Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 108, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } ، قرأ الحسن وابن محيصن ، وطلحة ، والزعفراني : " أنْطَيْنَاكَ " بالنون . قال الرازي ، والتبريزي : أبدل من العين نوناً . فإن عنينا البدل الصناعي فليس بمسلَّم ، لأن كل مادة مستقلة بنفسها ، بدليل كمال تصريفها ، وإن عنينا بالبدل : أن هذه وقعت موقع هذه لغة ، فقريب ، ولا شكَّ أنها لغة ثابتة . قال التبريزي : هي لغة العربِ العاربةِ من أولى قريش . وفي الحديث : " اليَدُ العُلْيَا المُنطِيةُ ، واليَدُ السُّفلَى المُنطَاةُ " . وقال الشاعر وهو الأعشى : [ المتقارب ] @ 5324 - جِيـادُكَ خَيْـرُ جِيـادِ المُلـوكِ تُصَانُ الجِلالَ وتُنْطَـى الحُلُـولاَ @@ قال القرطبي : " وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة ، وهي لغة في العطاء أنطيته : أعطيته " . والكوثر : " فَوْعَل " ، من الكثرةِ ، وصف مبالغة في المفرط الكثرة ، مثل النوفل من النَّفل ، والجوهر من الجهر ، والعرب تسمي كل شيءٍ كثيراً في العدد ، والقدر ، والخطر : كوثراً ؛ قال : [ الطويل ] @ 5325 - وأنْتَ كَثيرٌ يَا ابْنَ مَرْوانَ طَيِّبٌ وكَانَ أبُوكَ ابْنَ العقَائِلِ كَوثَرا @@ قيل لعجوز رجع ابنها من السَّفر : بم آب ابنك ؟ . قالت : آب بكوثر ، أي : بمال كثير . والكوثر من الغبار الكثير ، وقد تكوثر إذا كثر ؛ وقال الشاعر : @ 5326 - وقَدْ ثَارَ نَقْعُ المَوْتِ حتَّى تَكْوثَرَا @@ فصل في المراد بالكوثر اختلفوا في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : نهر في الجنة رواه البخاري وغيره . وروى الترمذي عن ابن عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكَوْثَرُ : نهرٌ فِي الجنَّةِ ، حَافتَاهُ مِنْ ذهَبٍ ، ومَجْراهُ عَلى الدُّرّ والياقوت ، تُربتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ ، وماؤه أحْلَى مِنَ العَسلِ ، وأبْيَضُ مِنَ الثّلْجِ " . وقال عطاء : هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف وفيه أحاديث كثيرة . وقال عكرمة : الكوثر : النبوة ، والكتاب . وقال الحسن : هوالقرآن . وقال ابن المغيرة : الإسلام . وقال ابن كيسان : هو الإيثار . وقال الحسن بن الفضل : هو تيسير القرآن ، وتخفيف الشرائع . وقال أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب هو كثرة الأصحاب والأتباع والأمة . وحكى الماورديُّ : أنه رفعة الذكر . وقيل : [ الشفاعة : وقال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقيل : الصلوات الخمس . وقيل الفقه في الدين . وقيل غير ذلك ] . قال القرطبيُّ : وأصح الأقوال : الأول ، والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصًّا في الكوثر . فصل في الكلام على هذه السورة قال ابنُ الخطيب : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها ، فإنه ذكر في الأول البُخل ، وترك الصلاة ، والرياء ، ومنع الماعون ، وذكر هنا في مقابلة البخل : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } وفي مقابلة ترك الصلاة : قوله : " فَصلِّ " أي : دُمْ على الصلاة ، وفي مقابلة الرياء قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } أي : لرضاه خالصاً ، وفي مقابلة منع الماعون قوله : " وانْحَرْ " ، أي : تصدَّق بلحم الأضاحي ، ثم ختم السُّورة سبحانه وتعالى بقوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } ، أي : أنَّ المنافق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سَيمُوتُ ولا يبقى له أثر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، في الآخرة الثواب الجزيل . قوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } . قال ابن عبًّاس - رضي الله عنهما - أقم الصلاة المفروضة عليك . وقال قتادة ، وعطاء ، وعكرمة : فصل لربك صلاة العيد يوم النحر ، " وانْحَرْ " نسُككَ . وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ، ثم يصلي ، فأمر أن يصلي ثم ينحر . قال سعيد بن جبير : نزلت في " الحديبية " حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت ، فأمره الله تعالى ، أن يصلي ، وينحر البدن ، وينصرف ، ففعل ذلك . قال ابن العربي : " أما من قال : إن المراد بقوله تعالى : { فَصَلِّ } الصلوات الخمس ، فلأنها رُكْن العبادات ، وقاعدة الإسلام ، وأعظم دعائم الدين . وأما من قال : إنها صلاة الصبح بالمزدلفة ، فلأنها مقرونة بالنحر ، وهو في ذلك اليوم ، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها ، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر " . قال القرطبي : وأما من قال : إنها صلاة العيد ، فذلك بغير " مكة " ، إذ ليس بـ " مكة " صلاة عيد بإجماع ، فيما حكاه أبو بكر رضي الله عنه . فصل الفاء في قوله : " فصلِّ " للتعقيب والتسبب ، أي : تسبب هذه المنة العظيمة وعقبها أمرك بالتخلي لعبادة المنعم عليك ، وقصدك إليه بالنحر لا كما تفعل قريش من صلاتها ، ونحرها لأضيافها ، وأما قوله تعالى : { وَٱنْحَرْ } ، قال علي - رضي الله عنه - ومحمد بن كعب القرظي : المعنى ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة . وعن علي - رضي الله عنه - أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره ، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : استقبل القبلة مكة بنحرك ، وهو قول الفراء ، والكلبي وأبي الأحوص . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : منازلنا تتناحر أي تتقابل نحر هذا بنحر هذا . وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب ، من قولهم : منازلهم تتناحر ، أي : تتقابل . [ وعن عطاء : أنه أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره . وقال محمد بن كعب القرظي : يقول : إن ناساً يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله - تعالى - فقد أعطيناك الكوثر ، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله تعالى . والنَّحر في الإبل بمنزلة الذَّبح في البقر والغنم ] . قوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } . يجوز أن يكون " هُوَ " مبتدأ و " الأبتر " خبره ، والجملة خبر " إن " ، وأن يكون فصلاً . وقال أبو البقاء : " أو توكيد " ، وهو غلط ؛ لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر . والأبترُ : الذي لا عقب له ، وهو في الأصل : الشيء المقطوع ، من بترهُ ، أي : قطعه . وحمار أبتر : لا ذنب له ، ورجل أباتر - بضم الهمزة - : الذي يقطع رحمه . قال : [ الطويل ] @ 5327 - لَئِيمٌ نَزتْ فِي أنْفهِ خُنزُوانَةٌ عَلى قَطْعِ ذِي القُرْبَى أحَذُّ أباتِرُ @@ وبتر - بالكسر - : انقطع ذنبه . قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال : من لا ولد له ومن الدواب : الذي لا ذنب له . [ وكل من انقطع من الخير أثره ، فهو أبتر . والبترُ : القطع بترت الشيء بتراً قطعته قبل الإتمام ، والانبتار : الانقطاع ، والباتر : السيف القاطع ] . وفي الحديث : " مَا هَذهِ البُتَيْرَاء ؟ " لمن أوتر بركعة واحدة ، فأنكر عليه ابن مسعود . وخطب زياد خطبة بتراء ، لم يذكر الله تعالى ، ولا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم . وكان للنبي درع يقال لها : " البتراء " سميت بذلك لقصرها وقال ابن السكيت الأبتران : العِيْرُ والعبد ، سيما بذلك لقلة خيرهما . [ والبتريّة فرقة من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد ، ولقبه الأبتر ] . وقرأ العامة : " شَانِئك " بالألف ، اسم فاعل بمعنى الحال ، أو الاستقبال أو الماضي . وقرأ ابن عبَّاس : " شنئك " بغير ألف . فقيل : يجوز أن تكون بناء مبالغة كـ " فعال " و " مفعال " ، وقد أثبته سيبويه ؛ وأنشد : [ الكامل ] @ 5328 - حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ ، وآمِنٌ ما ليْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ @@ وقول زيد الخيل : [ الوافر ] @ 5329 - أتَانِي أنَّهُمْ مَزقُونَ عِرْضِي جحَاشُ الكِرمَليْنِ لهَا قَديدُ @@ [ فإن كان بمعنى الحال ، والاستقبال ، فإضافته لمفعوله من نصب ، وإن كان بمعنى المضي فهي لا من نصب . وقيل : يجوز أن يكون مقصوراً من فاعل كقولهم : بر وبار ، وبرد وبارد ] . فصل في أقوال العلماء في الآية اختلف المفسرون [ في المراد ] بقوله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } فقيل : هو العاص بن وائل ، وكانت العرب تسمي من له بنون ، وبنات ، ثم مات البنون ، وبقي البنات : أبتر . فقيل : إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ، فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً ؟ فقال : مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من خديجة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي : المقطوع ذكره من خير الدنيا ، والآخرة . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان أهل الجاهلية ، إذا مات ابن الرجل قالوا : بُتر فلان ، فلما توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل لأصحابه ، فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى إن شانئك هو الأبتر يعني أبا جهل . وقال شهر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط . وقال السديُّ وابن زيد : إن قريشاً كانوا يقولون لمن مات له ذكور ولده : قد بتر فلان ، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسمُ بـ " مكة " ، وإبراهيم بـ " المدينة " ، قالوا : بتر محمد ، أي : فليس من يقوم بأمره من بعده ، فنزلت الآية . وقيل : لما أوحى الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً إلى الإيمان قالوا : انبتر منا محمد أي خالفنا وانقطع عنا ، فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون قاله عكرمة وشهر بن حوشب . فصل في المعاني التي احتوتها هذه السورة قال أهل العلم : قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على معان بليغة ، وأساليب بديعة ، منها : دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير . ومنها : إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه ، ومنها : إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كـ " أتَى أمْرُ اللهِ " . ومنها : تأكيد الجملة بـ " إنَّ " . ومنها : بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين ، ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ ، ومنها حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته . ومنها : تعريفه بـ " أل " الجنسية الدالة على الاستغراق ، ومنها : فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في " الأنعام " سبب الشكر والعبادة . ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى . ومنها : أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر . ومنها : حذف متعلق " انْحَرْ " إذ التقدير : فصلِّ لربِّك وانحر له . ومنها : مراعاة السجع ، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف . ومنها : قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي ، والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كلَّ خير إلا منه . ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : { لِرَبِّكَ } . ومنها : جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف , وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ , ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة , وإن كان المراد به شخصاً معيناً , لَعَيَّنَه الله تعالى . ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة ، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به ، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً ، قد يؤثر فيه شنؤه . ومنها تأكيد الجملة بـ " إنَّ " المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم ، وتقدير القسم يصلح هاهنا . ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا " هُوَ " فصلاً ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين . ومنها : تعريف الأبتر بـ " أل " المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة ، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة . ومنها : إقباله تعالى على رسوله بالخطاب ، من أول السورة إلى آخرها . روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } سقاه اللَّـهُ - تعالى - من أنهار الجنَّةِ , وأعطي مِنَ الأجْرِ عَشْر حسناتٍ , بعَددِ كُلِّ قربَانٍ قرَّبهُ العبادُ في كُلَّ عيدٍ أو يُقرِّبُونَهُ " . وعن مكحول - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } كَانَ لَهُ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغربِ أبعِرةٌ ، على كُلِّ كرَاريسُ ، كُل كرَّاس مثلُ الدُّنيَا ومَا فيهَا ، كتب بدقة الشَّعرِ ليْسَ فِيهَا إلاَّ صفة قصوره ، ومنَازله في الجنَّةِ " .