Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 112-118)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } قرأ الأخوان : { قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ } { قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ } بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوَّل فقط . والباقون : " قَالَ " في الموضعَين على الإخبار عن الله أو الملك . والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة ، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة . فحمزة والكسائي وَافَقَا مصاحف الكوفة ، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها . وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة ، وفي الأَوَّل غيرها ، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها . وأمّا الباقون فوافقُوا مصاحفهم في الأوّل والثاني . فَعَلَى الأمر معنى الآية : قُولُوا أَيُّها الكَافِرُونَ ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوماً . ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي : قل أيها الكافرون . وأمّا على الخبر أي قال الله - عزَّ وجلَّ - للكفار يوم البعث { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي : في الدنيا أو في القبور . و ( كَمْ ) في موضع نصب على ظرف الزمان ، أي : كم سنة ، و " عَدَد " بدل من " كَمْ " قاله أبو البقاء ، وقال غيره : " عَدَدَ سَنِينَ " تمييز لـ " كَمْ " وهذا هو الصحيح . وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم : " عَدَداً " منوناً ، وفيه أوجه : أحدها : أن يكون عدداً مصدراً أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح . يعني : أنَّ الأصل سنين عدداً . أي : معدودة ، لكنّه يلزم تقديم النعت على المنعوت ، فصوابُه أن يقول فانتُصب حالاً هذا مذهب البصريين . والثاني : أن " لَبِثْتُم " بمعنى : عددتم ، فيكون نصب " عَدَداً " على المصدر و " سَنِينَ " بدل منه . قاله صاحب اللوامح أيضاً . وفيه بُعْد لعدم دلالة اللبث على العدد . والثالث : أنَّ " عَدَداً " تمييز لـ " كَمْ " و " سِنِينَ " بدل منه . فصل الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنّهم كانُوا ينكرون لبثاً في الآخرة أصلاً ، ولا يُعدون اللبث إلاّ في دار الدنيا ، ويظنون أنَّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة . فلمّا حصلوا في النار ، وأيقنوا دوامها ، وخلودهم فيها سألهم { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } مُنبِّهاً لهم على ما ظَنُّوه دائماً طويلاً ، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه ، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا ، حيث تيقّنوا خلافه ، وهذا هو الغرض من السؤال فإنْ قيل : فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ولا يقع الكذب من أهل النار ؟ فالجواب : لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا : " فَاسْأَلِ العَادِّينَ " . قال ابن عباس : أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين . وقيل : مرادهم بقولهم : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب . وقيل : أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة ، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة . فصل اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث ؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا ، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار . وقيل : المراد اللبث في حال الموت ، لأنَّ قوله : " فِي الأَرْضِ " يفيد الكَوْن في الأَرض أي : في القبر ، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض . وهذا ضعيف لقوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 56 ، 85 ] ، واستدلوا أيضاً بقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] ثم قالوا : " فَاسْأَلِ العَادِّينَ " أي : الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُونها عليهم ، وهذا قول عكرمة . وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا . وقيل : المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه . وقُرئ " العَادِينَ " بالتخفيف ، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية جمع ( عَادِي ) اسم فاعل من ( عَدَا ) أي : الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا . وقيل : العَادين : القدماء المعمرين ، فإنّهم سيقصرونها . قال أبو البقاء : كقولك : هذا بئر عَاديَة ، أي ؛ سل من تقدّمنا ، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا : الأشعرون ، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين . قال شهاب الدين : المحذوف أَوّلاً الياء الثانية ؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان . ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال : وقُرئ ( العَادِيين أي : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرُونَها ، فكيف بِمَن دُونهم ؟ قال ابن خالويه : ولغة أخرى العَادِيّين يعني : بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء ) . فصل احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال : قوله : { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض ، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض ، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة ، فلم يقولوا : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } . والجواب من وجهين : الأول : أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال ، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ بعده إلاّ في الآخرة ، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر . والثاني : يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه ، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } عند أنفسنا . قوله : " إِنْ لَبِثْتُم " أي : ما لبثتم " إِلاَّ قَلِيلاً " ، وكأنه قيل لهم : صدقتم ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً ، لأنها في مقابلة أيام الآخرة . قوله : " لَوْ أَنَّكُمْ " جوابها محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة . وانتصب " قليلاً " ( على النعت ) لزمن محذوف ( أو لمصدر محذوف ) أي : إلاّ زمناً قليلاً ، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً . قوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } الآية في نصب ( عَبَثاً ) وجهان : أحدهما : أنّه مصدر واقع موقع الحال أي : عابثين . والثاني : أنه مفعول من أجله أي : لأجل العبث . والعَبَث : اللعب ، وما لا فائدة فيه ، أي : لتعبثوا وتلعبوا ، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وكل ما ليس له غرض صحيح . يقال : عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب ، وأصله من قولهم عبثت الأَقِط ، أي : خلطته ، والعَبِيث : طعام مخلوط بشيء ، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط . قوله : " وَأَنَّكُمْ " يجوز أن يكون معطوفاً على ( أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ) لكون الحسبان منسحباً عليه وأن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) إذا كان مفعولاً من أجله . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) أي : للعبث ولترككم غير مرجوعين وقُدّم " إِلَيْنَا " على ( تُرْجَعُونَ ) لأجل الفواصل . قوله : " لاَ تُرْجَعُونَ " هو خبر " أَنَّكُمْ " ، وقرأ الأخوان " تَرْجِعُونَ " مبنياً للفاعل ، والباقون مبنياً للمفعول . وقد تقدّم أن ( رجع ) يكون لازماً ومتعدياً . وقيل : لا يكون إلا متعدّياً ، والمفعول محذوف . فصل لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي ، والصديق عن الزنديق ، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً ، وهو كقوله : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] . والمعنى : أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ . " رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } حتى ختمها ، فَبَرأ ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه فأخبره ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال " ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } ، والمَلِكُ : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته ، والحَقّ : هو الذي يحق له الملك ، لأنّ كل شيء منه وإليه ، والثابت الذي لا يزول ملكه . { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } قرأ العامة " الكريم " مجروراً نعتاً للعرش ، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة . أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يُقال : بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً . وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنّه نعت للعرش أيضاً ، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر . وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى . والثاني : أنه نعت لـ ( رَبّ ) . فصل قال المفسرون : العرش السرير الحسن . وقيل : المرتفع . وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ، ويجوز أن يُراد به الملك العظيم . والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة . قوله : " وَمَنْ يَدْعُ " شرط ، وفي جوابه وجهان : أحدهما : أنه قوله : " فَإِنَّما حِسَابُهُ " وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وجهان : أحدهما : أنها صفة ، لـ " إِلهاً " وهي صفة لازمة ، أي : لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا ، فليس لها مفهوم لفساد المعنى . ومثله { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان ، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه . والثاني : أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه ، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله : " يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ " جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك : مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه . والثاني من الوجهين الأَولين : أن جواب الشرط قوله : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده ، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر ، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله : @ 3814 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ @@ وقد تقدّم تخريج كون { لاَ بُرْهَانَ لَهُ } على الصفة ، ولا إشكال ، لأنها صفة لازمة ، أو على أنها جملة اعتراض . فصل لمّا بيَّن أنَّه { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ } أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى باطلاً ، لأنه { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } لا حجّة ولا بيّنة ، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك ، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد . ثم قال : " فَإِنَّما حِسَابُهُ " أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله . قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها . قرأ الجمهور بكسر همزة ( إنّه ) على الاستئناف المفيد للعلة . وقرأ الحسن وقتادة " أَنَّه " بالفتح ، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر " حِسَابُه " قال : ومعناه حسابه عدم الفلاح ، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون في موضع الضمير ، لأن " مَنْ يَدْعُ " في موضع الجمع ، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون . انتهى . ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح . وقرأ الحسن : " لاَ يَفْلحُ " مضارع ( فَلح ) بمعنى ( أَفْلَح ) ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ) فيه بمعنى ، والله أعلم . فصل المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب ، وأمر الرسول بأن يقول : { رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ } ويثني عليه بأن " خَيْرُ الرَّاحِمِينَ " ، وقد تقدّم بيان كونه " أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " . فإن قيل : كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها ؟ فالجواب : أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته ، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات . رُوي أنَّ أَوَّل سورة ( قد أفلح ) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها ، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح . وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت " .