Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 18-20)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ } الآية . " مَنْ " شرطية ، و " عَجَّلنا " جوابها ، و " ما يشاءُ " مفعولها ، و " لِمنْ نُريد " بدل بعضٍ من كلٍّ ، من الضمير في " لَهُ " بإعادة العامل ، و " لِمَنْ نُريد " تقديره : لمن نريد تعجيله له . [ قوله : ] " ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم " " جَعلَ " هنا تصييرية . وقوله : " يَصْلاهَا " الجملة حال : إمَّا من الضمير في " لَهُ " وإمَّا من " جَهَنَّم " و " مَذمُوماً " حال من فاعل " يَصْلاها " قيل : وفي الكلام حذف ، وهو حذف المقابل ؛ إذ الأصل : من كان يريد العاجلة ، وسعى لها سعيها ، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه ، وقيل : بل الأصل : من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق . ومعنى " يَصْلاهَا " : يدخلها . " مَذمُوماً " : مطروداً ، " مَدْحُوراً " : مُبْعَداً . وقوله : " سَعْيَهَا " : فيه وجهان : أحدهما : أنه مفعول به ؛ لأنَّ المعنى : وعمل لها عملها . والثاني : أنه مصدر ، و " لهَا " أي : من أجلها . والجملة من قوله : " وهو مُؤمِنٌ " هذه الجملة حال من فاعل " سَعَى " . قوله تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ } : " كُلاًّ " منصوب بـ " نُمِدُّ " و " هؤلاء " بدل ، " وهؤلاءِ " عطف عليه ، أي : كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا تقدير جيدٌ ، وقال الزمخشري في تقديره : " كلَّ واحدٍ من الفريقين [ نُمِدُّ ] " . قال أبو حيان : " كذا قدَّره الزمخشري ، وأعربوا " هؤلاءِ " بدلاً من " كُلاًّ " ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ " كل " على تقدير : كلَّ واحدٍ ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ ، فينبغي أن يكون التقدير : كل الفريقين " . و " مِنْ عطاءِ " متعلقٌ بـ " نُمِدُّ " والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول . والمحظور : الممنوعُ ، وأصله من الحظر ، وهو : جمعُ الشيء في حظيرة ، والحظيرة : ما يعمل من شجرٍ ونحوه ؛ لتأوي إليه الغنم ، والمحتظرُ : من يعمل الحظيرة . فصل قال القفال - رحمه الله - : هذه الآية داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] : ومعناه : أن العمَّال في الدنيا قسان : منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عليه الصلاة والسلام - ، والدخول في طاعتهم ؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً ؛ لأنه في قبضة الله ؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله . بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً ، مدحوراً مطروداً من رحمة الله . وفي لفظ هذه الآية فوائد : أحدها أنَّ العقاب عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة . وثانيها : أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها ، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب . وثالثها : قوله : { لِمَن نُّرِيدُ } يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا ، وعن الدِّين ، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذي ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً . وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ : أحدها : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة ، فإنه إن لم ينو ذلك ، لم ينتفع بذلك العمل ؛ لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 37 ] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه - : " إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ " . والثاني : قوله جلَّ ذكره : { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات ، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان ، ولهم فيها تأويلان : أحدهما : أنهم يقولون : إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته ، وخدمته ، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله ، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب ، أو ملكٍ من الملائكةِ ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى - . فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق ، وهذه طريق فاسدة ، فلا جرم لم ينتفع بها . والتأويل الثاني : أنَّهم قالوا : اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شعفاءنا عند الله - تعالى - ، وهذا الطريق أيضاً فاسد ؛ فلا جرم لم ينتفع بها . وأيضاً : نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، وهذا الطريق أيضاً فاسد ، فلا جرم لم ينتفع بها ، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة . والشرط الثالث : قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وهذا الشرط معتبرٌ ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان ، فإذا لم يوجد ، لم يحصل المشروط ، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً ، والعمل مبروراً . واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر ، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة ، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه ؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى - . وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً ، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى - . يروى في كتب المعتزلة : أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل من أهل السنَّة ، وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى : أنا نشكر على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده ، لامتنع أن نشكره عليه ؛ لأنَّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيحٌ . قال الله - تعالى - : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] . فعجز الحاضرون على الجواب ، فدخل ثمامة بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا نمدحُ الله - تعالى - ونشكره على ما أعطانا من القدرة ، والعقل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الدلائل ، والله - تعالى - يشكرنا على فعل الإيمان ، قال الله - تعالى - : { فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } قالوا : فضحك جعفر بن حربٍ وقال : صعبت المسألة ، فسهلت . واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجبُ الفعل كلامٌ واضح ؛ لأنه " تعالى " هو الذي أعطى الموجب التَّام لحصول الإيمان ، فكان هو المستحقَّ للشُّكر ، ولما حصل الإيمان للعبد ، وكان الإيمان موجباً للسَّعادة التَّامَّة ، صار العبدُ أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين . فصل اعلم أنَّ كلَّ من أتى بفعلٍ ، فإمَّا أن يقصد به تحصيل خيراتِ الدنيا ، أو تحصيل الآخِرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحد منهما . فإن قصد به تحصيل خيراتِ الدنيا فقط ، أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله - تعالى - ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية ، وأما القسمُ الثالث فينقسمُ ثلاثة أقسامٍ : إمَّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً ، أو يكون الطلبان متعادلين . فإن كان طلب الآخرة راجحاً ، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال : إنه غير مقبولٍ ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله - تعالى - أنه قال : " أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عَملَ عَملاً أشْركَ فِيهِ غَيْرِي تَركْتهُ وشَريكَه " وأيضاً : طلب رضوان الله - تعالى - إما أن يكون سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل ، وداعياً إليه ، وإمَّا ألا يكون . فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك البعث والدعاء ؛ لأنَّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامٍّ ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني ، فيكون الدَّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله - تعالى - ؛ لأنَّ المجموع الحاصل من الشَّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله ؛ فوجب ألا يكون مقبولاً ، ويحتمل أن يقال : لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثلُ بالمثلِ ، فيبقى القدر الزائدُ داعية خالصة لطلب الآخرة ؛ فوجب كونه مقبولاً . وأمَّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلبُ الدنيا راجحاً ، فقد اتفقوا على أنه غيرُ مقبولٍ ، إلاَّ أنه على كلِّ حالٍ خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكليَّة عن طلب الآخرة . وأما القسم الرَّابع ، وهو الإقدام على الفعل من غير داع ، فهو مبنيٌّ على أنَّ صدور الفعل من القادر ، هل يتوقَّف على حصول الدَّاعي أم لا ؟ . فالذين يقولون : إنَّه متوقِّف على حصول الداعي ، قالوا : هذا القسم ممتنع الحصول ، والَّذين قالوا : إنَّه لا يتوقَّف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرَّم في الظاهر ؛ لأنه عبثٌ . فصل في معنى الآية معنى الآية أنه تعالى يمدُّ الفريقين بالأموال ، ويوسِّع عليهما في الرِّزق ، والعزِّ والزينة في الدنيا ؛ لأنَّ عطاءه ليس بضيِّقٍ على أحدٍ مؤمناً كان أو كافراً ؛ لأنَّ الكلَّ مخلوق في دار العمل ؛ فوجب إزاحةُ العذر وإزالة العلَّة عن الكلِّ . والتنوين في " كُلاًّ " عوضٌ من المضاف إليه ، أي كلَّ واحد من الفريقين .