Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 59-59)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما استدلَّ على فساد قول المشركين ، وأتبعه بالوعيد ، أتبعه بذكر مسألة النبوة ، واعلم أنَّ الكفَّار كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار المعجزات ، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ } [ الأنبياء : 5 ] . وقال آخرون : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُر لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات . وقال سعيد بن جبيرٍ : إنَّهم قالوا إنَّك تزعمُ أنَّه كان قبلك أنبياءُ منهم من سخِّرت له الريحُ ، ومنهم من أحيا الموتى ، فأتنا بشيءٍ من هذه المعجزات ، فأجابهم الله تعالى بهذه الآية . وفي تفسير هذا الجواب وجوهٌ : الأول : أن المعنى أنِّي إن أظهرتُ تلك المعجزاتِ ، ثم لم يؤمنوا بها ، بل بقوا مصرِّين على الكفر ، فحينئذ : يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال ، لكنَّ إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمَّة غير جائزٍ ؛ لأن الله تعالى علم [ أن ] فيهم من سيؤمن أو يؤمن من أولادهم ، فلهذا لم يظهر تلك المعجزات . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفا ذهباً ، وأن يزيل عنهم الجبال ، حتَّى يزرعوا تلك الأرض ، فطلب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ذلك من الله تعالى ، فقال سبحانه جلَّ ذكره : إن شئت أن أستأني فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما شاءوا فعلت لكن بشرط ؛ أنهم إن لم يؤمنوا ، أهلكتهم ، قال : لا أريد ذلك ، فنزلت هذه الآية . الثاني في تفسير هذا الجواب : أنَّا لا نظهر المعجزاتِ ؛ لأن آباءكم رأوها ، ولم يؤمنوا بها ، وأنتم مقتدون بهم ، فلو رأيتموها ، لم تؤمنوا بها أيضاً . الثالث : أنَّ الأوَّلين رأوا هذه المعجزات ، وكذَّبوا بها ، فعلم الله منكم أيضاً : أنَّكم لو شاهدتموها ، لكذَّبتم بها ، فكان إظهارها عبثاً ، والحكيم لا يفعل العبث . قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ } : " أن " الأولى وما في حيزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على اختلاف القولين ؛ لأنها على حذف الجارِّ ، أي : من أن نرسلَ ، والثانية وما في حيِّزها في محلِّ رفع بالفاعليَّة ، أي : وما منعنا من إرسال الرسل بالآيات إلا تكذيب الأوَّلين ، أي : لو أرسلنا الآيات المقترحة لقريشٍ ، لأهلكوا عند تكذيبهم ؛ كعادة من قبلهم ، لكن علم الله سبحانه أنَّه يؤمن بعضهم ، ويكذِّبُ بعضهم من يؤمنُ ، فلذلك لم يرسل الآيات لهذه المصلحة . وقدَّر أبو البقاء رحمه الله مضافاً قبل الفاعل ، فقال : " تقديره : إلاَّ إهلاكُ التكذيب " . كأنَّه يعني أنَّ التكذيب نفسه لم يمنع من ذلك ، وإنَّما منع منه ما يترتَّب على التَّكذيب ، وهو الإهلاك ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لاستقلالِ المعنى بدونه . قوله تعالى : { وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً } . قرأ العامة بنصب " مُبْصِرةً " على الحال ، وزيدُ بن عليٍّ يرفعها على إضمار مبتدأ ، أي : هي ، وهو إسناد مجازي ، إذ المراد إبصار أهلها ، ولكنها لمَّا كانت سبباً في الإبصار ، نسب إليها ، وقرأ قومٌ بفتح الصَّاد ، مفعولٌ على الإسناد الحقيقيِّ ، وقتادة بفتح الميم والصَّاد ، أي : محل إبصارٍ ، كقوله - عليه السلام - : " الولدُ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ " ، وكقوله : [ الكامل ] @ 3433 - … والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنَفْسِ المُنْعمِ @@ أجرى هذه الأشياء مجرى الأمكنة ؛ نحو : أرضٌ مسبعةٌ ومذأبةٌ . قوله تعالى : { إِلاَّ تَخْوِيفاً } يجوز أن يكون مفعولاً له ، وأن يكون مصدراً في موضع الحال : إمَّا من الفاعل ، أي : مخوِّفين أو من المفعول ، أي : مخوَّفاً [ بها ] . فصل المعنى أنَّ الآية التي التمسوها مثل آية ثمود ، وقد آتينا ثمود النَّاقة مبصرة ، أي : واضحة بيِّنة ، ثم كفروا بها ، فاستحقُّوا بها عذاب الاستئصال ، فكيف يتمنَّاها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتَّحكُّم . قال الفراء : مبصرة : مضيئة . قال تعالى : { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] أي : مضيئاً ، وقيل : مبصرة أي : ذات إبصار ، أي : فيها إبصارٌ لمن تأمَّلها ببصر بها رشده ، ويستدلُّ بها على صدق ذلك الرسول - صلوات الله عليه - . { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها ، أي : فعاجلناهم بالعقوبة . وقال ابن قتيبة : ظلموا بها ، أي : جحدوا بأنَّها من الله تعالى ، ثم قال تعالى { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } قيل : لأنه لا آية إلاَّ وتتضمَّن التخويف عند التكذيب ، إمَّا من العذاب المعجَّل ، أو من العذاب المؤجَّل عذاب الآخرة . فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآياتِ أن يستدلَّ بها على صدق المدَّعى ؛ فكيف حصر المقصود من إظهارها في التَّخويف ؟ . فالجواب : أن مدَّعي النبوّة ، إذا أظهر الآية ، فإذا سمع الخلق منه ذلك ، فهم لا يعلمون أنَّ تلك الآية معجزةٌ ، أو غير معجزةٍ ، إلاَّ أنَّهم يجوزون كونها معجزة ، وبتقدير أن تكون معجزة ، فلو لم يتفكَّروا فيها ، ولم يستدلُّوا على الصِّدق ، لاستحقوا العذاب الشديد ، فهذا الخوف هو الذي يحملهم على التفكُّر والتأمل في تلك المعجزات ، فهذا هو المراد من قوله : { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } .