Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 114, Ayat: 1-6)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } . قرئ : " قُلَ عُوذُ " بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى اللام ، ونظيره : { فَخُذَ أَرْبَعَةً } [ البقرة : 260 ] . وأجمع القراء على تلك الإمالة في " النَّاس " إذا كان في موضع الخفضِ . ومعنى " رَبّ الناس " مالكهم ، ومصلح أمورهم ، وإنما ذكر أنه " رَبّ الناس " ، وإن كان رباً لجميع الخلق لأمرين : أحدهما : لأن الناس معظمون ، فأعلم بذكرهم أنه ربٌّ لهم وإن عظموا . والثاني : لأنه أمر بالاستعاذة من شرِّهم ، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم ، وإنما قال : { مَلِكِ ٱلنَّاسِ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم ، وفي الناس من يعبد غيره ، فذكر أنه إلههم ، ومعبودهم ، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ، ويلجأ إليه دون الملوك ، والعظماء . قوله : { مَلِكِ ٱلنَّاسِ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } . يجوز أن يكونا وصفين لـ " ربّ الناس " وأن يكونا بدلين ، وأن يكونا عطف بيان . قال الزمخشري : فإن قلت : " ملك الناس ، إله الناس " ؟ ما هما من " رب الناس " ؟ قلت : هما عطف بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق ، بين بـ { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } ثم زيد بياناً بـ { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } ؛ لأنه قد يقال لغيره : " رب النَّاس " ، كقوله : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] ، وقد يقال : " ملك النَّاس " ، وأما " إله النَّاس " فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان . واعترض أبو حيَّان : بأن البيان يكون بالجوامد ، ويجاب عنه بأن هذا جارٍ مجرى الجوامد وقد تقدم تقريره في " الرحمن الرحيم " أول الفاتحة . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : " بربِّ النَّاس " مضافاً إليهم خاصة ؟ . قلت : لأن الاستعاذة وقعت من شر الوسواس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم . قال الزمخشري : " فإن قلت : فهلاَّ اكتفي بإظهار المضاف إليه الذي هو النَّاس مرة واحدة ؟ لأن عطف البيان للبيان ، فكان مظنةً للإظهار دون الإضمار " . وكرر لفظ " النَّاس " ؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار ، ولأن التكرار يقتضي مزيد شرف الناس ، وأنهم أشرف مخلوقاته . قال ابن الخطيب : وإنما بدأ بذكر الرب تعالى ، وهم اسم لمن قام بتدبيره ، وإصلاحه من أوائل نعمه إلى أن رباه ، وأعطاه العقل ، فحينئذ عرف بالدليل أنه مملوك وأنه ملك ، فثنى بذكر الملك ، ثم لما علم أن العبادة لازمة له ، وعرف أنه معبود مستحق للعبادة وعرفه أنه إله فلهذا ختم به . قال ابن الخطيب : ولم يقرأ في المشهورة هنا " مالك " بالألف ، كما قرئ به في الفاتحة ، لأن معنى المالك هو الربُّ ، فيلزم التكرار . وقرئ به في الفاتحة ، لاختلاف المضافين ، فلا تكرار . قوله : { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ } . قال الزمخشري : " اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأما المصدر : فوِسْواس - بالكسر " كزِلْزَال " ، والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته ، وشغله الذي هو عاكف عليه ، وأريد ذو الوسواس " . انتهى ، وقد مر الكلام معه أن المكسور مصدر ، والمفتوح اسم في " الزلزلة " ؛ فليراجع . والوَسْوَسَةُ : حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وَسْوَسة ووِسْوَسة - بكسر الواو - قاله القرطبي . ويقال لهمس الصائد ، والكلاب ، وأصوات الحليّ : وسواس . قال ذو الرمة : [ البسيط ] @ 5372 - فَبَـاتَ يُشئِـزُهُ ثَـأَدٌ ويُسهِـرهُ تَذؤُّبُ الرِّيحِ والوَسْـوَاسُ والهِضَبُ @@ وقال الأعشى : [ البسيط ] @ 5373 - تَسْمَعُ للحَلْي وسْوَاساً إذا انصَرفَتْ كمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ @@ قوله : " الخنَّاس " أي : الرجَّاع ؛ لأنه إذا ذكر الله - تعالى - خنس ، وهو مثال مبالغة من الخنوس . يقال : خنس أي تأخر ، يقال : خنستة فخنس ، أي أخرته فتأخر ، وأخنسته أيضاً . وتقدم الكلام على هذه المادة في سورة : { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] . { ٱلَّذِى يُوَسْوِس } : يجوز جره نعتاً وبدلاً [ وبياناً لجريانه مجرى ] الجوامد ، ونصبه ورفعه على القطع . قال القرطبي : " ووصف بالخناس ؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } [ التكوير : 15 ] يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها " . فصل في الكلام على الشيطان قال مقاتل : إن الشيطان في سورة خنزير ، يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه ، سلَّطه الله على ذلك ، فذلك قوله تعالى : { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الشَّيطَانَ يَجْرِي من ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ " رواه البخاري ومسلم . قال القرطبي : " ووسوسته : هو الدعاء إلى طاعته ، حتى يصل به إلى القلب ، من غير صوت " . قوله : { مِنَ ٱلْجِنَّةِ } . فيه أوجه : أحدها : أنه بدل من " شرّ " بإعادة العامل ، أي : من شر الجنة . الثاني : أنه بدل من ذي الوسواس ؛ لأن الموسوس من الجن والإنس . الثالث : أنه حال من الضمير في " يُوسْوِسُ " حال كونه من هذين الجنسين . الرابع : أنه بدل من " النَّاس " وجعل " مِنْ " تبييناً ، وأطلق على الجن اسم النَّاس ؛ لأنهم يتحركون في مراداتهم . قاله أبو البقاء : إلا أنَّ الزمخشري أبطله ، فقال بعد أن حكاه : " واستدلوا بنفر ورجال في سورة " الجنِّ " ، وما أحقه لأن الجنَّ سموا حنًّا لاجتنانهم ، والناس ناساً لظهورهم من الإيناس ، وهو الإبصار ، كما سموا بشراً ، ولو كلن يقع الناس على القبيلين ، وصح ذلك ، وثبت لم يكن مناسباً لفصاحة القرآن ، وبعده عن التصنُّع ، وأجود منه أن يراد بالنَّاس : الناسي ، كقوله : { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ } [ القمر : 6 ] ، ثم يبين بالجنة والناس ؛ لأن الثقلين هما النوعان الموصفان بنسيان حق الله عز وجل " . الخامس : أنه بيان لـ { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ } على أنَّ الشيطان ضربان : جني ، وإنسي ، كما قال : { شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] ، وعن أبي ذر ، أنه قال لرجل : هلاَّ استعذت من شياطين الإنس . السادس : أن يتعلق بـ " وسوس " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، أي : يوسوس في صدورهم من جهة الإنس ، ومن جهة الجن . السابع : أن " الناس " عطف على " الوسواس " ، أي : من شر الوسواس والناس ، ولا يجوز عطفه على " الجنَّة " ؛ لأن النَّاس لا يوسوسون في صدور النَّاس ، إنما يوسوس الجن ، فلما استحال المعنى حمل على العطف على الوسواس ، قاله مكي . الثامن : أن " مِنْ الجنَّةِ " ؛ حال من " النَّاس " أي : كائنين من القبيلين ، قاله أبو البقاء ، ولم يبين أي الناس المتقدم أنه صاحب الحال ، وعلى كل تقدير فلا يصح معنى الحالية في شيء منها ، لا الأول ، ولا ما بعده ، ثم قال : " وقيل : هو معطوف على الجنة " ، يريد : " والنَّاس " الأخير معطوف على الجنة ، وهذا الكلام يستدعي تقدير شيء قبله وهو أن يكون الناس عطفاً على غير الجنة ؛ وفي الجملة فهو كلام يتسامح فيه . فصل في شياطين الإنس والجن قال الحسن : هما شيطانان لنا : أما شيطان الجن ، فيوسوسُ في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية . وقال قتادةُ : إن من الجن شياطين ، وإنَّ من الإنس شياطين فتعوذ بالله من شياطين الجن والإنس . وعن أبي ذر : أنه قال لرجل : هل تعوَّذتَ بالله من شياطين الإنس ؟ . قال : أو من الإنس شياطين ؟ قال : نعم ، لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] . وذهب قوم : أنَّ المراد بالناس هنا الجن ، سموا بذلك ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ } [ الجن : 6 ] ، وكما سموا نفراً في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ } [ الأحقاف : 29 ] . فعلى هذا يكون " والنَّاس " عطفاً على " الجنَّةِ " ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين . وقيل : معنى : { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ } ، أي : الوسوسة التي تكون من الجنة والناس ، وهو حديث النفس . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - تجَاوَزَ لأمَّتِي مَا حدَّثتْ بِهِ أنفُسهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أو تَتَكلَّمْ بِهِ " والله أعلم .