Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 16-16)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ العامَّةُ " أمَرْنَا " بالقصر والتخفيف ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضدُّ النهي ، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا لأمر ، فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخرين : أنه أمرناهم بالطاعة ، ففسقوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ ردًّا شديداً ، وأنكره إنكاراً بليغاً في كلام طويل ، حاصله : أنه حذف ما لا دليل عليه ، وقدَّر هو متعلق الأمر : الفسق ، أي : أمرناهم بالفسق ، قال : " أي : أمرناهم بالفسق ، فعملوا ، لأنه يقال : أمَرْتهُ ، فقام ، وأمرته ، فقرأ ، وهذا لا يفهم منه إلا أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءة ، فكذا هاهنا ، لمَّا قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } . وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولا يقال : هذا يشكل بقوله : أمرتهُ فعصَانِي ، أو فَخالفَنِي ؛ فإنَّ هذا لا يفهم منه إلاَّ أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ ، فكذا هاهنا ، كما قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيهَا } . وجب أن يكون المعنى : أمرناهُمْ بالفسق ، ففسقُوا ، ولا يقال : هذا يُشكل بقوله : أمرتُهُ فعصاني ، أو فخالفني ؛ فإنَّ هذا لا يُفهم منه أنِّي أمرتُهُ بالمعصية ، والمخالفةِ ؛ لأنَّ المعصية مُخَالفةٌ للأمْرِ ، ومُناقِضَةٌ له ، فيكونُ كونها مأموراً بها محالاً . فلهذا الضرورة تركنا هذا الظَّاهر ، وقلنا : الأمر مجازٌ ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجازِ : أنه صبَّ عليهم النعمة صبًّا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي ، واتِّباع الشَّهوات ، فكأنَّهم مأمورون بذلك ؛ لتسبُّبِ إيلاءِ النِّعمةِ فيه ، وإنما خوَّلهم فيها ليشكروا " . ثم قال : " فإن قلت : فهلاَّ زعمت أنَّ معناه : أمرناهم بالطَّاعة ففسقوا ؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائزٍ ، فكيف حذف ما الدليل قائمٌ على نقيضه ؟ وذلك أنَّ المأمور به ، إنَّما حذف لأنَّ " فَفَسقُوا " يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ ؛ يقال : " أمَرْتُه ، فقَامَ " و " أمَرتهُ فَقَرأ " لا يفهم منه إلاَّ أن المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ ، ولو ذهبت تقدِّر غيره ، رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم [ على ] هذا قولهم : أمَرتهُ ، فعصَانِي " أو " فَلمْ يَمْتثِلْ " لأنَّ ذلك منافٍ للأمر مناقضٌ له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً ؛ حتّى يجعل دالاًّ على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويٍّ ، ولا مراد ؛ لأن من يتكلَّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأموراً به ؛ فكأنَّه يقول : كان منِّي أمر ، فكان منه طاعة ، كما أنَّ من يقول : " فلانٌ يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع " لا يقصد مفعولاً . فإن قلت : هلاَّ كان ثبوت العلم بأنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ دليلاً على أن المراد : أمرناهم بالخيرِ ؟ . قلت : لأنَّ قوله " فَفسَقوا " يدافعه ؛ فكأنك أظهرت شيئاً ، وأنت تضمر خلافه ، ونظير " أمَرَ " : " شاء " في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله ؛ لدلالةِ ما بعده عليه ؛ تقول : لو شاء ، لأحسن إليك ، ولو شاء ، لأساء إليك ، تريد : لو شاء الإحسان ، ولو شاء الإساءة ، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ، وقلت : قد دلَّتْ حال من أسندت إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإحسان ، أو من أهل الإساءةِ ، فاتركِ الظاهر المنطوق ، وأضمر ما دلَّت عليه حالُ المسند إليه المشيئةُ ، لم تكن على سدادٍ . وتتبَّعه أبو حيَّان في هذا ، فقال : أمَّا ما ارتكبه من المجاز ، فبعيد جدًّا ، وأما قوله : " لأنَّ حذف ما لا دليل عليه غير جائزْ " فتعليلٌ لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثمَّ ما يدل على حذفه ، وقوله : " فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائمٌ " إلى " علم الغيب " فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثَّل به في قوله " أمَرْتهُ ، فقَامَ " ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدِّه ، أو نقيضه ؛ كقوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [ الأنعام : 13 ] أي : ما سكن وتحرَّك ، وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد ، وقول الشاعر : [ الوافر ] @ 3391 - ومَا أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضاً أريدُ الخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي أألْخَيْرُ الَّذي أنَا أبْتَغيهِ أم الشَّرُّ الذي هُوَ يَبْتَغينِي @@ أي : وأجْتنِبُ الشَّر ، وتقول : " أمَرتهُ ، فلمْ يُحْسِنْ " فليس المعنى : أمرته بعدم الإحسان ، بل المعنى : أمرته بالإحسانِ ، فلم يحسِن ، والآية من هذا القبيل ، يستدلُّ على حذف النَّقيضِ بنقيضه ، كما يستدلُّ على حذف النظير بنظيره ، وكذلك : " أمَرْتهُ ، فأسَاءَ إليَّ " ليس المعنى : أمَرْتهُ بالإساءة ، بل أمرته بالإحسان ، وقوله : " ولا يَلزَمُ هذا قولهم : أمَرْتهُ فعَصانِي " نقول : بل يلزمُ ، وقوله " لأنَّ ذلك منافٍ " أي : لأنَّ العصيانَ منافٍ ، وهو كلامٌ صحيح ، وقوله : " فكان المأمورُ به غير مدلُولٍ عليه ولا مَنْوي " لا يسلَّم بل مدلولٌ عليه ومنويٌّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض ؛ كما بيَّنا ، وقوله : " لا يَنوِي مأموراً به " لا يسلَّم ، وقوله " لأنَّ " فَفَسقُوا " يدافعه ، إلى آخره " قلنا : نعم ، نوى شيئاً ، ويظهر خلافه ؛ لأنَّ نقيضه يدل عليه ، وقوله : ونظير " أمَرَ " " شَاءَ " ليس نظيره ؛ لأن مفعول " أمَرَ " كثر التصريح به . قال سبحانه جل ذكره : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [ الأعراف : 28 ] { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ يوسف : 40 ] { يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } [ النحل : 76 ] { أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ } [ الأعراف : 29 ] { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ } [ الطور : 32 ] ، وقال الشاعر : [ البسيط ] @ 3392 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ … @@ قال شهاب الدين رحمه الله : والشيخ ردَّ عليه ردَّ مستريحٍ من النَّظرِ ، ولولا خوفُ السآمةِ على الناظرِ ، لكان للنظر في كلامهما مجالٌ . قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : كما أنَّ قوله : " أمَرْتُهُ ، فَعصَانِي " يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له ، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلُّ على أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان بضدِّ المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ ، وهذا في غاية الظهور . الوجه الثاني : أنَّ " أمَرْنَا " بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ : العرب تقول : أَمِرَ القومُ : إذا أكثروا . ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته ، فإنه قال : وفسَّر بعضهم " أمَرْنَا " بـ كَثَّرْنَا " وجعله من باب : " فعَّلتُه ، فَفَعَلَ " كـ " ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر " . وفي الحديث : " خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ " ، أي : كثيرة النِّتاجِ . وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة ، يقال : أمِرَ القوم ، وأمرهم الله ، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة ، وقال أبو عليٍّ : " الجيِّدُ في " أمَرْنَا " أن يكون بمعنى " كَثَّرْنَا " واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث ، فذكره ؛ يقال : أمر الله المهرة ، أي : كثَّر ولدها ، قال : " ومَنْ أنكر " أمَرَ الله القومَ " أي : كثَّرهم [ لم يلتفت إليه ؛ لثبوت ذلك لغة " ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة ؛ إذ يقال : أمر القوم ، كثروا ، وأمرهم الله : كثَّرهُمْ ] ، وهو من باب المطاوعة : أمرهم الله ، فأتمروا ، كقولك : شَتَرَ الله عينهُ ، فَشتِرَتْ ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ ، وثلمَ سنَّهُ ، فثَلِمَتْ . وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة " أمِرْنَا " بكسر الميم ؛ بمعنى " أمَرْنَا " بالفتح ، حكى أبو حاتم ، عن أبي زيدٍ : أنه يقال : " أمَرَ الله [ مالهُ ، ] وأمِره " بفتح الميم وكسرها ، وقد ردَّ الفراء هذه القراءة ، ولا يلتفت لردِّه ؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر ، وأبو الفضل الرازيُّ في " لَوامحهِ " فكيف تردُّ ؟ . وقرأ عليُّ بن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رضي الله عنهم - في آخرين " آمَرْنَا " بالمدِّ ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو ، وعاصم ونافع ، واختارها يعقوب ، والهمزة فيه للتعدية . وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابن عباس ، وأبو عثمان النهديُّ : " أمَّرْنَا " بالتشديد ، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّ التضعيف للتعدية ، عدَّاه تارة بالهمزة ، وأخرى بتضعيف العين ، كأخرجته وخرَّجته . والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أمراء ، واللازم من ذلك " أمِّرَ " قال الفارسي : " لا وجه لكون " أمَّرنَا " من الإمارة ؛ لأنَّ رئاستهم لا تكون إلاَّ لواحد بعد واحد ، والإهلاكُ إنَّما يكون في مدَّة واحدةٍ " . ورُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نسلم أنَّ الأمير هو الملكُ ؛ حتى يلزم ما قلت ، بل الأمير عند العرب من يأمرُ ويؤتمر به ، ولئن سلِّم ذلك ، لا يلزم ما قال ؛ لأنَّ المترف إذا ملك ، ففسق ، ثم آخر بعده ، ففسق ، ثم كذلك ، كثر الفساد ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : فإنَّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها ، يعني : الأمر ، والإمارة ، والكثير . المترف في اللغة : المُنَعَّم ، والغنيُّ : الَّذي قد أبطرته النِّعمة ، وسعةُ العيش . قوله تعالى : { فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي : خرجوا عمَّا أمرهم الله . { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } : أي : وجب عليها العذاب . { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } أي : خرَّبناها ، وأهلكنا من فيها ، وهذا كالتقرير ، لقوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً } [ القصص : 59 ] . فصل في الاحتجاج لأهل السنة استدلَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم من وجوه : الأول : أنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسَّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق ؛ وهذا يدلُّ على أنَّه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء . الثاني : دلَّ ظاهر الآية على أنه - تعالى - إنما خصَّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنَّهم يفسقون ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى أراد منهم الفسقَ . الثالث : أنه - تعالى - قال : { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } أي : حقَّ عليها القول بالتَّعذيب والكفر ، ومتى حقَّ عليها القول بذلك ، امتنع صدور الإيمان منهم ؛ لأنَّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وذلك محالٌ ، والمفضي إلى المحال محالٌ . قال الكعبيُّ - رحمه الله - إنَّ سائر الآيات دلَّت على أنَّه - تعالى - لا يبتدىء بالتعذي والإهلاك ؛ لقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] . وقوله عزَّ وجلَّ : { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ } [ النساء : 147 ] وقوله - عز ذكره : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] . وكلُّ هذه الآيات تدل على أنَّه لا يبتدىء بالإضرار ، وأيضاً : ما قبل هذه الآية يدلُّ على هذا المعنى ، وهو قوله - تعالى - : { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الإسراء : 15 ] . ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض ؛ فثبت أنَّ هذه الآيات محكمة ، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة ؛ فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات . واعلم أنَّ أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة : " القَفَّالُ " - رحمه الله تعالى - فإنه ذكر وجهين : الأول : أنه - تعالى - أخبر أنَّه لا يعذِّب أحداً بما يعلمه منه ، ما لم يعمل به أي : لا يجعل علمه حجَّة على من علم أنَّه إذا أمره عصاه ، بل يأمره ، فإذا ظهر عصيانه للنَّاس ، فحينئذٍ يعاقبه . وقوله - تعالى - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } . معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم ، فحينئذ { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } . أي : أمرنا المنعَّمينَ فيها المتعزّزين الظَّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردُّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني ، على ما يبلِّغهم عنِّي رسولي ، ففسقوا ، فحينئذ يحقُّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم ، لظهور معاصيهم ، فحينئذ أدمِّرُها . والحاصل : أن المعنى : وإذا اردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [ في تحقيق ] ذلك الإهلاك بمجرَّد ذلك العلم ، بل أمرنا مترفيها ، ففسقوا ، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق ، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به . الوجه الثاني : أنَّ التأويل : وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها ، لم نعاجلهم بالعذاب في أوَّل ظهور المعاصي بينهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي . وإنَّما خصَّ المترفين بذلك الأمر ؛ لأنَّ المترف هو المنعَّم ، ومن كثرت نعمة الله عليه ، كان قيامه بالشُّكر أوجب ، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى ، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النِّعم ، بل يزيدها حالاً بعد حالٍ ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرُّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقِّ ، فحينئذ يصبُّ الله البلاء عليهم صباً . ثم قال القفال - رحمه الله - : وهذان التأويلان راجعان إلى أنَّ الله - تعالى - أخبر عن عباده أنَّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة ؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار ، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم ، كما قال - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام - : { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ } [ هود : 36 ] وقال تعالى في غيرهم : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 101 ] فأخبر الله تعالى عنهم أولاً أنَّه لا يظهر العذاب إلاَّ بعد بعثة الرسل ، ثم أخبر ثانياً في هذه الآية : أنه - تعالى - إذا بعث الرسل أيضاً ، فكذِّبوا ، لم يعاجلهم بالعذاب ، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ ، فإن بقوا مصرِّين ، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال . وأجاب الجبائيُّ فقال : ليس المراد من الآية أنَّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقُّوا ذلك ؛ لأنَّه لا يظلم ، وهو على الله محالٌ ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة ، فكان التقدير : وإذا قرب وقت إهلاكِ قريةٍ أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدَّة ، وإذا أراد التَّاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلِّ جهةٍ ، وليس المراد أنَّ المريض يريدُ أن يموت على الذُّنوب ، والتَّاجر يريد أن يفتقر ، وإنَّما يعنون أنه سيصير كذلك ؛ فكذا هاهنا . واعلم أنَّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوَّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسُّك بهذه الآية ، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليماً عن الطَّعن .