Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 78-79)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في النظم وجوهٌ : أولها : أنه تعالى لمَّا قرَّر الإلهيَّات والمعاد ، والنبوة ، أردفها بذكر الآية بالطَّاعات ، وأشرفُ الطَّاعات بعد الإيمان الصلاة ، فلهذا أمر بها . وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا قال : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 76 ] . أمره تعالى بالإقبال على عبادته ؛ لكي ينصره الله ، فكأنَّه قيل : لا تبالِ بسعيهم في إخراجك من بلدك ، ولا تلتفت إليهم ، واشتغل بعبادة الله ، والدوام على الصلاة ؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرَّهم عنك ، ويجعل يدك فوق أيديهم ، ودينك عالياً على أديانهم . نظيره قوله تعالى : { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ؤَانَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [ طه : 130 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [ الحجر : 97 - 99 ] . وثالثها : أنَّ اليهود ، لمَّا قالوا له : اذهب إلى الشَّام ، فإنه مسكن الأنبياء ، وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذَّهاب إليه ، فكأنَّه قيل له : المعبودُ واحدٌ في كلِّ البلاد ، وما النصر والقوَّة والدولة إلا بتأييده ونصرته ، فدوام على الصَّلوات ، وارجع إلى مقرِّك ومسكنك ، فقل : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] " واجْعَلْ لي " في هذه البلد { مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } [ الإسراء : 80 ] في تقرير دينك ، وإظهار شريعتك . قوله تعالى : { لِدُلُوكِ } : في هذه اللام وجهان : أحدهما : أنها بمعنى " بَعْدَ " أي : بعد دلوكِ الشمسِ ، ومثله قولُ متمِّم بن نويرة : [ الطويل ] @ 3448 - فَلمَّا تَفرَّقْنَا كأنِّي ومَالِكاً لطُولِ اجتِماعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعَا @@ ومثله قولهم : " كَتبْتُه لثلاثٍ خَلوْنَ " . والثاني : أنها على بابها ، أي : لأجل دلوك ، قال الواحديُّ : " لأنَّها إنَّما تجبُ بزوالِ الشَّمسِ " . والدُّلُوك : مصدر دلكتِ الشمس ، وفيه ثلاثة أقوالٍ : أشهرها : أنه الزَّوالُ ، وهو نصفُ النَّهار . وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - وابن عمر ، وجابر ، وعطاء ، وقتادة ، ومجاهدٍ ، والحسنِ ، وأكثر التَّابعين - رضي الله عنهم - . روى الواحديُّ في " البسيط " عن جابر - رضي الله عنه - قال : طَعِمَ عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خرجوا حين زالتِ الشمس ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا حين دلكت الشَّمسُ " . ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتَانِي جِبْريلُ صلوات الله عليه لدُلوكِ الشَّمسِ ، حينَ زَالتِ الشَّمْسُ ؛ فصّلَّى بِي الظُّهْرَ " . وقال أهل اللغة : الدُّلوكُ في كلام العرب : الزَّوال ، ولذلك قيل للشمس ، إذا زالت نصف النهار : دالكة ، وقيل لها ، إذا أفلت : دالكة ؛ لأنها في الحالتين زائلة ، قاله الأزهريُّ . وقال القفال : أصلُ الدُّلُوك : الميل ؛ يقال : مالتِ الشمس للزَّوال ، ويقال : مالت للغُروب . وإذا ثبت ذلك ، وجب أن يكون المراد من الدلوك ها هنا الزَّوال عن كبد السماء ، لأنَّه تعالى علَّق إقامة الصلاة بالدُّلوك ، والدُّلوك عبارة عن الميل والزَّوال ؛ فوجب أن يقال : إنه أوَّل ما حصل الميل والزَّوال ، تعلق به هذا الحكم . وقال الأزهريُّ : الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النَّهار ؛ لأنَّا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلِّها ؛ فدلوك الشمس يتناول صلاة الظُّهر والعصر إلى غسق الليل ، ثم قال : " وقُرْآن الفَجْرِ " وعلى هذا التقدير : يتناول المغرب والعشاء ، وقرآن الفجر صلاة الفجر إذا حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات ، وهي المغرب والعشاء والفجر ، وحمل كلام الله - تعالى - على ما يكون أكثر فائدة أولى ، وأيضاً ، فالقائلون به أكثر . القول الثاني : أنَّ الدُّلُوك : هو الغروب ، وهو قول ابن مسعود ، وبه قال إبراهيم النخعيُّ ، ومقاتل بن حيَّان ، والضحاك والسديُّ ، وهو اختيار الفراء واحتج له بقول الشاعر : [ الرجز ] @ 3449 - هَذا مُقامُ قَدمَيْ رَباحِ ذبَّبَ حتَّى دَلكَتْ بِرَاحِ @@ أي : غربت براحِ ، وهي الشمسُ ، وأنشد ابن قتيبة على ذلك قول ذي الرمَّة : [ الطويل ] @ 3450 - مَصابِيحُ ليسَتْ باللَّواتِي تقُودهَا نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدَّوالكِ @@ أي : الغاربات . وهذا استدلالٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ الدُّلوك عبارة عن الميل والتغيُّر ، وهو حاصل في الغروب ، فكان الغروب نوعاً من أنواع الدُّلوك ، فكان وقوعُ لفظ الدُّلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزَّوال ، كما أنَّ وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس . القول الثالث : أنه من الزَّوال إلى الغروب ، قال الزمخشريُّ : " واشتقاقه من الدَّلكِ ؛ لأنَّ الإنسانَ يدلكُ عينه عند النَّظر إليها " وهذا يفهم أنه ليس بمصدرٍ ؛ لأنه جعله مشتقًّا من المصدرِ ؛ واستدلُّوا بهذا على أنَّ الدُّلُوك هو الغروب ، قالوا : وهذا إنما يصحُّ في الوقت الذي يمكن النَّظر إليها ، أما عند كونها في وسط السَّماء ، ففي ذلك الوقت لا يمكن النَّظر إليها ، فثبت أن الدلوك هو الغروب . والجواب : أنَّ الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السَّماءِ أتمُّ ، فالذي ذكرتم يدلُّ على أنَّ الدُّلوك عبارةٌ عن الزَّوال من وسط السَّماء ؛ بطريق الأولى . وقال الراغب : " دُلوكُ الشمسِ : ميلها للغروب ، وهو من قولهم : دَلكْتُ الشَّمسَ : دفعتها بالرَّاح ، ومنه : دَلكتُ الشيء في الرَّاحةِ ، ودلكتُ الرَّجلَ : ماطلته ، والدَّلوكُ : ما دلكته من طيبٍ ، والدَّليكُ : طعامٌ يتَّخذُ من زبدٍ وتمرٍ " . قوله : { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ } في هذا الجارِّ وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بـ " أقِمْ " فهي لانتهاءِ غاية الإقامة ، وكذلك اللام في " لِدُلوكِ " متعلقة به أيضاً . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من " الصَّلاة " أي : أقمها ممدودة إلى غسق الليل ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر : من حيث إنه قدَّر المتعلق كوناً مقيداً ، إلا أن يريد تفسير المعنى ، لا الإعراب . والغسقُ : دخول أوَّل الليل ، قاله ابن شميلٍ ، وأنشد : [ الرجز ] @ 3451 - إنَّ هذا اللَّيلَ قد غَسقَا واشْتكيتُ الهَمَّ والأرقَا @@ وقيل : هو سواد الليل ، وظلمتهُ ، وأصله من السَّيلان : غسقتِ العينُ ، أي : سال دمعُها ، فكأنَّ الظُّلمَة تنصبُّ على العالم ، وتسيلُ عليهم ؛ قال : [ البسيط ] @ 3452 - ظَلَّتْ تَجودُ يَداهَا وهي لاهِيَةٌ حتَّى إذَا هَجَمَ الإظلامُ والغَسقُ @@ ويقال : غَسقتِ العينُ : امتلأتْ دمعاً ، وغسق الجرحُ : امتلأ دماً ؛ فكأنَّ الظُّلمةَ ملأتِ الوجود . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : الغَسقُ : بُدُوُّ اللَّيْل وقال قتادة : وقتُ صلاة المغرب . وقال مجاهدٌ : غروب الشَّمس . والغاسقُ في قوله : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [ الفلق : 3 ] قيل : المراد به : القمر ، إذا كسف ، واسودَّ . قال - صلوات الله وسلامه عليه - لعائشة - رضي الله عنها - حين رأتْ كسوف القمر : " اسْتعِيذِي مِنْ شرِّ الغَاسقِ إذَا وَقبَ " . وقيل : اللَّيل ، والغساقُ ، بالتخفيف ، والتشديد : ما يسيلُ من صديد أهل النار ، ويقال : غَسقَ اللَّيلُ ، وأغسقَ ، وظَلمَ ، وأظْلمَ ، ودَجَى ، وأدْجَى ، وغَبشَ ، وأغْبشَ ، نقله الفراءُ . فصل في معنى الغسق قال الأزهريُّ : غسق الليل عندي : غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة ، واشتدادها ، يقال : غسقتِ العين ، إذا امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : إذا امتلأت دماً . قال : لأنَّا إذا حملنا الشَّفق على هذا المعنى ، دخلت الصَّلوات الأربعة فيه ، وهي الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ولو حملنا الغسق على ظهور أوَّل الظُّلمة ، لم يدخل فيه الظهر والعصر ؛ فوجب أن يكون الأول أولى . واعلم أنَّه يتفرَّع على هذين الوجهين بحثٌ حسنٌ ؛ فإن فسَّرنا الغسق بظهور أوَّل الظلمة ، كان الغسق عبارة عن أوَّل المغرب ، وعلى هذا : يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقاتٍ : وقت الزَّوال ، ووقت أوَّل المغرب ، ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال : وقتاً للظُّهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين ، وأن يكون أوَّل وقت المغرب وقتاً للمغرب والعشاء ، فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء مطلقاً ، إلا أنَّه دلَّ الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذرٍ لا يجوز ؛ فوجب أن يكون الجمع جائزاً مع العذر . وإذا فسَّرنا الغسق بالتراكم ، فنقول : الظلمة المتراكمة ، إنَّما تحصل عند غيبوبة الشَّفق الأبيض ، وكلمة " إلى " لانتهاءِ الغاية ، والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية ؛ فوجب إقامةُ الصلوات كلِّها قبل غيبوبة الشَّفق الأبيض ، وهذا إنَّما يصحُّ إذا قلنا : إنَّها تجبُ عند غيبوبة الشَّفق الأحمر . قوله تعالى : { وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ } فيه أوجه : أحدها : أنه عطف على " الصَّلاة " أي : وأقم قرآن الفجرِ ، والمراد به صلاة الصبح ، عبَّر عنها ببعض أركانها . والثاني : أنه منصوبٌ على الإغراء ، أي : وعليك قرآن الفجرِ ، كذا قدَّره الأخفش وتبعه أبو البقاء ، وأصول البصريِّين تأبى هذا ؛ لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة . الثالث : انه منصوب بإضمار فعلٍ ، أي : كثِّر قرآن ، أو الزم قرآن الفجرِ . فصل في دلالة الآية دلَّت هذه الآية على أمور : منها : أنَّ الصلاة لا تكون إلا بقراءة ؛ لقوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ } . ومنها : أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر ، و التقدير : وأقم قرآن الفجرِ . ومنها : أنه علَّق القراءة بحصول الفجر ، وفي أوَّل طلوع الصُّبح قد حصل الفجر ؛ لأنَّ الفجر سمِّي فجراً ؛ لانفجار ظلمة الليل عن نور الصَّباح ، وظاهر الأمر الوجوب ، فاقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أوَّل طلوعه ، إلاَّ أنَّ الإجماع على أنَّ هذا الوجوب غير حاصل ؛ فوجب أن يبقى على النَّدب ؛ لأنَّ الوجوب عبارةٌ عن رجحانٍ مانعٍ من التَّرك ، فإذا منع مانع من تحقُّق الوجوب ، وجب أن يرتفع المنع من التَّرك ، وأن يبقى أصل الرُّجحان ؛ حتَّى تنقل مخالفة الدليل ؛ فثبت أنَّ هذه الآية تقتضي أنَّ إقامة الفجر في أوَّل الوقت أفضل ؛ وهذا يدلُّ على أن التغليس أفضل من التَّنوير . ومنها أن القراءة تكون في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات ؛ لأنَّ المقصود من قوله تعالى : { وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } الحثُّ على طول القراءة في هذه الصلاة ؛ لأن التخصيص بالذِّكر يدلُّ على أنه أكملُ من غيره . ومنها : قوله تعالى : { إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } . ومعناه : أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصُّبح خلف الإمام ، تنزلُ ملائكة النَّهارعليهم ، وهم في الصَّلاة ؛ قبل أن تعرج ملائكة اللَّيل ، وإذا فرغ الإمام من الصلاة ، عرجت ملائكة الليل ، ومكثت ملائكة النَّهار ، ثمَّ إن ملائكة الليل إذا صعدت ، قالت : يا ربِّ ، إنَّا تركنا عبادك يصلُّون لك ، وتقول ملائكة النَّهارِ : ربَّنا ، أتينا عبادك يصلُّون لك ، فيقول الله تعالى لملائكته : اشهدوا أنِّي قد غفرت لهم . وهذا يدل على أنَّ التغليس أفضل من التنوير ، لأنَّ الإنسان ، إذا شرع فيها من [ أوَّل ] الصُّبح ، ففي ذلك الوقت : الظلمة باقية ، فتكون ملائكة الليل حاضرين ، ثمَّ إذا امتدَّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة ، وتكثيرها ، زالت الظلمة ، وظهر الضوء ، وحضرت ملائكةُ النهار ، وأمَّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التَّنوير ، فهناك لم يبق أحدٌ من ملائكة الليل ؛ فلا يحصل المعنى المذكور ، فقوله جلَّ ذكره : { كَانَ مَشْهُوداً } . يدلُّ على أنَّ التغليس أفضلُ . قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ } : في " مِنْ " هذه وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بـ " تَهجَّد " أي : تهجَّد بالقرآن بعض الليل . والثاني : أنها متعلقة بمحذوفٍ ، تقديره : وقم قومة من الليل ، أو : واسهر من الليل ، ذكرهما الحوفيُّ ، وقال الزمخشريُّ : " وعليك بعض الليل ، فتهجَّد به " فإن كان أراد تفسير المعنى ، فقريبٌ ، وإن أراد تفسير الإعراب ، فلا يصحُّ ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً ، وجعله " مِنْ " بمعنى " بعضٍ " لا يقتضي اسميَّتها ؛ بدليل أنَّ واو " مَعَ " ليست اسماً بإجماع ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو " مَعَ " . والضمير في " به " : الظاهر : عوده على القرآن ؛ من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر . والثاني : أنها تعود على الوقت المقدر ، أي : وقُم وقتاً من الليل ، فتهجَّد بذلك الوقت ، فتكونُ الباء بمعنى " في " . قوله " نَافِلةً " فيها أوجه : أحدها : أنها مصدرٌ ، أي : تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة . والثاني : أنها منصوبة بـ " تهجَّد " لأنه في معنى " تنفَّل " فكأنه قيل : تنفَّل نافلة ، والنَّافلةُ ، مصدر ؛ كالعاقبة ، والعافية . الثالث : أنها منصوبة على الحال ، أي : صلاة نافلةٍ ، قاله أبو البقاء ، وتكون حالاً من الهاء في " به " إذا جعلتها عائدة على القرآن ، لا على وقتٍ مقدر . الرابع : أنها منصوبة على المفعول بها ، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ ، فإنه قال : " ويجوز أن ينتصب " نَافلةً " بتهجَّد ، إذا ذهبت بذلك إلى معنى : صلِّ به نافلة ، أي : صلِّ نافلة لك " . والتهَجُّدُ : ترك الهجود ، وهو النُّومُ ، " وتفَعَّل " يأتي للسَّلب ، نحو : تحرَّج ، وتأثَّم ، وفي الحديث : " كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ " وفي الهجودِ خلافٌ بين أهل اللغة ، فقيل : هو النَّومُ ؛ قال : [ الطويل ] @ 3453 - وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي … @@ وقال الآخر : [ الطويل ] @ 3454 - ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ … @@ وقال آخر : [ الوافر ] @ 3455 - ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ @@ فَهجودٌ : نيامٌ ، جمع " هاجدٍ " كساجد ، وسجُودٍ ، وقيل : الهجود : مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي ، قال ابن الأعرابي : " تهجَّد : صلَّى من الليل ، وتهجد : نام " وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى - . قال الواحديُّ : الهُجودُ في اللغة : النومُ ، وهو كثيرٌ في الشِّعر . يقال : أهجدتُّه وهجدتُّه ، أي : أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [ الرمل ] @ 3456 - قَالَ : هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى … @@ كأنه قال : نوِّمنا ؛ فقد طال السُّرى ؛ حتى غلب علينا النَّوم ، وقال الأزهري : المعروف في كلام العرب : أنَّ الهاجد هو النَّائم ، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً ؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً ؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه ؛ كما ياقل للعابد : " مُتحَنِّثٌ " ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه ، وروي أن الحجَّاج بن عمرٍو المازنيَّ قال : أيَحسبُ أحدكم ، إذا قام من اللَّيلِ ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد ، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً عليه . والنافلةُ في اللغة : الزيادة على الأصل ، وقد تقدَّم في الأنفال ، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل ، هل كانت واجبة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ . فقيل : إنَّها واجبة عليه ؛ لقوله سبحانه وتعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 1 ، 2 ] ثم نسخت ، فصارت نافلة ، أي : تطوُّعاً وزيادة على الفرائض . وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً ، قالا : إنَّ الله قد غفر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ما تقدَّم من ذنبه ، وما تأخَّر ، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها صلى الله عليه وسلم سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب ، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ ، وكثرة الثَّواب ؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب ، فلهذا سمِّي نافلة ؛ بخلاف الأمة ؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير ، فهذه الطاعة يحتاجون إليها ؛ لتكفير السَّيئات عنهم ؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا في حقِّ غيره ، فلهذا قال : " نَافلةً لكَ " ، فهذا معنى يخصِّصهُ . وأمَّا من قال : إنَّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : معنى كونها نافلة له على التخصيص ، يعني : أنَّها فريضةٌ لك ، زائدة على الصَّلوات الخمس ، خصِّصت بها من دون أمَّتك ؛ ويدلُّ على هذا القولِ قوله تعالى : { فَتَهَجَّدْ } والأمر للوجوب ، ويرد هنا قوله : نَافِلَةً لَّكَ ] ، لأنَّه لو كان المراد الوجوب ، لقال : " نَافِلةً عليك " . واعلم أنَّ قوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ } وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًّا بالرسول - صلوات الله عليه وسلامه - إلا أنَّه في المعنى عامٌّ في حقِّ الأمَّة ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } بيَّن أن الأمر بالتهجد يختصُّ بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - والأمر بالصَّلوات الخمس غير مخصوصٍ بالرسول - صلوات عليه - وإلاَّ لم يكن لتقييد المر بالتهجُّد بهذا القيد فائدةٌ . قوله تعالى : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } في نصب " مقاماً " أربعة أوجه : أحدها : أنه منصوبٌ على الظرف ، أي : يبعثك في مقام . الثاني : أن ينتصب بمعنى " يَبْعثكَ " ؛ لأنه في معنى " يُقِيمكَ " ؛ يقال : أقيم من قبره ، وبعث منه ، بمعنًى ، فهو نحو : قعد جلوساً . الثالث : أنه منصوبٌ على الحال ، أي : يبعثك ذا مقامٍ محمود . الرابع : أنه مصدر مؤكد ، وناصبه مقدر ، أي : فيقوم مقاماً . و " عَسَى " على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيَّن فيها أن تكون التامة ؛ فتكون مسندة إلى " أنْ " وما في حيِّزها ؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون " أنْ يَبْعثكَ " خبراً مقدَّماً ، و " ربُّكَ " اسماً مؤخراً ؛ لزمَ من ذلك محذورٌ : وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها ، فإنَّ " مَقاماً " على الأوجه الثلاثة الأول : منصوبٌ بـ " يَبْعثكَ " ، وهو صلة لـ " أنْ " ، فإذا جعلت " ربُّكَ " اسمها ، كان أجنبيًّا من الصلة ، فلا يفصل به ، وإذا جعلته فاعلاً ، لم يكن أجنبيًّا ، فلا يبالي بالفصل به . وأمَّا على الوجه الرابع : فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير ؛ لعدم المحذور ؛ لأنَّ " مقاماً " معمولٌ لغير الصلة . وقوله : " محموداً " في انتصابه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على الحال من قوله : يَبْعثكَ ، أي : يبعثك محموداً . والثاني : أن يكون نعتاً للمقام . فصل في معنى " عسى " من الله اتفق المفسرون على أنَّ كلمة " عَسَىٰ " من الله واجبٌ . قال أهل المعاني : لأنه لفظ يفيد الإطماع ، ومن أطمع إنساناً في شيء ، ثم حرمه ، كان عاراً ، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء ، ثم لا يعطيه . وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ : الأول : أنه الشَّفاعة . قال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : " هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه " . قال ابن الخطيب : واللفظ مشعر به ؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ ، والحمد ، إنما يكون على الإنعام ، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فحمدوه على ذلك الإنعام ، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين ، وتعليم الشرائع ؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال ، وقوله : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ } تطميعٌ ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس ، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى . وأيضاً : التنكيرُ في قوله : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } يدل على أنه يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب ؛ لأنَّه لا حاجة به إليها ؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها ، وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب ؛ على ما هو مذهب أهل السنة . ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا ، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى ، وجب حمل اللفظ عليه ، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن : " وابعثه المقام المحمود الذي وعدته " . واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة . والقول الثاني : قال حذيفة : يجمع الناس في صعيدٍ ، فلا تتكلَّم نفسٌ ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول : لَبَّيكَ ، وسَعْديْكَ ، والشَّرُّ ليس إليك ، والمهديُّ من هَديْتَ ، والعَبْدُ بين يَديْكَ ، وبِكَ وإلَيْكَ ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ ، تَباركتَ ، وتَعاليْتَ ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ " . قال : فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } . والقول الأول أولى ؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده ، فيصير محموداً ، وأمَّا ذكر هذا الدعاء ، فلا يفيد إلا الثواب ، أمَّا الحمد ، فلا . فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنَّه تعالى يحمده على هذا القول ؟ . فالجواب : أنَّ الحمد في اللغة : مختصٌّ بالثناءِ المذكور في مقابلة الإنعام بلفظٍ ، فإن ورد لفظ " الحمد " في غير هذا المعنى ، فعلى سبيل المجاز . القول الثالث : المراد مقامٌ تحمد عاقبته ، وهذا ضعيفٌ ؛ لما ذكرنا . القول الرابع : قال الواحديُّ - رحمه الله - : روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال : يقعدُ الله محمداً على العرشِ ، وعن مجاهد أنَّه قال : يجلسه معه على العرشِ . قال الواحدي : وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه : الأول : أن البعث ضدُّ الإجلاس ، يقال : بعثتُ النَّاقة ، وبعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ ؛ وهو فاسدٌ . والثاني : أنه تعالى ، لو كان جالساً على العرشِ ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً ، ومن كان كذلك ، فهو محدثٌ . الثالث : أنه تعالى قال : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } ولم يقل : مقعداً ، والمقام : موضع القيام ، لا موضع القعود . الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه ، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين ، لم يكن في تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ . الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً ، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم ، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه ؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل ، عديم الدِّين .