Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 124-128)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - : { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } الآية . لما أمر محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - بمتابعة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وكان محمَّد اختار يوم الجمعة ، وهذه المتابعة إنَّما تحصل إذا قلنا : إن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة ، وعند هذا القائل أن يقول : فلم اختار اليهود يوم السبت ؟ . فأجاب الله - تعالى - عنه بقوله : { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } ، وفي الآية قولان : الأول : روى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " أمرهم موسى - صلوات الله وسلامه عليه - بالجمعة ، وقال : تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً ، وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم ، فأبوا أن يفعلوا ذلك ، وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، وهو يوم السبت ، فجعل الله - تعالى - السبت لهم ، وشدَّد عليهم فيه ، ثمَّ جاءهم عيسى - عليه الصلاة والسلام - أيضاً بالجمعة ، فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، واتخذوا الأحد " . وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنَّ الله كَتَبَ يَوْمَ الجُمعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلنَا ، فاخْتلَفُوا فِيهِ وهَدَانَا الله إلَيْهِ ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبعٌ ، اليَهُود غَداً والنَّصارَى بَعد غدٍ " . واعلم أن أهل الملل اتَّفقوا على أنه - تعالى - خلق العالم في ستَّة أيام ، وبدأ - تعالى - بالخلق والتكوين في يوم الأحد ، وتمَّ في يوم الجمعة ، وكان يوم السبت يوم الفراغ ، فقالت اليهود : نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال ، فعيَّنوا يوم السبت لهذا المعنى ، وقالت النصارى : مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد ، فنجعل هذا اليوم عيداً لنا . وأما وجه جعل يوم الجمعة عيداً ؛ فلأنه يوم كمال الخلق وتمامه ، وحصول التَّمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسُّرور العظيم ، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى . والقول الثاني : اختلافهم في السبت هو أنهم أحلُّوا الصيد فيه تارة وحرَّموه [ تارة ] . قوله - تعالى - : { إِنَّمَا جُعِلَ } العامة على بنائه للمفعول ، وأبو حيوة على بنائه للفاعل ، و " السَّبْتُ " مفعول به . { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، أي : يحكم للمحقِّين بالثواب ، وللمبطلين بالعقاب . قوله - تعالى - : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } الآية لما أمر محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - باتِّباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه ؛ فقال - عز وجل - : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ } . يجوز أن يكون مفعول " ادْعُ " مراداً ، أي : ادعُ النَّاس ، وإلاَّ يكون مراداً ، أي : افعل ، و " بالحِكْمَةِ " حال ، أي ملتبساً بها . واعلم أنه - تعالى - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو النَّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة ، وهي : { بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } ، والمجادلة بالطريق الأحسن ، وذكر - تعالى - هذا الجدل في آية أخرى ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] ولمَّا ذكر الله - تعالى - هذه الطرق الثلاثة ، وعطف - تعالى - بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة . واعلم أن الدَّعوة إلى المذاهب لا بد وأن تكون مبنيَّة على حجة وبينة ، والمقصود من ذكر تلك الحجة : إما تقرير ذلك المذهب ، وذلك على قسمين : لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرَّأة عن احتمال النقيض ، أو لا تكون كذلك ، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر ، والإقناع الكامل ، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة : أولها : الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة ، وذلك هو المسمَّى بالحكمة . وثانيها : الأمارات الظنية ، و الدلائل الإقناعية ، وهي الموعظة الحسنة . وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود منها : إلزام الخصوم وإقحامهم ، وذلك هو الجدل ، ثم هذا الجدل على قسمين : أحدهما : أن يكون دليلاً مركباً من مقدِّمات مسلمة عند الجمهور ، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم ، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن . والقسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات فاسدة باطلة ، إلاَّ أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين ، بالسَّفاهة والشَّغب ، والحيل الباطلة ، والطرق الفاسدة ، وهذا القسم لا يليق بأهل [ الفضل ] ، إنما اللائق بهم القسم الأول ، وهو المراد بقوله : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . فصل قال المفسرون : قوله : " بالحِكْمَةِ " أي : بالقرآن ، " والمَوْعِظَةِ الحَسنَةِ " يعني : مواعظ القرآن . وقيل " المَوعِظَة الحَسنَة " هو الدعاء إلى الله - تعالى - بالتَّرغيب والتَّرهيب ، وقيل : بالقول اللَّين من غير غِلَظٍ ولا تعنيف . { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ناظرهم بالخصومة ، " الَّتي هِيَ أحْسَنُ " أي : أعرض عن أذاهم ، أي : ولا تقصِّر في تبليغ الرسالة ، والدعاء غلى الحقِّ ، والآية نسختها آية القتال . { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } ، أي : إنَّك يا محمد مكلَّف بالدعوة إلى الله ، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو أعلم بالضَّالين وأعلم بالمهتدين . قوله - تعالى - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } العامة على " المُفَاعلة " وهي بمعنى : " فَعَلَ " ؛ كَسافَرَ ، وابن سيرين : " عَقَّبْتُم " بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ [ بالانتصار فقفُّوا ] بمثل ما فعل بكم . وقيل : تتبَّعتم ، والباء معدِّية ، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة . فصل قال الواحدي رحمه الله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال : أحدها : وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رضي الله عنهم - : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به ، قال : " والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ " فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل ، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات . والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } [ البقرة : 190 ] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله ، نزلت " براءة " وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عبَّاس والضحاك . والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين . وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه - تعالى - أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانياً ، وبالشَّتْم ثالثاً ، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات ، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ؛ تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه . فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة ، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟ . قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - . فصل في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها ، ومن قتل بحجرٍ ، قتل بمثله ، ولا يتعدى قدر الواجب ، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله ، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه ؟ . فقال ابن سيرين ، والنخعي ، وسفيان ، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية . وقال مالك وجماعة : لا يجوز ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " رواه الدارقطني . وقال القرطبي : " ووقع في مسند ابن إسحاق : أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة آخر ، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمرِ ، فقال له : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " وعلى هذا يقوى قول مالك - رضي الله عنه - في المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك " . فصل اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب : الأولى : قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص ، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله - تعالى - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } دليل على أن الأولى ألاّ يفعل ؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، فإن معناه : الأولى بك ألاّ تأكله ، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [ على ] أن الأولى تركه . والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التَّصريح ، وهو قوله - عز وجل - : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة ، والانتفاع أفضل من الإيلام . المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتَّرك ، وهو قوله : " واصْبِرْ " ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام ، ولمَّا كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا ، ذكر بعده ما يفيد سهولته ؛ فقال - تعالى - : { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي : بتوفيقه ومعونته ، وهذا هو السب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات . ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي ، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب ؛ فقال - جل ذكره - : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى [ إنزال ] الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب ، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين : أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى " أحدٍ " ، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك ، ويرجع حاصله إلى فوات النفع . والسبب الثاني : أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ، ومن وقف على هذه اللَّطائف ، عرف أنَّه لا يمكن كلام [ أدخل ] في الحسن والضبط من هذا الكلام . قوله : " للصَّابِرينَ " يجوز أن يكون عامًّا ، أي : الصبر خير لجنس الصَّابرين ، وأن يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر ، أي : صبركم خير لكم . قوله : " إلاَّ بالله " أي : بمعونته ، فهي للاستعانة . قوله : " في ضَيْقٍ " قرأ ابن كثير هنا وفي النَّمل : بكسر الضاد ، والباقون : بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر ؛ كالقول والقِيل . وقيل : المفتوح مخفَّف من " ضَيِّق " ؛ كـ " مَيْت " في " مَيِّت " ، أي : في أمر ضيِّق ، فهو مثل هَيْن في هيِّن ، و " لَيْن " في " لَيِّن " ، قاله ابن قتيبة . وردَّه الفارسي : بأن الصفة غير خاصة بالموصوف ، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز : مررت بكاتب ، وامتنع بآكلٍ . وأما وجه القراءة بالفتح ، قال أبو عبيدة الضِّيقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب ، فإنه الضَّيْق . وقال أبو عمرو : " الضِّيقُ بالكسر : الشدَّة ، والضَّيقُ بالفتح : الغمُّ " . قوله تعالى : { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } متعلق بـ " ضَيْقٍ " و " مَا " مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف . فصل هذا من الكلام المقلوب ؛ لأن الضَّيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة ، فيكون المعنى : فلا يكن الضيق فيك ؛ لأن الفائدة في قوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي ، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب ، وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى . المرتبة الرابعة : قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } المناهي ، { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } وهذا يجري مجرى التهديد ؛ لأنه في المرتبة الأولى : رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي الثانية : عدل عن الرمز إلى التصريح ، وهو قوله - عز وجل - : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } ، وفي المرتبة الثالثة : أمر بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة : كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام ، فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } عن استيفاء الزيادة ، { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } : في ترك أصل الانتقام ؛ فكأنه قال : إن أردت أن أكون معك ، فكن من المتَّقين ومن المحسنين ، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية . وقوله - تعالى - : { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } إشارة غلى التعظيم لأمر الله ، وقوله - جل ذكره - { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله - تعالى - . قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته : أوص ، فقال : إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي ، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل ، قال بعضهم : إن قوله - جل ذكره - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } منسوخ بآية السيف ، وهذا في غاية البعد ؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - ، وترك التَّعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده . روى أبو أمامة ، عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّحل ، لم يُحاسِبْه الله - تعالى - بالنَّعِيم الذي أنْعَم عليه في دَارِ الدُّنيَا ، وأعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كالذي مات فأحْسَن الوصيَّة " .