Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 109, Ayat: 1-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن الخطيب : " هذه السورة تسمى سورة البراءة وسورة الإخلاص ، والمشفعة " . روى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - : " إنَّها تعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ " . وروى ابن الأنباري عن أنس - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أيها الكافرون تَعدلُ رُبُعَ القُرآنِ " . وخرج الحافظ عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - " صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه في صلاة الفجر في سفرٍ ، فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ثم قال صلى الله عليه وسلم : " قَرَأْتُ عَلَيْكُم ثُلثَ القُرآنِ وربعهُ " " . [ وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " أتُحِبُّ يا جُبير إذا خَرجْتَ سَفَرَاً أنْ تكُونَ مِنْ أمثلِ أصْحَابِكَ هَيْئةً ، وأكْثرهمْ زَاداً " ؟ قلت : نَعَمْ ، فاقْرَأ هذه السُّور الخَمْسَ من أول : { قل يا أيها الكافرون } إلى { قل أعوذ برب الناس } ، وافتتِحْ قِرءاتَك بـ " بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ " " . قال : ] فوالله ، لقد كنت غير كثير المال ، إذا سافرت أكون أبذَّهُم هيئة ، وأقلهم مالاً ، فمذ قرأتهنّ صرت من أحسنهم هيئة ، وأكثرهم زاداً ، حتى أرجع من سفري ذلك . قال ابن الخطيب : والوجه في أنها تعدل ربع القرآن ، هو أن القرآن يشتمل على الأمر بالمأمورات ، والنهي عن المحظورات ، وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح ، وهذه السورة مشتملةٌ على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب ، فيكون ربع القرآن . وخرج ابنُ الأنباري عن نوفل بن فروة الأشجعي ، قال : " جاء رجُل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني ، قال : " اقرأ عِنْدَ مَنَامِكَ : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ " " . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس في القرآن أشدّ غيظاً لإبليس - لعنه الله - من هذه السورة ؛ لأنها توحيد ، وبراءة من الشرك . وقال الأصمعي : كان يقال لـ { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } المقشقشتان ، أي : أنهما تبرئان من النفاق . وقال أبو عبيدة - رضي الله عنه - : كما يقشقش الهناءُ الجرب فيبرئه . قال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف ، والجرب في الإبل إذا قفل : قد توسَّف جلده ، وتقشّر جلده ، وتقشقش جلده . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمدُ ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كلِّه ، فإن كان ما جئت به خيراً مما بأيدينا ، كنّا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظِّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله - عز وجل - { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } ، ونزل قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في الحرم ، وفيه الملأ من قريش ، فقام صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك . وروى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك ، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه السورة فيئسوا وآذوه ، وآذوا أصحابه . فإن قيل : لم وصفهم في هذه السورة بالكافرين وفي السورة الأخرى بالجاهلين كما تقدم ؟ . فالجوابُ : لأن هذه السورة بتمامها نزلت فيهم ، فتكون المبالغة فيها أشد فبولغ فيها بالوصف الأشنع ، وهو الكفر ، لأنه مذموم مطلقاً ، والجهل كالشجرة ، والكفر كالثمرة فقد يذم عند التقييد ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " عِلْمُ الإنْسَانِ عِلمٌ لا يَنْفَعُ ، وجَهْلٌ لا يَضُرُّ " . فإن قيل : قال في سورة التحريم : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الآية : 7 ] ، بغير " قُلْ " ، وهنا - جلَّ وعز - ذكر " قُلْ " وذكره باسم الفاعل . فالجواب : أنه في سورة " التحريم " إنما يقال لهم يوم القيامة ، وثمَّ لا يكون رسولاً إليهم ، فإذا زال الواسطة ، ويكونون في ذلك الوقت مطيعين ، لا كافرين ، فلذلك ذكره بلفظ الماضي . وأما هاهنا فكانوا موصوفين بالكفر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم ، فقال تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } . فأن قيل : هذا خطاب مع الكل ، وكان فيهم من يعبد الله تعالى ، كاليهود ، والنصارى ، فلا يجوز أن يقال لهم : { لا أعبدُ ما تَعْبُدُونَ } ، ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله : { وَلاَ أنْتُمَ عَابِدُونَ ما أعْبدُ } خطاباً مع الكل ؛ لأن في الكفار من آمن ، فعبد الله . فالجواب : أن هذا الخطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين ، وهم الذين قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة وأيضاً لو حملنا الخطاب على العموم دخله التخصيص ، وإذا حملناه على خطاب المشافهةِ لم يلزم ذلك . فصل قال القرطبي : الألف واللام ترجع إلى معنى المعهود ، وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لـ " أي " ، لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كُفرهِ ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم ؛ ونحوه عن الماوردي : نزلت جواباً وعتاباً وعنى بالكافرين قوماً معينين ، لا جميع الكافرين ، لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات ، أو قتل على كفره ، وهم المخاطبون بهذا القول ، وهم المذكورون . فصل قال ابن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن : " قل للذين كفروا ، لا أعبد ما تعبدون " وزعم أن ذلك هو الصواب ، وذلك افتراء على ربِّ العالمين ، وتضعيف لمعنى هذه السورة ، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين ، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري ، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لُبّ وحجر وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل ، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى ، وتزيد تأويلاً ليس في باطلهم ، وتحريفهم ، فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا ، يا أيها الكافرون ، دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا ، فمعناه ، قل لزيد يا زيد أقبل إلينا ، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ، وسقط من باطلهم أحسن لفظ ، وأبلغ معنى ، إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : " يا أيُّها الكَافِرُونَ " وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفرِ ، ويدخلوا في جملة أهله ، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم بدٌ ، أو تقع به من جهتهم أذية ، فمن لم يقرأ : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } ، كما أنزلها الله ، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبيل أهل الإسلام ألاَّ يسارعوا إلى مثلها ، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه ، التي منحه الله إياها ، وشرفه بها . فصل في الكلام على " يا " قال ابنُ الخطيب : روي عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أن " يا " نداء النفس ، و " أي " نداء القلب و " ها " نداء للروح . وقيل " يا " نداء الغائب ، و " أي " للحاضر ، و " ها " للتنبيه ، كأنه - عزَّ وجلَّ - يقول : أدعوك ثلاثاً ، ولا تجبني مرة . قوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . في " مَا " هذه في هذه السورة وجهان : أحدهما : أن تكون بمعنى " الذي " . والثانية : فالأمر فيها واضح ؛ لأنها غير عقلاء . و " ما " أصلها أن تكون لغير العقلاء ، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة ، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلمِ ، ومن منع جعلها مصدرية ، والتقدير : ولا أنتم عابدون عبادتي ، أي : مثل عبادتي . وقال أبو مسلم : " ما " في الأوليين بمعنى " الذي " والمقصود : المعبود ، و " ما " في الأخريين مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين ، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال : أنها كلَّها بمعنى " الذي " ، أو مصدرية ، أو الأوليان بمعنى الذي ، والثالثة والرابعة مصدرية ، لكان حسناً ، حتى لا يلزم وقوع " ما " على أولي العلم ، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم ، كما تقدم . فصل في التكرار في الآية اختلفوا في التَّكرار - هاهنا - هل هو للتأكيد ، أم لا ؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيد لقوله { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ثانياً تأكيد لقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أولاً . ومثله : { فَبِأَيِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ، و { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] في سورتيهما ، و { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، و { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [ النبأ : 4 , 5 ] وفي الحديث : " فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي " ؛ وقال الشاعر : [ مجزوء الكامل ] @ 5330 - هَلاَّ سَألْـتَ جُموعَ كِنْـ ـدّةَ يَـوْمَ ولَّـوْا أيْـنَ أيْنَـا @@ وقوله : [ الرجز ] @ 5331 - يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَـهْ يَا عَلْقَمَهْ خَيْـرَ تَمِيـمٍ كُلِّهَـا وأكْرمَـهْ @@ وقوله : [ الرجز ] @ 5332 - يَا أقَرعُ بْنُ حَابِـسٍ يَا أقْـرَعُ إنَّكَ إنْ يُصْـرَعْ أخُـوكَ تُصْـرَعُ @@ وقوله : [ الطويل ] @ 5333 - ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ @@ وقوله : [ الرجز ] @ 5334 - يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر إنْ أكُ دَحْـدَاحَـاً فـأنـت أقْصَـرُ @@ وقوله : [ المديد ] @ 5335 - يَا لَبكْرٍ أنْشِزُوا لِي كُلَيْبَاً يَـا لَبكْـرٍ أيْـنَ أيْـنَ الفِـرَارُ @@ قالوا : والقرآن جاء على أساليب كلام العرب ، وفائدة التكرير هنا ، قطع أطماع الكفار , وتحقيق الإخباربموافقتهم على الكفر , وأنهم لا يسلمون أبداً . وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك , [ ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ] ، فنجري على هذا أبداً سنةٌ وسنةً ، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ، أي : أن هذا لا يكون أبداً . وقال جماعة : ليس للتأكيد ، فقال الأخفش : " لا أعبدُ " الساعة " مَا تَعْبُدُونَ ، ولا أنْتُم عَابِدُونَ " السنة " ما أعبدُ " فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ؛ فزال التوكيد إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير ؛ انتهى . وفيه نظر ، كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان ؟ هذا مما لا يصح ، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة ، فنزلت ، فكيف يستقيم هذا ؟ . وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه ، وهو كون " ما " في الأوليين بمعنى " الذي " ، وفي الأخريين : مصدرية ، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى ، وهذا موجود ، كيف قدر " مَا " . وقال ابن عطية : لما كان قوله : " لا أعْبدُ " محتملاً أن يراد به الآن ، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه جاء البيان بقوله : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أبداً وما حييت ، ثم جاء قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب ، كما قيل لنوح - عليه الصلاة والسلام - : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ } [ هود : 36 ] ، فهذا معنى التَّرديد في هذه السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته انتهى . وقال الزمخشريُّ : " لا أعبد " أريد به العبادة فيما يستقبل ؛ لأن " لا " لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن " أن " لا تدخل إلاَّ على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى [ أنَّ " لَنْ " تأكيد فيما تنفيه " لا " . وقال الخليل في " لن " : إن أصله : ] " لا أن " والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : ما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنمٍ في الجاهلية , فيكف ترجى مني في الإسلام ؛ { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت وما أنا على عبادته . فإن قلت : فهلاَّ قيل : ما عبدت كما قيل : ما عبدتم ؟ . قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن ليعبد الله - تعالى - في ذلك الوقت . فإن قلت : فلم جاء على " ما " دون " من " ؟ قلت : لأن المراد الصفة , كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل : إن " ما " مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي انتهى . [ يعني أنه أريد به الصفة ، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة " والشمس وضحاها " ] . وناقشه أبو حيَّان ، فقال : أما حصره في قوله : لأن " لا " لا تدخل ، وفي قوله : إنَّ " مَا " تدخل ، فليس بصحيح ، بل ذلك غالب فيهما ، لا متحتم ، وقد ذكر النحاةُ دخول " لا " على المضارع يراد به الحال ، ودخول " ما " على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسُوطات من كتب النحو . ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال : وتكون " لا " نفياً ، لقوله : " نفعل " ولم يقع الفعلُ ، قال : " وأمَّا " مَا " فهي نفي ، لقوله : هو يفعل إذا كان في حال الفعل . فذكر الغالب فيهما . وأما قوله تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } ، أي : وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن " عابدٌ " اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يعتبر بالحال ، أو الاستقبال ، وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي ، وهشام في جواز إعماله ماضياً . وأما قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته فـ " عَابِدُون " قد أعمله في : " مَا أعبدُ " ، فلا يفسر بالماضي . وأما قوله : " وهو لم يكن " ، إلى آخره ، فسوء أدب على منصب النبوة ، وغير صحيح ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مُوحِّداً لله تعالى ، مُنزِّهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه مجتنباً لأصنامهم يقف على مشاعر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ويحجّ البيت ، وهذه عبادة ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم ، ومعرفة الله - تعالى - أعظم العبادات . قال الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قال المفسرون : أي ليعرفون ، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى . قال شهاب الدين : ويجاب عن الأول : أنه من بنى أمره على الغالب ، فلذلك أتى بالحصرِ ، وأما ما حكاه سيبويه ، فظاهر معه ، حتى يقوم دليل على غيره ، وعن إعماله اسم الفاعل مفسراً له بالماضي بأنه على حكاية الحال ، كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] ، وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 72 ] ، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يزل منزهاً موحداً لله تعالى ، فمسلم ذلك . وقوله : " وهذه أعظم العبادات " فمسلم أيضاً ، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة ، وهي الصلاة المخصوصة ؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم ، وصلاتهم لها ، فقابل هذا صلى الله عليه وسلم بصلاته لله تبارك وتعالى ، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل المبعث ، وهو مذهب ساقط الاعتبار ؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده ، وهي : أنه كان يتحنَّثُ ، كان يتعبد ، كان يصوم ، كان يطوف ، كان يقف ، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس . وفي الجملة ، فالمسألة خلافية ، وإذا كان متعبداً فبأي شرع كان يتعبدُ به ؟ فقيل : شريعة نوح عليه الصلاة والسلام . وقيل : إبراهيم عليه السلام . وقيل : موسى . وقيل : عيسى - صلوات الله عليهم أجمعين - ، وذلك مذكور في الأصول . ثم قال أبو حيان : والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل ؛ لأن الغالب في " لا " أن تنفى المستقبل ، ثم عطف عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نفياً للمستقبل ؛ لأن اسم الفاعل العامل ، الحقيقة فيه : دلالته على الحال ، ثم عطف عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نفياً للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى ، أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون حالاً ، ولا مستقبلاً , وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر ، ولما قال : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فأطلق " ما " على الأصنام ، قابل الكلام بـ " ما " في قوله : " مَا أعبدُ " وإن كان المراد الله ، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا مذهب من يقول : إن " مَا " لا تقع على آحاد أولي العلم ، أما من جوز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل . قال القرطبيُّ : كانوا يعبدون الأوثان ، فإذا ملُّوا وثناً ، وسئمُوا العبادة له رفضوه ، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم ، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ، ورفعوا تلك ، فعظموها ، ونصبوها آلهة يعبدونها ، فأمر أن يقول : { لا أعبدُ مَا تعبدُون } اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : { ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ } إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه ، وهو عندكم الآن ، { وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ } ، فإني أعبد إلهي . قوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } . أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صلى الله عليه وسلم من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه ، فلما تحقق النفيُ رجع صلى الله عليه وسلم إلى خطابه بقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ } مهادنة لهم ، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال . وفتح الياء في " لِيَ " : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه ، وأسكنها الباقون . وحذف " الياء " من " ديني " وقفاً ووصلاً : السبعة ، وجمهور القراء ، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب ، وقالوا : لأنها اسم مثل الكاف في " دينك " والثاني قد تقدم إيضاحه . فصل في الكلام معنى التهديد ، كقوله تعالى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [ البقرة : 139 ] ، أي : إن رضيتم بدينكم ، فقد رضيناه بديننا ، ونسخ هذا الأمر بالقتال . [ وقيل : السورة منسوخة . وقيل : ما نسخ منها شيء ؛ لأنها خبر ، ومعنى لكم دينكم : أي جزاء دينكم ، ولي دين : أي جزاء ديني ، وسمى دينهم ديناً ؛ لأنهم اعتقدوه ] . وقيل : المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي ، أي : لأن الدين الجزاء . وقيل : الدِّين العقوبة ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } [ النور : 2 ] ، والمعنى : لكم العقوبة من ربِّي ، ولي العقوبة من أصنامكم ، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام ؛ لأنها جمادات ، وأما أنتم فيحق عليكم أن تخافوا عقوبة جبَّار السَّماوات والأرض . وقيل : الدين الدعاء ، لقوله تعالى : { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ غافر : 14 ] ، وقوله : { وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ الرعد : 14 ] . وقيل : الدين العادة ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 5336 - تَقُولُ إذَا دَرأتُ لهَا وضِينِي أهَذَا دِينهُ أبَداً ودينِي @@ والمعنى : لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشيطان ، ولي عادتي من ربي . فصل قال ابن الخطيب : " جرت العادة بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المناكرة ، وذلك غير جائز ؛ لأن القرآن أنزل ليتدبر فيه ، ويعمل بموجبه ، فلا يتمثّل به " . والله أعلم .