Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 13-14)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } الآية . في كيفية النَّظم وجوهٌ : أولها : أنه تعالى لمَّا قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد ، والنُّبوَّة ، والمعاد ، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكوراً ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم : كل من ورد عرصة القيامة ، ألزمناه طائره في عنقه ، ونقول له : { ٱقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } . وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا بيَّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدِّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار ، وغيرهما ، كان منعماً عليهم بجميع وجوه النِّعم ، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته ، فلا جرم : كلُّ من ورد عرصة القيامة ، فإنه يكون مسئولاً عن أعماله وأقواله . وثالثها : أنه تعالى بيَّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل ، كان المعنى : إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها ، فتصيروا متمكِّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك ، فكل من ورد عرصة القيامة ، سألته ، هل أتى بتلك الخدمة والطَّاعة ، أو تمرَّد وعصى . وقرىء " في عُنْقهِ " بإسكان النون وهو تخفيفٌ شائعٌ . فصل اختلفوا في الطائر ، فقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : " عمله ، وما قدر عليه من خير أو شرٍّ ، فهو ملازمه ، أينما كان " . وقال الكلبي ومقاتل : " خيره وشره معه لا يفارقه حتَّى يحاسبه " ، وقال الحسن : يمنه وشؤمه ، وعن مجاهد : " ما من مولود إلاَّ في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقيٌّ أو سعيدٌ " . وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، سمِّي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها ، فكانوا إذا أرادوا الإقدام على عملٍ من الأعمال ، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خيرٍ أو إلى شرٍّ ، اعتبروا أحوال الطَّير ، وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار ، فهو يطير متيامناً أو متياسراً ، أو صاعداً إلى الجوّ ، أو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلّون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] وقوله عزَّ وجلَّ : { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] فالمعنى : أنَّ كلَّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه . وقال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الطائر عند العرب الحظّ ، وتسمِّيه الفرس البخت ، فالطائر ما طار له من خيرٍ وشرٍّ من قولهم : طار سهمُ فلانٍ بكذا ، وخصَّ العنق من سائر الأعضاء ؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزينُ ، أو يشينُ ، فما يزين ، فهو كالتطوُّق والحليِّ ، وما يشين ، فهو كالغُلِّ ، فعمله إن كان خيراً فهو زينة كالتطوق ، أو كان شرًّا ، فهو شينٌ كالغلِّ في رقبته ، فقوله : " في عُنقهِ " كناية عن اللُّزوم ؛ كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي : قلَّدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلَّدتك كذا ، وطوَّقتك كذا ، أي : صرفته إليك ، وألزمتك إياه ، ومنه " قلَّدهُ السُّلطانُ كذا " أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادةِ ، ومكان الطوقِ ، ومنه يقال : فلانٌ يقلِّدُ فلاناً أي : جعل ذلك الاعتقاد كالقلادةِ المربوطةِ في عنقه . وهذه الآية أدلُّ دليلٍ على أنَّ كلَّ ما قدَّره الله - تعالى - على الإنسان ، وحكم به عليه في سابق علمه ، فهو واجب الوقوع ، ممتنع العدمِ ؛ لأنه تعالى بيَّن أن ذلك العمل لازمٌ له ، وما كان لازماً للشيء ؛ كان ممتنع الزَّوال عنه ، واجب الحصول له ، وأيضاً : فإن الله - تعالى - أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله : " ألْزَمنَاهُ " ، وذلك تصريحٌ بأنَّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [ الفتح : 26 ] وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " جفَّ القَلمُ بِمَا هُو كَائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ " . قوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ كِتَاباً } . العامة على " نُخْرِجُ " بنون العظمة مضارع " أخْرجَ " ، و " كِتاباً " فيه وجهان : أحدهما : أنه مفعولٌ به . والثاني : أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف ؛ إذ التقدير : ونخرجه له كتاباً ، أي : ونخرج الطائر . ويُرْوَى عن أبي جعفرٍ : " ويَخْرَجُ " مبنيًّا للمفعول ، كتاباً نصب على الحال ، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر ، وعنه أنَّه رفع " كتاباً " وخُرِّج على أنه مرفوعٌ بالفعل المبنيِّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقة . وقرأ الحسن : " ويَخْرُجُ " بفتح الياء وضمِّ الراءِ ، مضارع " خَرجَ " " كتابٌ " فاعل به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نصبا " كتاباً " على الحال ، والفعال ضميرُ الطائر ، أي : ويخرجُ له طائره في هذا الحال ، وقرىء " ويُخْرِجُ " بضمِّ الياء وكسر الراء ، مضارع " أخْرَجَ " والفاعل ضمير الباري تعالى ، " كتاباً " مفعولٌ . قوله تعالى : " يَلْقاهُ " صفةٌ لـ " كتاباً " ، و " مَنْشُوراً " حالٌ من هاء " يَلْقَاهُ " وجوَّز الزمخشريُّ وأبو البقاء وأبو حيَّان أن يكون نعتاً لِـ " كِتَاباً " ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصَّريحةِ ، على الصَّريحةِ ، وقد تقدَّم ما فيه . وقرأ ابن عامرٍ وأبو جعفر " يُلقَّاهُ " بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارع لُقِّي بالتشديد قال تعالى : { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع " لَقِيَ " . فصل قال الحسن : بسطنا لَكَ صحيفةً ، ووُكِّل بك ملكانِ ، فهما عن يمينك ، وعن شمالِكَ ، فأمَّا الذي عن يمينك ، فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك ، فيحفظ سيِّئاتك ؛ حتَّى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتك ، وجعلت معك في قبرك ؛ حتى تخرج لك يوم القيامة ، فقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي : من قبره . قوله تعالى : { ٱقْرَأْ كتَابَكَ } : على إضمار القول ، أي : يقال له : اقرأ ، وهذا القول : إمَّا صفةٌ أو حالٌ ، كما في الجملة قبله . وهذا القائل هو الله تعالى . قال الحسن : " يَقْرءُوهُ أمِّيًّا كان ، أو غير أمِّيٍّ " . وقال أبو بكر بن عبد الله - رضي الله عنه - : يؤتى المؤمنُ يوم القيامةِ بصحيفته ، وحسناته في ظهرها ، يغبطه الناس عليها ، وسيئاته في جوف صحيفته ، وهو يقرؤها ، حتَّى إذا ظنَّ أنها قد أوبقته ، قال الله له : " قَدْ غَفَرْتُ لَكَ فِيمَا بَينِي وبَينكَ " فيعظم سروره ويصير من الَّذين قال الله - عزَّ وجلَّ - في حقهم : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ] . قوله تعالى : { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ } فيه ثلاثة أوجه : المشهور عند المعربين : أنَّ " كَفَى " فعل ماضٍ ، والفاعل هو المجرور بالباء ، وهي فيه مزيدة ، ويدلُّ عليه أنها إذا حذفت ارتفع ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3388 - ويُخْبِرنِي عَن غَائبِ المَرْءِ هَديهُ كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرءُ مُخْبِرا @@ وقوله : [ الطويل ] @ 3389 - … كَفَى الشَّيْبُ والإسلامُ للمَرْءِ نَاهِيَا @@ وعلى هذا ؛ فكان ينبغي أن يؤنَّث الفعل ؛ لتأنيث فاعله ، وإن كان مجروراً ؛ كقوله { مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } [ الأنبياء : 6 ] { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ } [ الأنعام : 4 ] . وقد يقال : إنه جاء على أحد الجائزين ؛ فإن التأنيث مجازيٌّ . والثاني : أن الفاعل ضمير المخاطب ، و " كفى " على هذا اسم فعل أمر ، أي : اكتفِ ، وهو ضعيف ؛ لقبولِ " كَفَى " علاماتِ الأفعالِ . الثالث : أن فاعل " كَفَى " ضمير يعود على الاكتفاء ، وتقدَّم الكلام على هذا . و " اليَوْمَ " نصبٌ بـ " كَفَى " . قوله : " حَسِيباً " فيه وجهان : أحدهما : أنه تمييزٌ ، قال الزمخشريُّ : " وهو بمعنى حاسبٍ ؛ كضريب القداح ؛ بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، ذكرهما سيبويه ، و " على " متعلقة به من قولك : حَسِبَ عليه كذا ، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشَّهيد ، فعدِّي بـ " عَلَى " لأنَّ الشاهد يكفي المدَّعي ما أهمَّه ، فإن قلت : لِمَ ذكر " حَسِيباً " ؟ قلت : لأنه بمنزلةِ الشاهد ، والقاضي ، والأمين ، وهذه المور يتولاَّها الرجال ؛ فكأنَّه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً ، ويجوز أن تتأوَّل النفس بمعنى الشخص ، كما يقال : ثلاثةُ أنفسٍ " . قلت : ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] @ 3390 - ثَلاثةُ أنْفُسٍ وثَلاثُ ذَودٍ لقَد جَارَ الزَّمانُ على عِيَالِي @@ والثاني : أنه منصوب على الحال ، وذكر لما تقدم ، وقيل : حسيبٌ بمعنى محاسب ؛ كخليطٍ وجليسٍ بمعنى : مخالطٍ ومجالسٍ . قال الحسن - رضي الله عنه - : " عَدلَ ، والله ، في حقِّك من جعَلكَ حَسِيبَ نَفْسكَ " . وقال السديُّ : " يقول الكافر يومئذٍ : إنَّك قَضيْتَ أنَّك لست بظلام للعبيد ، فاجعلني أحاسِبُ نفسِي فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " .