Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 1-11)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } الآيات العشر ، روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن ابن عبد القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي يسمع عند وجهه كَدَوِيّ النحل فَمَكَثْنَا ساعة ، وفي رواية : فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة ، فَاسْتَقْبَلَ القبلة فرفع يديه ، وقال : " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تَنْقِصْنَا ، وأكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا ، وأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا ، وآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا " ثم قال : " لَقَدْ أُنْزِلَ علينا عشر آيات مَنْ أَقَامَهُنَّ دخل الجنة " ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } عشر آيات " ورواه الإمام أحمد ، وعلي بن المديني ، وجماعة عن عبد الرزاق وقالوا : " وَأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا وارْضَ عَنَّا " . قوله : " قَدْ " هنا للتوقع ، قال الزمخشري : " قد " نقيضة " لَمَّا " قد تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه البشارة ، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه . وقال البغوي : قد حرف تأكيد . وقال المحققون : قد يقرب الماضي من الحال يدل على أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال . وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل . والعامة على " أَفْلَحَ " مفتوح الهمزة والحاء فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل ، وورش على قاعدته من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها . وعن حمزة في الوقف خلاف ، فروي عنه كورش وكالجماعة . وقال أبو البقاء : من أَلْقَى حركة الهمزة على الدال وحذفها فعلّته أنَّ الهمزة بعد حذف حركتها صُيِّرت ألفاً ، ثم حذفت لسكونها ( وسكون الدال قبلها في الأصل ولا يُعْتَدُّ بحركة الدال لأنها عارضة . وفي كلامه نظر من وجهين : أحدهما : أنَّ اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون : المَرَة والكَمَة في المَرْأَة والكَمْأَة ، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها ، فيقولون : المَرَاة والكَمَاة بمدة بدل الهمزة كـ ( رَاس وفَاس ) فيمن خففها ، فقوله : صُيّرت ألفاً . ارتكاب لأضعف اللغتين . الثاني : أنه وإن سُلم أنها صُيّرت ألفاً فلا نُسلّم أنَّ حذفها ) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في اللفظ ، وهو الفاء من " أَفْلَحَ " ، ومتى وجد سبب ظاهر أُحيل الحكم عليه دون السبب المقدر . وقرأ طلحة بن مُصرّف وعمرو بن عبيد " أُفلح " مبنياً للمفعول ، أي : دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أَفْلَح متعدياً ، يقال : أفلحه ، أي : أصاره إلى الفلاح ، فيكون " أَفْلَحَ " مستعملاً لازماً ومتعدياً . وقرأ طلحة أيضاً : " أَفْلَحُ " بفتح الهمزة واللام وضم الحاء ، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون ، بإلحاق علامة جمع قبل الفاعل كلغة : أكلوني البراغيثُ ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] . قال عيسى : سمعتُ طلحة يقرؤها فقلتُ له : أتلحن ؟ قال : نعم كما لحن أصحابي ، يعني أني اتّبعتهم فيما قَرَأْتُ به ، فإن لَحِنُوا على سبيل فَرْض المحالِ ، فأنا لاَحِنٌ تبعاً لهم . وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه خلافاً لمن يُغلّط الرواة . وقال ابن عطية : وهي قراءة مردودة . قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يُردُّونها مع ثبوت مثلها في القرآن بإجماع ، وهما الآيتان المتقدمتان . وقال الزمخشري : وعنه أي : عن طلحة - " أَفْلَحُ " بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله : @ 3780 - فَلَوْ أَنَّ الأَطِّبَّا كَانُ حَوْلِي @@ وفيه نظر من حيث إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجاً ، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه ، فكيف يقول اجتزأ بها عنها . وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق ، لأنّ حذفها من الآية ضروري ومن البيت ضرورة ، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي الخط . وقد اختلف النقلة لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة ؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح : وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [ الشورى : 24 ] . قال شهاب الدين : ومثله " سَندْعُ الزَّبَانِيَةَ " " لَصَالُ الجَحِيم " . قال المفسرون : والفلاح : النجاة والبقاء . قال ابن عباس : قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة . وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة . قوله : { فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } الجار متعلق بما بعده ، وقُدّم للاهتمام به ، وحسنه كون متعلقه فاصلة ، وكذا فيما بعده من أخواته ، وأضيف الصلاة إليهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها ، فلذلك أضيفت إليهم دونه . فصل اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين ، وهو الأولى . قال ابن عباس : مخبتون أذلاء . وقال الحسن وقتادة : خائفون . وقال مقاتل : متواضعون . وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت ، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن ، والخشوع في القلب والبصر والصوت قال تعالى : { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ } [ طه : 108 ] . وعن عليّ : هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً . وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره . وقال عطاء : هو أن تعبث بشيء من جسدك ، " لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " وقال ابن الخطيب : وهو عندنا واجب ، ويدل عليه أمور : أحدها : قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] . والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى ، وقوله تعالى : { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أي : قفوا على عجائبه ومعانيه . وثانيها : قوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] وظاهر الأمر للوجوب ، والغفلة تضاد الذكر ، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره . وثالثها : قوله تعالى : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ } [ الأعراف : 205 ] وظاهره للتحريم ، وقوله : { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] تعليل لنهي السكران ، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا . ورابعها : قوله - عليه السلام - " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً " وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء ، قال عليه السلام : " كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب " وما أراد به إلا الغافل ، وقال أيضاً : " ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل " ، وقالت عائشة - رضي الله عنها - سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة ، فقال : " هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد " وعن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يزال الله - عزَّ وجلَّ - مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه " وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه . وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع ، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع ، واحتجوا بأن السجود لله تعالى طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة ، وفي الأخرى معصية ، قالوا : وما ذاك إلا القصد والإرادة ، والمراد من القصد : إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال ، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور . قوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } قال عطاء عن ابن عباس : عن الشرك . وقال الحسن : عن المعاصي . وقال الزجاج : كل باطل ، ولهو وما لا يجمل من القول والفعل . وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب ، قال الله تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه . واعلم أن اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت : 26 ] ، وقد يكون كذباً لقوله تعالى : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] ، وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } [ الواقعة : 25 ] . ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك . قوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } اللام في قوله : " لِلزَّكَاةِ " مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله ، ولكونه فرعاً . والزكاة في الأصل مصدر ، ويطلق على القدر المُخْرَج من الأعيان ، وقال الزمخشري : اسم مشترك بين عين ومعنًى ، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب ، والمعنى فعل المزكي ، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له ، ولا يسوغ فيه غيره ، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل ، ويقال لمحدثه فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل ، وللمزكي : فاعل التزكية ، وعلى هذا الكلام كله ، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث : ( من فعل هذا ) فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق ، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها ( فاعلون ) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت : @ 3781 - المطعمُون الطَّعام في السنة الـ أَزْمة والفاعلون للزكوات @@ ويجوز أن يراد بالزكاة العين ، ويقدر مضاف محذوف ، وهو الأداء ، وحمل البيت على هذا أصح ، لأنها فيه مجموعة . قال شهاب الدين : إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أنْ يكون الزكاة هنا المصدر ؛ لأنه لو أراد العين لقال : مؤدون ولم يقل : فاعلون ، فقال الزمخشري : لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعياناً لجمعها ، لأنّ المصدر لا يجمع ، وناقشه أبو حيان وقال : يجوز أن يكون مصدراً وإنما جمع لاختلاف أنواعه . وقال أبو مسلم : إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [ الأعلى : 14 ] ، وقوله : { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] ومن جملتهم ما يخرج من حق المال ، وإنما سمي بذلك ؛ لأنها تطهر من الذنوب ، لقوله تعالى : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] . وقال الأكثرون : المراد بها هنا : الحق الواجب في الأموال خاصة ؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى . فإنْ قيل : إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فَلِمَ فصل هنا بينهما بقوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } ؟ فالجواب : لأنّ ترك اللغو من متمات الصلاة . قوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام . قوله : { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } فيه أوجه : أحدها : أنه متعلق بـ " حَافِظُونَ " على التضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] . الثاني : أنّ " عَلَى " بمعنى " مِنْ " أي : إلا من أزواجهم كما جاءت " مِنْ " بمعنى " عَلَى " في قوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] وإليه ذهب الفراء . الثالث : أنْ يكون في موضع نصب على الحال ، قال الزمخشري : إلاَّ وَالِينَ على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ، ونظيره : كان زياد على البصرة أي : والياً عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثمّ سميت المرأة فراشاً . الرابع : أنْ يتعلق بمحذوف يدل عليه " غَيْرُ مَلُومِينَ " قال الزمخشري : كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه . قال شهاب الدين : وإنما لم يجعله متعلقاً بـ " مَلُومِينَ " لوجهين : أحدهما : أن ما بعد " إِنَّ " لا يعمل فيما قبلها . الثاني : أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف . الخامس : أن يجعل صلة لحافظين ، قال الزمخشري : من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى : ما طلبت منك إلا فعلك يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي . قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري : وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة . قال شهاب الدين : وأي عجمةٍ في ذلك على أنّ الشيخ جعلها متعلقة بـ " حَافِظُونَ " على ما ذكره من التضمين ، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجهاً منها وهو التأويل بالنفي كنشدتك الله ، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معناه . السادس : قال أبو البقاء : في موضع نصب بـ " حَافِظُونَ " على المعنى ؛ لأنّ المعنى صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم . قال شهاب الدين : وفيه سببان : أحدهما تضمين " حَافِظُونَ " معنى صانوا ، وتضمين " على " معنى " عَنْ " . قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ } " مَا " بمعنى : اللاتي ، و " مَا " في محل الخفض يعني : أو على ما ملكت أيمانهم . وفي وقوعها على العقلاء وجهان : أحدهما : أنها واقعة على الأنواع كقوله : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ } [ النساء : 3 ] أي : أنواع . والثاني : قال الزمخشري : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث . قال أبو حيان : وقوله : وهم . ليس بجيد ، لأنّ لفظ هُمْ مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول : " وَهُوَ " على لفظ " مَا " أو " هُنَّ " على معنى ( ما ) . وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله : " وَهُمْ " أي : العقلاء الإناث . وقال ابن الخطيب هلا قيل : مَنْ ملكت ؟ فالجواب : لأنه اجتمع في السُّرِّيَّةِ وصفان : أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل . والآخر : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع . فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء . فصل هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها . فإن قيل : أليست الزوجه والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال الحيض ، وحال العدة ، والصيام ، والإحرام ، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها ، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً ، لقوله عليه السلام : " لا صلاة إلا بطهور ، ولا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليّ " فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور ، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي . وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات . الثاني : ( أَنَّا إنْ ) سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى حجة فيما عداه . وقوله : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } يعني : يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى ، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام على فعله . قوله : { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ } أي : التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام ، وفيه دليل أنَّ الاستمناء باليد حرام قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أنّ قوماً يحشرون وأيديهم حُبالى فأظن أنهم هؤلاء . وعن سعيد بن جبير قال : عَذَّب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم . قوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ } قرأ ابن كثير هنا وفي سأل " لأَمَانَتِهِم " بالتوحيد ، والباقون بالجمع . وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم والجمع أوفق . والأمانة في الأصل مصدر ، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله : { أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] . " وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ " ، وإنما يُؤدَّى ويُخان الأعيان لا المعاني ، كذا قال الزمخشري . أما ما ذكره من الآيتين فمسلم ، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين ، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله ، ويقع أيضاً على ما أمر الله به كقوله : { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } [ آل عمران : 183 ] ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها . فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة ، والصيام ، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع ، فعلى العبد الوفاء بجميعها . وقوله : " رَاعُونَ " الراعي القائم على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم ، ومنه يقال : مَنْ راعي هذا الشيء ؟ أي متوليه . وقوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } قرأ الأخوان " عَلَى صَلاَتِهِمْ " بالتوحيد ، والباقون " صَلَوَاتِهِمْ " بالجمع ، وليس في المعارج خلاف . والإفراد والجمع كما تقدم في ( أَمَانَتِهم ) و ( أَمَانَاتِهِمْ ) . قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً ؟ قلت : هما ذكران مختلفان وليس بتكرير ، وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم ، وآخراً بالمحافظة عليها . ثم قال : وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة ، أي صلاة كانت ، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن الراتبة ، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما الأخوان فإنهما أفردا أولاً وآخراً على أنَّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة . وقيل : كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب . ثم قال : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } " أُولَئِكَ " أي : أهل هذه الصفة " هُمُ الوارِثُونَ " فإن قيل : كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث ؟ مع أنه سبحانه حكم بأنَّ الجنة حقهم في قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . فالجواب من وجوه : الأول : روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما منكم من أحد إلاَّ وله منزلان منزل في الجنّة ومنزلٌ في النار ، فإنْ مات ودخل النار وَرِثَ أهلُ الجنة مَنْزله " وذلك قوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } . وأيضاً : فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه ، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما ذكر فإن قيل : إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً ، وعلى ما قلتم فإنه يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع . فالجواب : لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو ( منزلة ) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه . الثاني : أنَّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث . الثالث : أنَّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم - عليه السلام - فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيهاً بالميراث . فإن قيل : كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج ؟ فالجواب : أنَّ قوله : { لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها . واعلم أنَّ قوله : " هُمُ الوَارِثُونَ " يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به ، لأنه ثبت أنَّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور ، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف . قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً مقدرة إما من الفاعل بـ " يَرِثُونَ " وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون ، وقد جاء في الحديث : " أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث " .