Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 105, Ayat: 1-5)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } ، هذه قراءة الجمهور ، أعني : فتح الراء وحذف الألف للجزم . وقرأ السلمي : " تَرْ " بسكون الراء ، كأنه لم يعتمد بحذف الألف . وقرأ أيضاً : " ترأ " بسكون الراء وهمزة مفتوحة ، وهو الأصل ، و " كَيْفَ " معلقة للرؤية ، وهي منصوبة بفعل بعدها ، لان " ألَمْ تَر كَيفَ " من معنى الاستفهام . فصل في معنى الآية المعنى : الم تخبر . وقيل : ألم تعلم . وقال ابن عباس : ألم تسمع ؟ واللفظ استفهام والمعنى تقرير ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه عام ، أي : ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل ؟ أي : قد رايتم ذلك ، وعرفتم موضع منتي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون ؟ . فصل في لفظ " الفيل " الفيل معروف ، والجمع : أفيال ، وفيول ، وفيلة . قال ابن السكيت : ولا يقال : " أفيلة " والأنثى فيلة ، وصاحبه : فيال . قال سيبويه : يجوز أن يكون أصل " فيل " : " فُعْلاً " فكسر من أجل الياء ، كما قالوا : أبيض وبيض . وقال الأخفش : هذا لا يكون في الواحد ، إنما يكون في الجمع ، ورجل فيلُ الرأي ، أي : ضعيف الرأي والجمع : أفيال ، ورجل فالٌ : أي : ضعيف الرأي ، مخطئ الفراسة ، وقد فال الرأي ، يفيلُ ، فيُولة ، وفيَّل رأيه تفييلاً : أي : ضعفه ، فهو فيِّلُ الرأي . فصل في نزول السورة روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم - ملك " اليمن " - بنى كنيسة بـ " صنعاء " لم ير مثلها ، وسمَّاها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من بني كنانة مختفياً ، وجعل يبولُ ويتغوطُ في تلك الكنيسة ليلاً ، فأغضبه ذلك . وقيل : أجج ناراً فحملتها ريح فاحرقتها ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : رجل من أهل البيت الذي يحج العرب إليه ، فحلف ليهدمنَّ الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيلٌ اسمه محمود ، وكان قويًّا عظيماً وثمانية أخرى . وقيل : اثنا عشر . وقيل : ألف ، وبعث رجلاً إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل ، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً ، فسار ليهدم الكعبة ، فلما بلغ قريباً من " مكة " خرج إليه عبد المطلب ، وعرض عليه ثلث أموال " تهامة " ، ليرجع فأبى ، وقدم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ، وإذا وجهوه إلى " اليمن " ، أو إلى سائر الجهات هرول ، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فخرج إليهم بسببها ، فلما رآه أبرهة عظم في عينه ، وكان رجلاً جسيماً وقيل له : هذا أسد قريش ، وصاحب عير " مكة " ، فنزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على بساطه ، ثم قال لترجمانه : قل له حاجتك ، فلما ذكر حاجته قال له : سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينُك ، ودين آبائك ، لا تكلمني فيه ، وألهاك عنه ذود لم أحسبها لك ، فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل ، وإنَّ للبيت ربًّا سيمنعه ، ثم رجع وأتى البيت ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفرٌ من قريش يدعون الله تعالى ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب : [ مجزوء الكامل ] @ 5307 - لاهُـمَّ إنَّ العَبْـدَ يَمْـ ـنَـعُ رَحْلـهُ فامْنَـعْ حَلالَـكْ لا يَغلِـبَـنَّ صَـلـيبـهُـمْ ومُحَـالهُـمْ عَـدْواً مُحالَـكْ إن يَدخُلُـوا البَلـدَ الحَـرَا مَ فأمْـرٌ مـا بَـدَا لَـكْ @@ وقال آخر : [ الرجز ] @ 5308 - يَـا ربِّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَـا ربِّ فامْنَـعْ مِنهُمُ حِمَاكَـا إنَّ عَـدُوَّ البَيْـتِ مِـنْ عَاداكَـا إنَّهُـمُ لـنْ يَقْهَـرُوا قُـواكَـا @@ فالتفت ، وهو يدعو ، فإذا هو بطير من ناحية " اليمن " ، فقال : والله إنها لطير غريبة ، ما هي بجندية ولا تهامية ، وكان مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة ، وأصغر من الحمصة . قال الراوي : فأرسل عبد المطلب حلقة الكعبة ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال ، فتحرَّزُوا فيها ينظرون ما يفعل أبرهة إذا دخل " مكة " ، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر [ أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار فكان الحجر يقع ] على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، فهلكوا في كل طريق ، ومنهل . روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه رأى من تلك الأحجار عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري . قال الراوي : وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون إلى الطَّريق التي منها جاءوا . وروي ان أبرهة تساقطت أنامله ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانقلب هو ووزيره أبو يكسوم ، وطائر يحلق فوقه حتى قدموا " صنعاء " وهو مثل فرخ الطائر . وقيل : قدموا على النجاشي ، فَقَصّ عليه القصة فلما تممها وقع علي الحجر فخرَّ ميتاً بين يديه . فصل في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم حكى الماوردي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وُلدتُ عَامَ الفِيْلِ " . وقال في كتاب " أعلام النبوةِ " : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، وكان بعد الفيل بخمسين يوماً ، ووافق من شهور الروم العشرين من أشباط ، في السَّنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان . قال : وحكى أبو جعفر الطبري : أن مولده صلى الله عليه وسلم كان لاثنين وأربعين سنة من ملك أنوشروان . وقيل : إنه - عليه السلام - حملت به أمه في يوم عاشوراء من المحرم حكاه ابن شاهين أبو حفص في فضائل يوم عاشوراء ، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر رمضان ، فكانت مدة الحمل ثمانية أشهر كملاً ويومين من التاسع . وقال ابن العربي : قال ابن وهب عن مالكٍ : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل [ قال ] قيس بن مخرمة : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل . وقال عبد الملك بن مروان لعتَّاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسنّ منه ، ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس . فصل في أن قصة الفيل من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض العلماء : كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله ، وقبل التحدي ، لأنها كانت توكيداً لأمره ، وتمهيداً لشأنه ، ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الواقعة ، ولهذا قال : " ألَمْ تَرَ " ولم يكن بـ " مكة " أحد إلاَّ وقد رأى قائد الفيل ، وسائقه أعميين [ يتكففان ] الناس . قالت عائشة - رضي الله عنها - مع حداثة سنّها : " لقَدْ رَأيتُ قَائِدَ لفِيْلِ وسَائقَهُ أعْميَيْنِ يَسْتطعِمَانِ النَّاسَ " . قوله : { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } ، أي : في إبطال ، وتضييع ؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل ، والسبي ، والبيت بالتخريب ، والهَدْم . قالت المعتزلة : إضافة الكيد إليهم دليل على أنه - تعالى - لا يرضى بالقبيح ، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته . قوله : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } . قال النحاة : " أبابيل " نعت لـ " طير " لأنه اسم جمع . وأبابيل : قيل : لا واحد له ، كأساطير وعناديد . وقيل : واحده : " إبَّول " كـ " عِجَّول " . وقيل : " إبَّال " ، وقيل : " إبِّيل " مثل سكين . وحكى الرقاشيّ : " أبابيل " جمع " إبَّالة " بالتشديد . وحكى الفرَّاء : " إبالة " مخففة . فصل في لفظ " أبابيل " الأبابيل : الجماعات شيئاً بعد شيء ؛ قال : [ الطويل ] @ 5309 - طَريـقٌ وجـبَّـارٌ رِوَاءٌ أصُولـهُ عَليْـهِ أبَابيلٌ مـن الطَّيْـرِ تَنعَـبُ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 5310 - كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصواتِ رَاحِلَتِي إذْ سَالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ @@ قال أبو عبيدة : أبابيل : جماعات في تفرقة ، يقال : جاءت الطير أبابيل من هاهنا ، وهاهنا . قال سعيد بن جبير : كانت طيراً من السَّماء لم ير مثلها . " وروى الضحاك عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّهَا طَيْرٌ بَينَ السَّماءِ والأرضِ تُعَشِّشُ وتُفرِّخُ " . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - كان لها خراطيم كخراطيم الفيلة ، وأكفّ كأكفّ الكلاب . وقال عكرمة : كانت طيراً خضراً خرجت من البحر ، لها رُءُوس كرءوس السِّباع ، ولم تر قبل ذلك ، ولا بعده . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : هي أشبه شيء بالخطاطيف . [ وقيل : إنها أشبه بالوطاويط ] . وقيل : إنها العنقاء التي يضرب بها الأمثال . قال النحاس : وهذه الأقوال متفقة المعنى ، وحقيقة المعنى : أنها جماعات عظام ، يقال : فلان يؤبل على فلان ، أي : يعظم عليه ويكثر ، وهو مشتقّ من الإبل . قال ابن الخطيب : هذه الآية ردّ على الملحدين جدًّا ، لأنهم ذكروا في الزَّلازل ، والرياح والصواعق ، والخسف ، وسائر الأشياء التي عذب الله - تعالى - بها الأمم أعذاراً ضعيفة ، أما هذه الواقعة ، فلا يجري فيها تلك الأعذار ، وليس في شيء من الطَّبائع والحيل أن يعهد طير معها حجارة ، فيقصد قوماً دون قوم فيقتلهم ، ولا يمكن أن يقال : إنه كسائر الأحاديث الضعيفة ؛ لأنه لم يكن بين عام الفيل ، ومبعث الرسول إلا نيفاً وأربعين سنة ، ويوم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، كان قد بقي جمع شاهدوا تلك الواقعة ، فلا يجري فيها تلك الأعذار ، ولو كان النقل ضعيفاً لكذبوه ، فعلمنا أنه لا سبيل للطَّعن فيها . قوله : { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ } ، " بِحجَارَةِ " صفة لـ " طير " ، وقرأ العامة : " تَرْميهِمْ " بالتأنيث . وأبو حنيفة ، وابن يعمر ، وعيسى ، وطلحة : بالياء من أسفل ، وهما واضحتان ، لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث . ومن الثانية قوله : [ البسيط ] @ 5311 - … كالطَّيْـرِ يَنْجُـو مِـنَ الشُّؤبُـوبِ ذي البَـردِ @@ وقيل : الضمير لربِّك ، أي : يرميهم ربك بحجارة ، و " مِنْ سِجِّيل " صفة لـ " حِجَارة " والسجيل ، قال الجوهري : قالوا حجارة من طين ، طبخت بنار جهنم ، مكتوب فيها أسماء القوم ، لقوله تعالى : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] . وقال عبد الرحمن بن أبزى : " مِنْ سجِّيْلٍ " من السماء ، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط . وقيل : من الجحيم ، وهي " سِجِّين " ثم أبدلت اللام نُوناً ، كما قالوا في أصيلان : أصيلال ، قال ابن مقبلٍ : [ البسيط ] @ 5312 - … ضَـرْبـاً تَواصَـتْ بِـهِ الأبطـالُ سِجِّنَـا @@ إنما هو " سجيلاً " . وقال الزجاج : " مِنْ سجِّيل " ، أي : مما كتب عليهم أن يعذبوا به ، مشتق من السجل وقد تقدم القول في السجيل في سورة " هود " . قال عكرمة : [ كانت ترميهم بحجارة معها ] ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم . وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، وكان ذلك أول الجدري . قال يونس وأبو عبيدة : والسجيل عند العرب : الشديد الصلب . قال بعض المفسرين : إنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنهما : سجّ وجيل : فالسجُّ : الحجر ، والجيل : الطِّين ، أي من هذين الجنسين : الحجر والطين . قال أبو إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة أنه قال : أول ما دامت الحصبة بأرض العرب ذلك وإنه أول ما رأى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشار ذلك العام . قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } . " كَعصْفٍ " هو المفعول الثاني للجعل ، بمعنى التصيير ، وفيه مبالغة حسنة ، وهو أنه لم يكفهم أم جعلهم أهون شيء من الزَّرع ، وهو ما لا يجدي طائلاً ، حتى جعلهم رجيعاً . والمعنى : جعل الله تعالى أصحاب الفيل كورق الزروع إذا أكله الدواب ، فرمت به من أسفل قاله ابن زيد وغيره ، والعصف جمع واحده عصفة وعصافة ، وأدخل الكاف في " كعصف " للتشبيه مع مثل قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ومعنى مأكول أن المراد به قشر البُرّ يعني الغلاف الذي يكون كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة شبَّه تقطُّع أوصالهم بتفرُّق أجزائه ، روي معناه عن ابن زيد ، وغيره . قال ابن إسحاق : لما رج الله الحبشة عن " مكة " ، عظمت العرب قريشاً ، وقالوا : أهل الله قاتل عنهم ، وكفاهم مئونة عدوهم ، فكان ذلك نعمةً من الله عليهم . روى الثَّعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَة { ٱلْفِيلِ } عَافاهُ اللهُ تعَالى حياته مِنَ المسْخِ ، والعَدُوِّ " والله أعلم .