Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 42-52)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكى عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك ، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة ، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة ، فهو قوله عزَّ وجلَّ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } وذلك تنبيه على أنَّه تبارك وتعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم ، أو عاجزاً عن الانتقام ، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة ، والعجز ، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لاينتقم من الظَّالم للمظلوم . فإن قيل : كيف يليقُ بالرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه أن يحسب الله عزَّ وجلَّ موصوفاً بالغفلةِ ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [ الأنعام : 14 ] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } [ القصص : 88 ] . والثاني : المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً . الثالث : أنَّ المراد : ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون ، ولكن معاملة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير ، والقطمير . الرابع : أنَّ هذا الخطاب ، وإن كان خطاباً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة . قال سفيان بن عيينة رضي الله عنه ـ : هذا تسلية للمظلوم ، وتهديد للظَّالم . قوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي : لأجل يوم ، فاللام للعلَّة . وقيل : بمعنى " إلى " أي : للغاية . وقرأ العامة " يُؤخِّرهُمْ " بالياء ، لتقدم اسم الله تعالى ـ . وقرأ الحسن والسلمي ، والأعرج ، [ وخلائق ] رضي الله عنهم ـ : " نُؤخِّرهُم " بنون العظمة . ويروى عن أبي عمرو " نُؤخِّرُهمْ " بنون العظمة . و " تَشْخَصُ " صفة لـ " يَوْمِ " . ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر ، وعدم استقراره في مكانه ، ويقال : شَخَصَ سَمْعُه ، وبَصَرُه ، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما ، وشَخَصَ بَصَره ، أي : لم يطرف جفنهُ ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة ، ويقال : شخص من بلده أي : بعد ، والشخصُ : سواد الإنسان المرئيّ من بعيد . قوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير : أصحاب الأبصار ، إذ يقال : شَخَصَ زَيْدٌ بصرهُ ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه ، قالهما أبو البقاءِ . وقيل : " مُهْطِعين " منصوب بفعل مقدر ، أي : تبصرهم مهطعين ، ويجوز في " مُقْنِعِي " أن يكون حالاً من الضمير في : " مُهْطِعِينَ " فيكون حالاً ، وإضافة : " مُقْنِعِي " غير حقيقة ؛ فلذلك وقع حالاً . والإهْطَاعُ : قيل : الإسرْاعُ في المشيِ ؛ قال : [ البسيط ] @ 3235ـ إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا @@ وقال : [ الكامل ] @ 3236ـ وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ فِي رَأْسِ جِذْعٍ … @@ وقال أبو عبيدة : قد يكون الإسراع [ مع ] إدامة النَّظر . وقال الراغب : " هَطَعَ الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ " . وقال الأخفش : هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ ، وأنشد : [ الوافر ] @ 3237ـ بِدجْلةَ دَارهُم ولقَدْ أرَاهُمْ بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ @@ والمعنى : مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي . وقال ثعلبٌ : " هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء " . وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة ؛ فقد سمع فيه : " أهْطََعَ وهَطَعَ " رباعيًّا وثلاثيًّا . والإقناعُ : رفع الرَّأسِ ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى غيره ، قاله القتبيُّ ، وابنُ عرفة . ومنه قوله يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر ؛ فترفع رءوسها ـ : [ الوافر ] @ 3238ـ يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ @@ ويقال : أقْنَعَ رأسه ، أي : طأطأها ، ونكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعةُ : الاجتزاءُ باليسيرِ ، ومعنى قَنَعَ عن كذا : أي : رفع رأسه عن السؤال . وفَمٌ مُقَنَّعٌ : معطوف الأسنان إليه داخلة ، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ بالتشديد ـ ، ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً ، وقَنَعاً ، إذا رَضِيَ ، وقنع قُنُوعاً ، إذا سَألَ ، [ فوقع ] الفرق بالمصدر . وقال الراغب : قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناعِ ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس . والقَانِعُ : من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ ، كقوله : [ الوافر ] @ 3239ـ لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْنِي مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ @@ ورجل مقنَّعٌ : تَقنَّعَ بِهِ ؛ قال : [ الطويل ] @ 3240ـ … شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ @@ ومعنى الآية : أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه ، فبين تعالى أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد ، و أنهم يرفعون رءوسهم . والرُّءُوسُ : جمعُ رأسِ ، وهو مؤنَّثٌ ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس ، وفي الكثرة على " رُءُوس " والأرَاسُ : العظيم الرأس ، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه ، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه ، وشاةٌ رَأْسَى : أسودَّتْ رأسَها . قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } في محل نصب على الحال من الضمير في : " مُقْنِعِي " ويجوز أن يكون بدلاً من : " مُقْنِعِي " ، كذا قاله أبو البقاء ، يعني أنه يحل محله ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، والطرف في الأصل مصدر ، وأطلق على الفاعل ، كقولهم : " مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف " ، الطَّرفُ هنا : العَيْنُ قال الشاعر : [ الكامل ] @ 3241ـ وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي حتَّى يُوارِي جَارتِي مَأوَاهَا @@ والطَّرفُ : الجِفْنُ أيضاً ، يقال : ما طبق طرفهُ ، أي : جفنهُ على الآخر ، والطَّرفُ أيضاً : تحريكُ الجِفْنِ . ومعنى الآية : دوام ذلك الشُّخوصِ . قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } " يجوز أن يكون استئنافاً ، وأن يكون حالاً ، والعامل فيه إمَّا " يَرتَدُّ " وإمَّا ما قبله من العوامل ، وأفرد : " هَواءٌ " ، وإن كان خبراً عن جمع ؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة ، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه " . والهَواءُ : الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ ، يقال : جوفهُ هواء ، أي : فارغ ؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ] @ 3242ـ كَأنَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ @@ وقال حسَّان بن ثابت رضي الله عنه ـ : [ الوافر ] @ 3243ـ … فأنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ @@ النَّخْبُ : الذي أخذت نخبته أي : خِيارهُ ، ويقال : قلب فلانٍ هواء : إذا كان جَباناً للقوة في قلبه . والمعنى : أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر ، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب ، وخالية من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ . قوله : { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } قال أبو البقاء : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } مفعول ثان لـ : " أنْذر " ، أي : خوفهم عذاب يوم ، وكذا قاله الزمخشريُّ . وفيه نظرٌ ، إذ يؤول إلى قولك : أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب ، ولا حاجة إلى ذلك ، ولا جائز أن يكون ظرفاً ؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل : إنه يوم القيامة ، أو يوم هلاكهم ، أو يوم تلقاهم الملائكةُ . والألف واللام في : " العَذابُ " للمعهود السَّابق ، أي : وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره ، وهو شخوصُ الأبصار ، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم . فصل حمل أبو مسلم قوله : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } على أنه حال المعاينة ، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] ، وظاهر الآية يشهد بخلافه ؛ لأنه تعالى وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه ، وأنهم يسألون الرجعة ، ويقال لهم : { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة . ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم : { فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } قال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه . وقيل : طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم : { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } ، فقوله : " نُجِبْ " جواب الأمرِ . قوله : { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ } قال الزمشخري : " على إرادة القول وفيه وجهان : أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً ، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً ، وأملوا بعيداً " . و " مَا لكُمْ " جواب القسم ، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله : " أقْسَمْتُمْ " ، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل : " مَا لنَا " . وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله عزَّ وجلَّ أو الملائكة عليهم السلام أي : فيقال لهم : " أو لم تكونوا " ، وهو أظهر من الأول ، أعني : جريان القول من غيرهم لا منهم ، والمعنى : { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ } أراد قوله : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [ الأنعام : 109 ] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه . قوله : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } وأصل " سَكَنَ " التَّعدي بـ " في " كما في هذه الآية ، وقد يتعدى بنفسه . قال الزمخشريُّ : " السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ ، والأصل تعديه بـ " في " كقولك : قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا ، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه ، فقيل : سكن الدَّار كما قيل : تَبَوَّأها ، وأوطنَها ، ويجوز أن يكون من السُّكونِ ، أي : قرُّوا فيها واطمأنُوا " . والمعنى : وسكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم كقوم نوح ، وعادٍ ، وثمود و : { ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر ؛ لأن من شاهد هذه الحال ؛ وجب عليه أنّ يعتبر ، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع . قوله : " وتَبيَّنَ لَكُمْ " فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه ، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم ، و " كَيْفَ " نصب بـ " فَعلْنَا " وجملة الاستفهام ليست معمولة لـ " تَبيَّنَ ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق ، ولا جائز أن يكون : " كَيْفَ " فاعلاً ؛ لأنَّها إمَّا شرطية ، أو استفهامية وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدمه ، والفاعل لا يتقدَّم عندنا . وقال بعض الكوفيين : إنَّ جملة : " كَيْفَ فَعلْنَا " هو الفاعل ، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً ، وقد تقدَّم هذا في قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] . والعامة على " تَبيَّنَ " فعلاً ماضياً ، وقرأ عمر بن الخطاب ، والسلمي رضي الله عنهما في رواية عنهما : " ونُبيِّنُ " بضمِّ النون الأولى والثانية ، مضارع : " بيَّن " ، وهو خبر مبتدأ مضمر ، والجملة حالٌ ، أي : ونحن نبين . وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على " تَكُونُوا " فيكون داخلاً في حيز التقدير . فصل والمعنى : عرفتم عقوبتنا إياهم ، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل . قوله : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } قيل : الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم . وقيل : أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى : { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } يا محمد ، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] . وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ ، وكان قد جوَّعها ، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً ، وعلم عليها اللحم ، ثم جلس مع صاحب له في التابوت ، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام ، وغابت الدنيا عن عين نمروذ ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض . قال القاضي رحمه الله ـ : " وهذا بعيد جدًّا ؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم ، ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء فيه خبر ، ولا دليل " . قال القشيري : وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ ، وذكر الماورديُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النمرود بن كنعان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع ، وخمسة وعشرين ذراعاً ، وصعد فيه مع النُّّسور ، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه ، فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصَّرح عليهم ، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ ـ : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } . قوله : { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله ، أو للمفعول ، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، أي : يعذبهم قالهما الزمخشريُّ . قال أبو حيان : وهذا لايصحُّ إلاَّ إن كان " مَكَرَ " يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به ، والمحفوظ أن " مَكَرَ " لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه ، قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] وتقول : زيدٌ ممكور به ، ولا يحفظ : زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا . قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } قرأ العامة بكسر لام " لِتَزولَ " الأولى ، والكسائي بفتحها . فأما القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّها نافيةٌ ، واللام بعدها لام الجحودِ ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ ، وفي " كَانَ " حينئذ قولان : أحدهما : أنَّها تامَّة ، والمعنى ؛ تحقير مكرهم ، وأنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها . ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله : ( وما كان مَكْرُهُم ) . القول الثاني : أنَّها ناقصةٌ ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين ، هل هو محذوف ، واللام متعلقة به ؟ وإليه ذهب البصريون ، أو هو اللام ، وما جرته كما [ هو مذهب ] الكوفيين ؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران . الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة . قال الزمخشري : " وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم معدًّا لذلك " . وقال ابن عطية : " ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الأمور " ، فمفهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ ؛ لأنَّه إثبات . والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابها محذوفٌ ، أي : وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجبال الرَّواسي ، وهي المعجزات ، والآيات ، فالله مجازيهم بمكرهم ، وأعظم منه . وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل ، وهو : أنها نافية ؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكسائي في ذلك ؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات ، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي . وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام ، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها ، وفي قراءة الجماعة مشار بها إلى ما جاء به النبيُّ المختار صلوات الله وسلامه عليه من الدين الحق ، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً ، وإثباتاً . وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي : " إنْ " وجهان : مذهبُ البصريين أنَّها المخففة واللام فارقة ، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية ، واللام بمعنى : " إلاَّ " وقد تقدَّم تحقيق المذهبين . وقرأ عمر ، وعلي ، وعبد الله ، وزيد بن علي ، وأبو سلمة وجماعة رضي الله عنهم ( وإن كاد مكرهم لتزول ) كقراءة الكسائي ، إلاَّ أنهم جعلوا مكان نون : " كَانَ " دالاً ، فعل مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوال غير واقع . وقرىء : " لَتَزُولَ " بفتح اللامين ، وتخريجها على إشكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي . فصل في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان : أحدهما : جبال الأرض . الثاني : الإسلامُ ، والقرآن ؛ لأنَّ ثبوته ، ورسوخه كالجبالِ . وقال القشيريُّ : { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي : هو عالم بذلك فيجازيهم ، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف . قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد . قوله : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ } العامة على إضافة : " مُخْلِفَ " إلى " وعْدهِ " وفيها وجهان : أظهرهما : أن " مُخْلفَ " يتعدَّى لاثنين كفعله ، فقدم المفعول الثاني ، وأضيف إليه إسم الفاعل تخفيفاً ، نحو : هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ . قال الفراء وقطرب : لما تعدَّى إليهما جميعاً ، لم يبالِ بالتقديم والتأخير . وقال الزمخشري : فإن قلت : هلاَّ قيل : مُخْلف رسله وعده ؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول ؟ . قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد ، ثم قال : " رُسلهُ " ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلف رسله ؟ . وقال أبو البقاء : هو قريبٌ من قولهم : [ الرجز ] @ 3244ـ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ @@ وأنشد بعضهم نظير الآية الكريمة قول الشاعر : [ الطويل ] @ 3245ـ تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ وسَائرِهُ بَاردٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ @@ والحسبان هنا : الأمر [ المتيقن ] ، كقوله : [ الطويل ] @ 3246ـ فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي وكُلُّ امرىءٍ كَأسَ الحِمامِ يَذُوقُ @@ الثاني : أنه متعد لواحد ، وهو " وعْدهِ " ، وأمَّا " رُسلَهُ " فمنصوب بالمصدر فإنَّهُ ينحلّ بحرف مصدريّ ، وفعل تقديره : مخلف ما وعد رسله ، فـ " ما " مصدريَّة لا بمعنى الذي . وقرأت جماعة : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } بنصب : " وَعْدهُ " وجر : " رسُلهِ " فصلاً بالمفعول بين المتضايفين ، وهي كقراءة ابن عامرٍ : قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُكرائِهِمْ ) . قال الزمخشري جرأة منه ـ : " وهذه في الضعف [ كقراءة ] ( قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ ) . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } غالب لأهل المكر ، ذو انتقام لأوليائه منهم . قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [ لما بين أنه عزيز ذو انتقام ، بين وقت انتقامه ، فقال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } ] ويجوز في " يَوْمَ " عدة أوجه : أحدها : أن ينتصب منصوباً بـ " انتقام " أي : يقع انتقامه في ذلك اليوم . الثاني : أن ينتصب بـ " اذكُر " . الثالث : أن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام . الرابع : أن يكون بدلاً من : " يَوْمَ يَأتِيهِمْ " . الخامس : أن ينتصب بـ : " مُخْلِفَ " . السادس : أن ينتصب بـ " وَعْدِهِ " ، و " إنَّ " وما بعدها اعتراض . ومنع أبو البقاء هذين الآخرين ، قال : " لأن ما قبل " إنَّ " لا يعمل فيما بعدها " . وهذا غير مانع ؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض ، فلا يبالى به فاصلاً . فصل التَّبديلُ يحتمل وجهين : الأول : أن تكون الذَّات باقية ، وتبدل الصفة بصفة أخرى ، كما تقول : بدلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، ومنه قوله تعالى : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، ويقال : بدَّلتُ قَمِيصِي جُبَّة ، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ ، وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 3247ـ فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ @@ الثاني : أنْ تُفني الذات ، وتحدث ذاتاً أخرى ، كقولك : بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] . وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : هي تلك الأرض ، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها ، وتفجر أنهارها ، وتسوى ، فلا { تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ ، فيَبْسُطهَا ، ويمُدُّهَا مدَّ الأدِيم [ العكاظي ] لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً " وتبدل السموات بانتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها ؛ وخسوف قمرها ، وكونها تكن تارة كالمهل ، وتارة كالدهان . والقول الثاني : تبديل الذات . قال ابن مسعود رضي الله عنه ـ : تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية ، لم يسفك فيها دمٌ ، ولم يعمل عليها خطيئةٌ . والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ : لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنَّما يعدم صفاتها . وقيل : المراد من تبديل الأرض والسموات : هو أنَّ الله تعالى يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [ المطففين : 7 ] وقوله عزَّ وجلَّ { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] . وقالت عائشة رضي الله عنها ـ : سألتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " على الصِّراطِ " . وروى ثوبانُ رضي الله عنه أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ ؟ قال : " هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ " . قوله " والسَّمواتِ " تقديره : وتبدل السموات غير السموات . وقرىء : " نُبَدّلُ " بالنون : " الأرض " نصباً " والسَّمواتِ " نسق عليه . قوله " وبَرَزُوا " فيه وجهان : أحدهما : أنها جملةٌ مستأنفة ، أي : يبرزون ، كذا قدَّره أبو البقاءِ ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال ، والأحسن أنه مثل { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [ الأعراف : 50 ] { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعراف : 44 ] { رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] لتحقُّّق ذلك . والثاني : أنها حال من " الأرض " ، و " قَدْ " معها مرادة ، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في : " بَرَزُوا " للخلق دلّ عليه السِّياق ، والرَّابط بين الحال ، وصاحبها الواو . وقرأ زيد بن علي " وبُرِّزُوا " بضم الباء ، وكسر الرَّاء مشددة على التَّكثير في الفعل ومفعوله ، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] ، وإنما ذكر " الوَاحدِ القهَّارِ " هنا ؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ ، قهَّار لا يقهر ، فلا يستغاث بأحد غيره ، فكان الأمر في غاية الصعوبة ولما وصف نفسه تعالى بكونه قهاراً ، بيَّن عجزهم ، وذلتهم فقال : " وتَرَى المُجْرمينَ " وصفهم بصفات : الأولى : قوله : { مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } " يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة ، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية ، و " فِي الأصْفادِ " متعلق به . وقيل : بمحذوف على أنه حال أو صفة لـ " مُقرَّنينَ " " . والمُقرن : من جمع في القَرَن ، وهون الحبل الذي يربط به ، قال : [ البسيط ] @ 3248أ وابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ لَمْ يَستَطعْ صَولةَ ا لبُزْلِ القَناعِيسِ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 3248ب والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 3248ج إنِّي لَدَى الباب كلمَلزُوزِ في قَرنٍ @@ يقال : قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ ، ووَصلتهُ ، والقرنُ : اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك . والأصْفَادُ : جمع صفدٍ ، وهو الغلُّ ، والقيد ، يقال : صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً ، قيَّدهُ ، ، والاسم الصَّفَد ، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير ؛ قال : [ الوافر ] @ 3249ـ فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا @@ والأصفادُ من الصَّفْد ، وأصفْدَه ، أي : أعطاه ، ففرَّقُوا بين " فَعَل " و " أفْعَلَ " . وقيل : بل يستعملان في القَيْدِ ، والعَطاءِ ، قال النابغة الذبياني : [ البسيط ] @ 3250ـ … فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ @@ أي : بالإعطاءِ ، وسمي العطاء صفداً ، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه ، ومنه : أنا مغلول أياديك ، وأسير نعمتك . فصل قيل : يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة ، بيانه قوله : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] يعنى : قرناءهم من الشَّياطين ، وقوله جل ذكره ـ : { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] . أي قرنت . وقيل : مقرونة أيديهم ، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي : بالقيود . قوله : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من " المُجْرمينَ " وإمَّا من : " مُقرَّنِينَ " ، وإما من ضميره ، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر . والسَّرابِيلُ : الثِّيابُ ، وسَرْبلتهُ ، أي : ألْبَستهُ السِّربالَ ؛ قال : [ السريع ] @ 3251ـ … أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه @@ وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع ، وشبهه قال تعالى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 81 ] . والقَطرانُ : ما يستخرج من شجر يسمَّى الأبهل ، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [ بحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ] ، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ ، وفيه لغاتٌ : " قِطرانٍ " بفتح القاف وكسر الطاء ، وهي قراءة العامة . و " قَطْران " بزنة سكران ، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقال أبو النَّجْم : [ الرجز ] @ 3252ـ لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا @@ و " قِطْرَان " بكسر القاف ، وسكون الطاء بزنة " سِرْحَان " ولم يقرأ بها فيما علمتُ . قال شهابُ الدين رحمه الله ـ : وقرأ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ـ : " قَطِرِ " بفتح الْقاف ، وكسرها وتنوين الراء " آنٍ " بوزن " عَانٍ " جعلوها كلمتين ، والقَطِر : النَّحاس ، والـ " آنِ " اسم فاعل من أنَى يأني ، أي : تَناهى في الحرارةِ ؛ كقوله تعالى : { بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] . وعن عمر رضي الله عنه ليس بالقطران ، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه . قال ابن الأنباري : " وتلك النَّار لا تبطل ذلك القطران ، ولا تفنيه ، كما لا تهلك أجسادهم النَّار ، والأغلال التي عليهم " . واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال ، وهو القميص ، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النَّار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الرِّيحِ ، وأيضاً : التفاوت بين قطران القيامة ، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين . قوله : { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } قرىء " وتَغَشَّى " بتشديد الشِّين ، أي : وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين . وقرىء برفع : " وُجوهُهُم " ونصب " النَّار " على سبيل المجازِ ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً . والجملة من قوله : " وتَغْشَى " قال أبو البقاءِ : " حال أيضاً " . يعني أنَّها معطوفة على الحالِ ، ولا يعني أنَّها حال ، والواو للحال ، لأنَّه مضارع مثبت . فصل المعنى : [ تعلو ] النَّار وجوههم ، ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [ الزمر : 24 ] وقوله : { يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] . واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة ، والعلم ، والجهل هو القلبُ ، وموضع الفكر ، والوهم والخيال هو الرَّأس ، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما ، قال الله تعالى [ في القلب ] : { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 6 ، 7 ] وقال تعالى في الوجه : { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } . قوله : { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } في هذه اللام وجهان : أظهرهما : أنَّها تتعلق بـ " بَرَزُوا " وعلى هذا فقوله : " وتَرَى " جملة معترضة بين المتعلق ، والمتعلق به . والثاني : أنها تتعلق بمحذوف ، أي : فعلنا بالمجرمين ، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم ؛ أثاب الطَّائع . قال الواحدي : " المرادُ : أنفسُ الكفَّار ؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان ، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه ، وأنه تعالى يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبت من عملها اللائق بها ، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور ، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً ، فالله تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم ، فلأن يثيب المطيعين أولى " . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي : لا يظلمهم ، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه . قوله تعالى : { هَـٰذَا بَلاَغٌ } إشارة إلى ما تقدَّم من قوله : " ولا تحْسَبنَّ " إلى هنا ، أو إلى كلِّ القرآن ، نزل منزلة الحاضر بلاغ ، أي : كافية في الموعظة . قوله تعالى : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } فيه أوجه : أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف ، أي : ولينذروا أنزلنا عليك . الثاني : [ أنه معطوف على محذوف ، وذلك المحذوف متعلق بـ " بلاغ " ، تقديره : لينصحوا ولينذروا ] . الثالث : أن الواو مزيدة : " ولِيُنْذَرُوا " متعلق بـ " بَلاغٌ " ، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ . الرابع : أنه محمولٌ على المعنى ، أي : ليبلغوا ، ولينذروا . الخامس : أن اللام لام الأمر ، وهو حسنٌ ، لولا قوله : " ولِيَذَّكَّرَ " فإنه منصوب فقط . قال شهاب الدين : قال بعضهم : لا محذور في ذلك ، فإن قوله : " لِيَذَّكرَ " ليس معطوفاً على ما تقدمه ، بل متعلق بفعل مقدر ، أي : وليذكر أنزلناه وأوحيناه . السادس : أنه خبر لمبتدأ مضمر ، التقدير : هذا بلاغ ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة . السابع : أنه عطف مفرداً على مفردٍ ، أي : هذا بلاغ وإنذار ، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب . الثامن : أنه معطوف على قوله : " يُخْرجَ النَّاسَ " في أول السورة ، وهذا غريب جدًّا . التاسع : قال أبو البقاء : " المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة . ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، وتقديره : ولينذروا به أنزل ، أو تلي " . قال شهاب الدين : " فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب : هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك " . وقرأ العامة : " لِيُنذَرُوا " مبنيًّا للمفعول . وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس : " ولتُنْذِرُوا " بتاء مضمومة ، وكسر الذال كأن البلاغ للعموم ، والإنذار للمخاطبين ، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي " ولِيَنْذَرُوا " بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء ، أي : علم به فاستعد له . قالوا : ولو لم يعرف مصدر فهو كـ " عَسَى " ، وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها . فصل معنى " لِيُنْذَرُوا " أي : وليخوفوا به { وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي : يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله تعالى ـ : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي : يتّعظ أولو العقول . قال القاضي : أول هذه السورة ، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاع ، وإن شاء عصى . أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى : { لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ إبراهيم : 1 ] وقد ذكرناه هناك . وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } يدلُّ على أنَّه تعالى إنَّما أنزل هذه السورة ، وذكر هذه المواعظ ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق ؛ فيصيروا مؤمنين مطيعين ، ويتركوا الكفر والمعصية ، وقد تقدم جوابه . روى أبو أمامة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا " .