؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه } وحذف ذكر الإماتة ، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها . وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات ، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ ، ونظيره قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء . قوله : " ليَجْزِي " متعلِّق بقوله " ثُمَّ يُعِيدُهُ " ، و " بالقِسْطِ " متعلقٌ بـ " يَجْزِيَ " ويجوز أن يكون حالاً : إمَّا من الفاعل أو المفعول ، أي : يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به ، والقِسْطُ : العدل . فصل قال الكعبيُّ : " اللاَّم في قوله " ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا " تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة ، وأيضاً فإنَّه أدخل " لام " التعليل على الثواب ، ولم يدخلها على العقاب ، بل قال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب ، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر ، ولم يخلق الكفر فيهم " . والجواب : أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة ، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل ، وهو محال . فصل في تفسير " القِسْط " وجهان : الأول : أنَّه العدل ، كما تقدم ؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم ، ولا يتفضَّل عليهم بشيء . فالجواب : أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل ، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ " القِسْطِ " يدلُّ على توفية الأجْرِ ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ " القِسْط " لا يدلُّ عليه ، فإن قيل : لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ ؟ فالجواب : أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم ، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان . الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ - : أن المعنى : ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم ، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملو الصَّالحات ، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ ، قال تعالى { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم ، قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] وهذا أقوى ؛ لأنه في مقابلة قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } . قوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ ، والجملة بعده خبره . والثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله ، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم . و " شَرابٌ " يجُوزُ أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ ، والأولُ أولَى . قوله : " بِمَا كَانُوا " الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً ، والتقدير : استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا . وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما : الأول : أن يكون صفة أخرى لـ " عَذاب " . والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل . قال الواحدي : الحَميمُ : الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه ، يقال : حَمَمْتُ الماءَ ، أي : أسْخَنْتُهُ ، أحْمِيهِ ، فهو حميمٌ ، ومنه الحَمَّام . فصل دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً ، وبين أن يكون كافراً ، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين . وأجاب القاضي : بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث ؛ لأنَّ قوله تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع ، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر ، وترك ما عداه ، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر ، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات . وجوابه : إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر ، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب ؟ وأما قوله تعالى { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع ، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة ، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب ، بخلاف مسألتنا ، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث ، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ ، فظهر الفرق .