Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 58-62)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : " والَّذِينَ هَاجَرُوا " مبتدأ ، وقوله : " لَيَرْزُقَنَّهُم " جواب قسم مقدر ، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله : " والَّذِينَ هَاجَرُوا " . وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ . ومن يمنع يضمر قولاً هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية . وهو قول مرجوح . قوله : " رِزْقاً " يجوز أن تكون مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرعي والذبح أي : مرزوقاً حسناً . وأن يكون مصدراً مؤكداً . وقوله : " ثُمَّ قُتِلُوا " وقوله : " مُدْخَلاً " تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران وفي النساء . فصل لما ذكر أن المُلْكَ له يوم القيامة ، وأنه يَحكم بينهم ، ويُدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين ، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال : " وَالَّذِينَ هَاجَرُوا " فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله ، وطلب رضاه { ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ } وهم كذلك قال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم . ثم قال : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقاً حَسَناً } والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة . وقال الأصم : إنه العلم والفهم لقول شعيب - عليه السلام - { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } [ هود : 88 ] . ( وقال الكلبي : " رِزْقاً حَسَناً " ) أي حلالاً وهو الغنيمة . وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت ، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة . ثم قال : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } معلوم بأن كل الرزق من عنده . فقيل : إن التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره . وقيل : المراد أنه الأصل في الرزق ، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله . وقيل : إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق . وقيل : إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به ، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء ، أو لأجل الرقّة الجنسية ، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً ، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان . وقيل : إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل ، وتلك الإرادة من الله ، فالرازق في الحقيقة هو الله . فصل قالت المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة : الأول : أن غير الله قادر . الثاني : أن غير الله يصح أن يرزق ويملك ، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك . الثالث : أن الرزق لا يكون إلا حلالاً ، لأن قوله : " خَيْرُ الرَّازِقِيْن " يدل على كونهم ممدوحين . والجواب : لا نزاع في كون العبد قادراً ، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام . والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه . فصل دل قوله : { ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ } على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء ، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد ، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان " ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة . قوله : " لَيُدْخِلَنَّهُمْ " هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من " لَيَرْزُقَنَّهُم " وأن تكون مستأنفة . وقوله : " مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه " قال ابن عباس : إنما قال : " يَرْضَوْنَه " لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . فـ " يَرْضَوْنَه " وقوله : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] وقوله : { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 28 ] { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] . ثم قال : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة ، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية ، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة . قوله تعالى : { ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ } " ذَلِكَ " خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف . والباء في قوله : { بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة . " وَمَنْ عَاقَبَ " مبتدأ خبره " لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ " . فصل المعنى : الأمر ذلك الذي قصصناه عليك { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } أي قاتل من كان يقاتله ، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال . قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم ، وكره المسلمون قتالهم ، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام ، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا ، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام . فأنزل الله هذه الآية ، وعفا عنهم وغفر لهم . والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك . وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية . قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حَرَّق حَرَّقْنَاه ، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية ، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر . وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف . فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها ؟ فالجواب : كأنه تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } [ الشورى : 40 ] { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 237 ] { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال : إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها . وقيل : إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة ، فلوَّح بذكر هاتين الصفتين . وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده . قوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ } وفيه وجهان : الأول : أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر ، ومن قدرته كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما ، فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما ، وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر . الثاني : المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر . ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده . وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات . و " ذَلَكَ " مبتدأ و " بأَنَّ اللَّهَ " خبره ، ثم قال : { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، فكذلك يدرك المسموع والمبصر ، ولا يجوز المنع عليه ، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر . قوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ } الآية . قرأ العامة " وأن ما " عطفاً على الأول . والحسن بكسرها استئنافاً . وقوله : " هُوَ الحَقّ " يجوز أن يكون فصلاً ومبتدأ . وجوَّز أبو البقاء أن يكون توكيداً . وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر ، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال : إياه ، لأن المتبوع منصوب . وقرأ الأخوان وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان " يَدْعُونَ " بالياء من تحت . والباقون بالتاء من فوق ، والفعل مبني للفاعل وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنياً للمفعول . والواو التي هي ضمير تعود على معنى " ما " والمراد بها الأصنام أو الشياطين ، ومعنى الآية : أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق ، أي : هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله : { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ } [ غافر : 43 ] . { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } العلي القاهر المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره ، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه ، وذلك يفيد كمال القدرة .