Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 110, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } : عليك وعلى أمتك ، والمقصود : إذا جاء هذان الفعلان من غير نظر إلى متعلقهما ، كقوله تعالى : { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] . " أل " في " الفتح " عوض من الإضافة : أي : وفتحه عند الكوفيين ، والعائد محذوف عند البصريين ، أي : والفتح منه للدلالة على ذلك ، والعامل في " إذا " : " جاء " وهو قول مكي ، وإليه ذهب أبو حيَّان وغيره في مواضع وقد تقدم ذلك . وإما " فسبِّح " ، وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفي ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء ، ورده أبو حيَّان بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها ، وفيه بحثٌ تقدم بعضه في سورة " الضحى " . فصل في الكلام على " نصر " النصر : العون ، مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض ، إذا أعان على إنباتها . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 5337 - إذَا انْسَلَخَ الشَّهْرُ الحَرامُ فَوَدِّعي بِلادَ تَمِيمٍ وانصُرِي أرضَ عَامرِ @@ ويروى : [ الطويل ] @ 5338 - إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَجَاوِزِي بِلادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِر @@ يقال : نصره على عدوه ينصره نصراً ، أي : أعانه ، والاسم : النُّصرة ، واستنصره على عدوه ، أي : سأله أن ينصره عليه ، وتناصروا : نصر بعضهم بعضاً . وقيل : المرادُ بهذا النصر : نصر الرسول - عليه الصلاة والسلام - على قريش قاله الطبري . [ وقيل نصره على من قاتله من الكفار وأن عاقبه النصر كانت له وأما الفتح فهو فتح مكة ، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير هو فتح المدائن والقصور وقيل فتح سائر البلاد ، وقيل ما فتحه عليه من العلوم ، وقيل إذا بمعنى قد جاء نصر الله لأن نزولها بعد الفتح ، ويجوز أن يكون معناه إذا يجيئك ] . فصل في الفرق بين النصر والفتح قال ابن الخطيب : الفرق بين النصر والفتح ، الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً ، والنصر كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر ، وعطف الفتح عليه ، ويقال : النصرُ كمالُ الدينِ والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمةِ ، كقوله تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] . والنَّصْر : الظَّفر في الدنيا ، والفتح : بالجنة . فصل في المراد بهذا النصر قال ابن الخطيب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مؤيداً منصوراً بالدلائل ، والمعجزات ، فما المعنى بتخصيص لفظ النصر بفتح " مكة " ؟ . والجواب : أن المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع . فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى ، قال تعالى : { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ الأنفال : 10 ] فما فائدة التقييد بقوله تعالى : { نَصْرُ ٱللَّهِ } ؟ . فالجواب : معناه : لا يليق إلا بالله ، كما يقال : هذه صنعة زيد ، إذا كان مشهوراً ، فالمراد هذا هو الذي سألتموه . فإن قيل : لم وصف النصر بالمجيء ، وحقيقته : إذا وقع نصر الله ، فما الفائدة في ترك الحقيقة ، وذكر المجاز ؟ . فالجواب : أن الأمور مرتبطةٌ بأوقاتها ، وأنه - تعالى - قد ربط بحدوث كلِّ محدث أسباباً معينة ، وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم ، والتأخر ، والتبدل ، والتغير ، فإذا حضر ذلك الوقت ، وجاء ذلك الزمان حضر ذلك الأثر معه ، وإليه الإشارة بقوله : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] . فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم الصحابة - رضي الله عنهم - ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما السبب في إضافة النصر إليه ؟ . فالجواب : أن النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدَّ لهم من داعٍ وباعث ، وهو من الله تعالى . فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد متقدماً على فعل الله ، وهو خلاف قوله تعالى : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] فجعل نصر العبد مقدماً على نصره لنا . فالجواب : أن لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله - تعالى - فإن أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكها العقول البشرية . قوله : { وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ } ، " رأيت " يحتمل أن يكون معناه : أبصرت ، وأن يكون معناه : علمت ، فإن كان معناه " أبصرت " كان " يَدخُلونَ " في محل النصب على الحال ، والتقدير : ورأيت الناس يدخلون حال دخولهم في دين الله أفواجاً ، وإن كان معناه : " علمت " كان " يدخُلونَ " مفعولاً ثانياً لـ " علمت " والتقدير : علمت الناس داخلين في دين الله أفواجاً . وفي عبارة الزمخشري : أنه كان بمعنى " أبصرتُ " ، أو " عرفت " . وناقشه أبو حيان : بأن " رأيت " لا يُعرف كونها بمعنى " عرفت " قال : " فيحتاج في ذلك إلى استثبات " . وقرأ العامة : " يدخلون " مبنياً للفاعل . وابن كثير في رواية : مبنياً للمفعول و " فِي دِيْنِ " ظرف مجازي ، وهو مجاز فصيح بليغ هاهنا . قوله : { أَفْوَاجاً } حال من فاعل " يَدخُلُونَ " . قال مكي : " وقياسه : " أفوج " إلا أن الضمة تستثقل في الواو فشبهوا " فعلاً " - يعني بالسكون - بـ " فَعل - يعني بالفتح - فجمعوه جمعه " انتهى . أي : أن " فَعْلاً " بالسكون ، قياسه " أفعُل " كـ " فَلْس " و " أفلُس " إلا أنه استثقلت الضمةُ على الواوِ ، فجمعوه جمع " فعل " بالتحريك نحو : جمل ، وأجمال ، لأن " فعْلاً " بالسكون على " أفعال " ليس بقياس إذا كان فعلاً صحيحاً ، نحو : فرخ وأفراخ وزند وأزناد ، ووردت منه ألفاظ كثيرة ، ومع ذلك فلم يقيسوه ، وقد قال الحوفي شيئاً من هذا . فصل في الكلام على لفظ الناس ظاهر لفظ " النَّاس " للعموم ، فيدخل كل النَّاس أفواجاً ، أي : جماعات ، فوجاً بعد فوجٍ ، وذلك لما فتحت " مكة " قالت العرب : أما إذْ ظفر محمد صلى الله عليه وسلم باهل الحرم ، وقد كان الله - تعالى - أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ؛ فكانوا يسلمون أفواجاً أفواجاً أمة بعد أمةٍ . قال الضحاكُ : والأمة : أربعون رجلاً . وقال عكرمةُ : ومقاتل : أراد بالنَّاس أهل " اليمن " ، وذلك أنه ورد من " اليمن " سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين ، بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرءون القرآن ، وبعضهم يهلِّلُون ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } وجاء أهل اليمن ، رقيقة أفئدتهم لينة طباعهم ، سخية قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجاً . وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتَاكُمْ أهْلُ اليَمنِ ، وهُمْ أضْعَفُ قُلوباً ، وأرَقُّ أفئِدَةٌ ، الفقهُ يمانٍ ، والحِكمةُ يَمَانِيةٌ " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لأجدُ نَفَسَ ربِّكُمْ من قبلِ اليَمنِ " وفيه تأويلان : أحدهما : أنه الفرجُ ، لتتابع إسلامهم أفواجاً . والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل " اليمن " و [ الأنصار ] . وروى جابرُ بنُ عبد الله قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ النَّاس دخلوا في دينِ اللهِ أفواجاً وسيَخرُجُونَ مِنهُ أفواجاً " ذكره الماوردي . قال ابن الخطيب : كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً ، واثنين اثنين . فصل في المراد بدين الله ودينُ الله ، هو الإسلام ، لقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] ، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية ، إشارة إلى أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً ، وللدين أسماء أخر ، قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 35 ، 36 ] . ومنها : الصراط ، قال تعالى : { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ الشورى : 53 ] . ومنها : كلمة الله ، ومنها النور : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [ الصف : 8 ] . ومنها الهدى ، قال تعالى : { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 88 ] . ومنها العروة الوثقى { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ } [ البقرة : 256 ] . ومنها : الحبلُ المتين : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } [ آل عمران : 103 ] . ومنها : حنيفة الله ، وفطرة الله . فصل في إيمان المقلد قال جمهور الفقهاء والمتكلمين : إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً ، لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ، وإثبات كونه تعالى منزّهاً عن الجسمية ، والمكان والحيز ، وإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، ولا إثبات الصفات ، والتنزيه بالدليل ، والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ، لا يقال : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل ؛ لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة ، بل كانوا جاهلين بالتفاضل ؛ لأنا نقول : إن الدليل لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان ، فإن الدليل إذا كان مركباً من عشر مقدمات ، فمن علم تسعة منها ، وكان في المقدمة العاشرة مقلداً ، كان في النتيجة مقلداً لا محالة . قوله : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، { بِحَمْدِ رَبِّكَ } حال ، أي : ملتبساً بحمده . قال ابن الخطيب : إنه - تعالى - أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح ، ثم بالحمد ، ثم بالاستغفار ، والفائدة فيه أن تأخير النصر سنين ، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان على الحقّ ، مما يثقل على القلب ، ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا ينصرني ، ولو سلطت على هؤلاء الكفار . فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر ، أمر بالتسبيح أما على قولنا : فالمراد من هذا التنزيه ، أنه تعالى منزَّه عن أن يستحق عليه أحد شيئاً [ بل كل ما يفعله بحكم المشيئة الإلهية ، فله أن يفعل ما شاء كما يشاء ، ففائدة التسبيح : تنزيه الله تعالى عن أن يستحق عليه أحد شيئاً ] . وأما على قول المعتزلة ، ففائدة التنزيه : هو أن يعلم العبد أن تنزيه اللهِ تعالى عما لا يليق ولا ينبغي بسبب المصلحة ، لا بسبب ترجيح الباطل على الحق ، ثم إذا فرغ العبد من تنزيه الله ، فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطاه من الإحسان والبر ، ثم حينئذ بالاستغفار بذنوب نفسه . فصل في معنى الآية قال المفسرون : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ } أي : إذا صليت ، فأكثر من ذلك . وقيل : معنى " سَبِّحْ " صلِّ ، قاله ابن عبَّاس رضي الله عنهما . [ وقوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } حامداً له على ما آتاك من الظفر ، والفتح ، واستغفره أي : سلوا الله الغفران . وقيل : فسبح أي : المراد به التنزيه ، أي : نزهه عما لا يجوز عليه ، مع شكرك له ، وبالاستغفار ، ومداومة الذكر ] . وروي في " الصحيحين " عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } إلا يقولُ فيها : سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدِكَ اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي " . وقالت أم سلمة - رضي الله عنها - : " كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ، ولا يقعد ، ولا يجيء ، ولا يذهب إلاَّ قال : " سُبحانَ اللهِ وبحَمدهِ ، أسْتغْفِرُ الله ، وأتوبُ إليه " قال : " فإنِّي أمرتُ بِهَا " ، ثم قرأ : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } " إلى أخرها . وقال عكرمة : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قط أشدّ اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها . وقال مقاتل : " لما نزلت ، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص ، ففرحوا ، واستبشروا ، وبكى العباس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا يُبْكيْكَ يَا عمّ " . قال : نُعيتْ إليك نَفسُكَ ، قال : " إنَّهُ لَكَمَا تقُولُ " ، فعاش بعدها ستين يوماً ، ما رئي فيها إلا ضاحكاً مستبشراً " . وقيل : " نزلت في " منى " بعد أيام التشريق ، في حجَّة الوداعِ ، فبكى عمر والعباس فقيل لهما : إن هذا يوم فرح ، فقال : لا بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقتما ، نعيت إليَّ نفسي " " . وروى البخاري ، وغيره عن ابن عبَّاس ، قال : كان عمر بن الخطَّاب يأذن لأهل بدر ، ويأذن لي معهم ، قال : فوجد بعضهم من ذلك ، فقالوا : يأذن لهذا الفتى معنا ، ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم ، قال : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورةِ : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } ، فقالوا : أمر الله - جلَّ وعزَّ - نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره , وأن يتوب إليه , فقال : ما تقول يا ابن عباس ؟ . قلتُ : ليس كذلك ولكن أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بحضور أجله , فقال : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } , فذلك علامة موتك , { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا } , فقال عمر - رضي الله عنه - : تلومونني عليه ؟ وفي رواية : قال عمر : " ما أعلم منها إلا ما تقول " . فصل فإن قيل : فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار ؟ . فالجواب : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : " ربِّ اغفِرْ لِي خَطيْئَتِي وجَهْلِي ، وإسْرافِي في أمْرِي كُلِّه ، ومَا أنْتَ أَعْلَمُ بِهِ منِّي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطيئَتِي ، وعمدي ، وجهْلِي وهزلِي ، وكل ذلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغفر لِي ما قدَّمْتُ وما أخَّرتُ ، وما أعْلنتُ ، ومَا أسْرَرْتُ ، أنتَ المُقدِّمُ ، وأنتَ المُؤخِّرُ ، إنَّكَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ " . [ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر لنفسه لعظيم ما أنعم الله عليه ، ويرى قصوره عن القيام بحقّ ذلك . وقيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى كن متعلقاً به سائلاً راغباً متضرعاً على رؤية التقصير في أداء الحقوق . وقيل : الاستغفار نفسه يجب إتيانه لا للمغفرة بل تعبداً . وقيل : واستغفر أي : استغفر لأمتك إنه كان تواباً على المسبحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم ، وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار فماذا يظنّ بغيره ] . فصل في تفسير الآية قد مرَّ تفسير الحمد ، وأما تفسير قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ففيه وجوه : الأول : قال الزمخشري : قل : سبحان الله ، والحمد لله ، تعجباً مما أراك الله من عجيب إنعامه ، أي : اجمع بينهما ، كقولك : الماءُ باللبن ، أي : اجمع بينهما خلطاً ، وشرباً . الثاني : أنَّ التسبيح داخل في الحمد ؛ لأنك إذا حمدت الله تعالى ، فقد سبَّحته بواسطته ، لأن الثناء عليه ، والشكر له يتضمن تنزيهه عن النقائص ، ولذلك جعل الحمد مفتاح القرآن ، فمعنى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، أي : سبحه بواسطته ، أن تحمده ، وأن تسبحه بهذا الطريق . الثالث : أن يكون حالاً ، أي : سبحه مقدراً أن تحمد بعد التسبيح ، كأنك تقول : لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً ، فاجمعهما نية كما تنوي الصلاة يوم النحر مقدراً أنك تنحر بعدها ، فيجتمع لك الثواب في تلك الحالة . الرابع : أن هذه الباء كهي في قولك : فعلت هذه بفضل الله ، أي : بحمده ، أي : أنه الذي هداك لرشدك لا تجد غيره ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " الحَمدُ للهِ على الحَمْدِ " . الخامس : قال السديُّ : " بحمدِ ربِّك " أي : بأمر ربك . السادس : أن تكون الباء زائدة ، والتقدير : سبح حمد ربك ، أي : طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة ، أو اختر له أطهر المحامد ، وأذكاها وأحسنها أو ائْتِ بالتسبيح والتنزيه بدلاً عن الحمد . السابع : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لا يتأخر أحدهما عن الآخر ، ولا يمكن أن يؤتى بهما معاً ، ونظيره : من ثبت له حق الشفعة ، وحق الرد بالعيب وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع ، كذا هاهنا ، قال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ليقع معاً ، فيصير مسبحاً حامداً في وقت واحد معاً . [ فإن قيل : التوبة مقدمة على جميع الطَّاعات ، ثم الحمد مقدم على التسبيح ؛ لأن الحمد على النعم ، والنعم سابقة أيضاً ، والاستغفار سابق ، ثم التسبيح ؟ فالجواب لعله بدأ بالأشرف تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق ، أو نبّه بذلك على أن التسبيح والحمد الصادرين من العبد ، إذا قابلا جلال الحقّ وعزته استوجبا الاستغفار ، ولأن التسبيح والحمد إشارة إلى تعظيم أمر الله ، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، فالأول كالصلاة ، والثاني كالزكاة فكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة ، فكذا هاهنا ] . فإن قيل : قوله تعالى : { كَانَ تَوَّابَا } بدل من الماضي ، وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وأيضاً : هلا قال سبحانه : { غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، كما قال تعالى في سورة نوح عليه الصلاة والسلام . وأيضاً قال تعالى : { نَصْرُ ٱللَّهِ } ، وقال : { فِي دِينِ ٱللَّهِ } وقال : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } ولم يقل : بحمد الله . فالجواب عن الأول : أن هذا أبلغ كأنه يقول : إني أثنيت على من هو أقبح فعلاً منهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات الظاهرة العظيمة ، كفلق البحر ، ونتق الجبل ونزول المنِّ والسلوى عصوا ربَّهم ، وأتوا بالقبائح ، ولما تابوا قبلت توبتهم ، فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك ، وهم دونكم ، أفلا أقبل توبتكم ، وأنتم خير أمة أخرجت للنَّاس ؟ أو لأني شرعت في توبة العصاة ، والشروع ملزم أو هو إشارة إلى تخفيف جنايتهم ، أي : لستم أول من جنى ، والمصيبة إذا عمت خفت ؛ أو كما قيل : [ المتقارب ] @ 5339 - كَما أحْسنَ اللهُ فِيما مَضَى كَذلِكَ يُحسِنُ فِيمَا بَقِي @@ والجواب عن الثاني : لعله خص هذه الأمة بمزيد الشرفِ ، لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار أو يقال : تواباً ، ويقال إذا كان آتياً بالتوبة ، فكأنه تعالى يقول : كنت لي سمياً من أول الأمر ، أنت مؤمن ، وأنا مؤمن ، وإن اختلف المعنى فتب حتى صرت سمياً في آخر الأمر ، فأنت تواب ، وأنا تواب ، ثم التواب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيراً ، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً . [ وأنه إنما قال : تواباً ، لأن القائل قد يقول : أستغفر الله ، وليس بتائب كقول المستغفر بلسانه المصر بقلبه ، كالمستهزئ . فإن قيل قد يقول : أتوب ، وليس بتائب . فلنا : فإذن يكون كاذباً ، فإن التوبة اسم للرجوع ، أو الندم بخلاف الاستغفار ، فإنه لا يكون كاذباً فيه ، فيكون تقدير الكلام : وأستغفر الله بالتوبة ، وفيه تنبيه على خواتم الأعمال ] . والجواب عن الثالث : أنه راعى العدل ، فذكر اسم الذَّات مرتين ، وذكر اسم الفعل مرتين ؛ أحدهما : الرب والثاني : التواب ، فلما كانت التربية تحصل أولاً ، والتوبة آخراً ، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً ، واسم التوبة أخراً . فصل في نزول السورة قال ابن عمر - رضي الله عنهما - نزلت هذه السورة بـ " منى " في حجة الوداع ثُمَّ نزلت : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها خمسين يوماً ، ثم نزل : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ، ثم نزلت : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 281 ] فعاش بعدها صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً . وقال مقاتل : سبعة أيام . وقيل غير ذلك . فصل قال ابن الخطيب : اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : كيف دلت السورة على هذا المعنى ؟ . فالجواب من وجوه : أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عقيب السورة ، وذكر التخيير . وثانياً : أنه لما ذكر حُصول النَّصر ، ودخول النَّاس في دين الله أفواجاً ، دل ذلك على حصول التمام ، والكمال ، وذلك يستعقبه الزَّوال ؛ كما قيل : [ المتقارب ] @ 5340 - إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقصهُ تَوقَّعْ زَوالاً ، إذا قِيلَ : تَمْ @@ وثالثها : أنه جل ذكره أمر بالتسبيح ، والحمد ، والاستغفار مطلقاً ، واشتغاله صلى الله عليه وسلم بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أنّ التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت ، لأنه لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، لكان كالمعزول عن الرسالة ، وهذا غير جائزٍ . ورابعها : قوله : " واسْتَغْفِرْهُ " تنبيه على قرب الأجل ، كأنه يقول : قرب الأجل ودنا الرحيل فتأهّبْ . ونبه على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله يستكثر من التوبة . وخامسها : كأنه قيل : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته ، وهو النصر والفتح ، والله تعالى وعدك بقوله : { وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا ، فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادة العالية . روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأَ سُورةَ : " النصر " فَكَأنَّمَا شَهِدَ مَع مُحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام فَتْح مَكَّة " .