Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 33-33)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } الآية . لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال : " وَلْيَسْتَعْفِفِ " أي : وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف . وقوله : { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه ، قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ النساء : 92 ] ويقال : هو غير واجد للماء ، وإن كان موجوداً ، إذا لم يمكنه أن يشتريه . ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال ، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح . فإن قيل : أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح ؟ قلنا : لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى . قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ … } الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار ، فقال : { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } . يجوز في الذين الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط . ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال ، كقولك : " زيداً فاضربه " وهو أرجح لمكان الأمر . والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة ، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه : أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض ، وتضم ماله إلى ماله . وثانيها : مأخوذ من الكتاب ، ومعناه : كتبت لك على نفسي ( أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي ) أن تفي لي بذلك ، أو كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليَّ العتق ، قاله الأزهري . وثالثها : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً ، بل يقع مؤجلاً ، ليكون متمكناً من الاكتساب . ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب ، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل ، قال تعالى : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 28 ] . فصل قال بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤديه في نجمين أو أكثر ، ويبين عدد النجوم ، وما يؤدي في كل نجم ، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر ، أو ينوي ذلك بقلبه ، ويقول العبد : قبلت . فإذا لم يقل بلسانه ، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر ، لم يعتق . وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك ، لأن قوله تعالى : " فَكَاتِبُوهُمْ " ليس فيه شرط ، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع . واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد ، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه ، بل قوله : " كاتبتك " كناية في العتق ، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته . فصل لا تجوز الكتابة الحالّة ، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال ، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح ، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز لا يتحقق . وقال أبو حنيفة : تجوز لقوله تعالى " فكاتبوهم " ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة . وأيضاً فمال الكتابة بدل عن الرقبة ، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة ، فتجوز حالة . وأيضاً فأجمعوا على جواز العتق مطلقاً على مال حال ، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما . فصل لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين ، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر ، روي أن عثمان غضب على عبده فقال : " لأضيقن عليك ، ولأكاتبنك على نجمين " ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم ، لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق : التنجيم ليتيسر عليهم الأداء . وقال أبو حنيفة : تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : " كاتبوهم " ليس فيه تقييد . فصل يشترط أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً . فإن كان صبياً أو مجنوناً لم تصح كتابته لقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون . وقال أبو حنيفة : تجوز كتابة الصبي ، ويقبل عنه ( المولى ) . فصل ويشترط أن يكون السيد مكلفاً مطلقاً . فإن كان صبياً أو محجوراً عليه لسفه لم تصح كتابته ، كما لا يصح بيعه ، لأن قوله : " فَكَاتِبُوهُمْ " خطاب ، فلا يتناول غير المكلف . وقال أبو حنيفة : تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ . فصل اختلفوا في قوله تعالى : " فكاتبوهم " هل هو أمر إيجاب أو ندب ؟ فقيل : أمر إيجاب ، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً ، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول ابن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن عليّ ومحمد بن جرير لظاهر الآية ، وأيضاً فلأن سبب نزولها إنما نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له : " صبيح " سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فنزلت الآية ، فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً وروي أن عمر أمر أنساً بأن يكاتب سيرين ( أبا محمد بن سيرين ) فأبى ، فرفع عليه الدِّرَّة وضربه ، وقال : " فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْراً " وحلف عليه ليكاتبنه ، ولو لم يكن واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فجرى ذلك مجرى الإجماع . وقال أكثر الفقهاء : إنه أمر استحباب ، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه السلام : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة فإن قيل : كيف يصح أن يبيع ماله بماله ؟ فالجواب : إذا ورد الشرع به جاز ، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سبباً لعتقه . فإن قيل : هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة ؟ فالجواب : نعم ، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها ، وإذا صار مكاتباً حل له أخذها سواء أدى فعتق ، أو عجز فعاد إلى الرق . واستفاد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب ، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك . ويستفيد المولى الثواب ، لأنه إذا باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد . قوله : { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال عليه السلام : " إن علمتم لهم حرفة ، ولا تدعوهم كلاًّ على الناس " وقال ابن عمر : قوة على الكسب ، وهو قول مالك والثوري . قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك : الخير : المال ، لقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] أي : مالاً . قال عطاء : بلغني ذلك عن ابن عباس . ويروى أن عبداً لسلمان الفارسي قال له : كاتبني . قال : لك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إنْ عَلِمْتُم لهم خيراً . وأيضاً فلأن العبد لا مال له ، بل المال لسيده . وقال إبراهيم النخعي وابن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة . وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة . وقال الحسن : صلاحاً في الدين . قال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبيد : الاكتساب مع الأمانة ، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما ، فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال ، ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه . قوله : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } . قيل : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً ، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره : فقيل : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول عليّ ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعاً . وعن ابن عباس : يحط الثلث . وقيل : ليس له حد ، بل يختلف بكثرة المال وقلته ، وهو قول الشافعي ، لأن ابن عمر كاتب غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقيل : يحط عنه قدراً يحصل الاستغناء به . قال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وكاتب عمر عبداً ، فجاءه بنجمه ، فقال : اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة ، فقال المكاتب : لو تركته إلى آخر نجم فقال : إني أخاف ألا أدرك ذلك . وقيل : هو أمر استحباب ، لقوله عليه السلام : " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وقوله عليه السلام : " أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد " ولو كان الحط واجباً سقط عنه بقدره ، وأيضاً فلو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه معلقاً بالعقد ، فيكون العقد موجباً له ومسقطاً له ، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب . وأيضاً فلو كان الحط واجباً لما احتاج أن يضع عنه ، بل كان يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دين ، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضاً له . وأيضاً فلو كان واجباً لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً ، فإن كان معلوماً وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع ، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف ، وذلك باطل ، لأن أداء جميعها شرط ، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه السلام : " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة ، لأن الباقي بعد الحط مجهول ، فلا يصح ، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء . وقال قوم : المراد بقوله : " وآتُوهُم " أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله : { وَفِي الرّقَابِ } [ التوبة : 60 ] وهو قول الحسن وزيد بن أسلم ، ورواية عطاء عن ابن عباس . وعلى هذا الخطاب لغير السادة ، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه . وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم : هو خطاب لجميع الناس ، وحث على معونة المكاتب ، لقوله عليه السلام : " من أعان مكاتباً في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه " . فصل إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم . فقيل : يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقيل : إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن ، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي . فصل ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال ، لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد ، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة . ويفترقان في بعض الأحكام ، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء من النجوم . والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ، وتبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء من النجوم . وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً . قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ … } الآية لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور . واعلم أن العرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ } [ الكهف : 62 ] وقال : { تُرَاوِدُ فَتَاهَا } [ يوسف : 30 ] وقال : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ } [ النساء : 25 ] . وقال عليه السلام : " ليقل أحدكم : فَتَاي وفَتَاتي ، ولا يقل : عَبْدِي وأَمَتِي " . والبِغَاء : الزنا ، مصدر : بَغَتِ المَرْأَة تَبْغي بِغَاءً ، أي : زَنَتْ ، وهو مختص بزنا النساء . فصل قال المفسرون : نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق ، كان له ست جوار مُعَاذة ، ومُسَيْكة ، وأُمَيْمة ، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقتيلة ، يكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب يأخذها ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين : فإن يكن خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : " ارجعا فازنيا " فقالتا : " والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا " فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكيا إليه ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية . وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلاً ، فأراد الأسير جارية عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت الجارية لإسلامها ، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده ، فنزلت الآية . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : " جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جارية من أجمل النساء تسمى : معاذة ، وقال : يا رسول الله ، هذه لأيتام فلان ، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها . فقال عليه السلام : لا . فأعاد الكلام ، فنزلت الآية " . فصل الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس . ومعنى قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي : إذ أرَدْنَ ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردْن تحصناً ، كقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي : إذ كنتم مؤمنين . وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه . وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ، ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] ( مفهوم ) ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [ النساء : 101 ] والقصر لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا . وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغَاءِ لتبتغوا عرض الحياةِ الدُّنيا ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع أولادهن . والتحصن : التعفف . قوله : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المُكْرِه ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : ( لهنَّ والله ) . وقال ابن الخطيب : فيه وجهان : أحدهما : غَفُوراً لَهُنَّ ، لأنّ الإكراه ( يُزِيلُ الإثم ) والعقوبة عن المكره فيما فعل . والثاني : ( فإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) بالمكره بشرط التوبة . وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار ، والأول لا يحتاج إليه . وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه ( في البقرة ) . قوله : " فإن الله " جملة وقعت جواباً للشرط ، والعائد على اسم الشرط محذوف ، تقديره : غَفُور لهم . وقدره الزمخشري في أحد تقديراته وابن عطية وأبو البقاء : فإن الله غفور لَهُنَّ ، أي : لِلْمُكرهات ، فعرِيَتْ جملة الجزاء عن رابط يربطها باسم الشرط ، ولا يقال : إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر ؛ إذ التقدير : من بعد إكراههم لهُنّ ، فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابط المقدر ، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً فهذا جائز ، ولو قُلْتَ : هند عجبت من ضربِ زيدٍ : أي : من ضربها ، لَمْ يَجُز ، لخلوها من الرابط وإن كان مقدراً . ولما قدر الزمخشري " لهن " أورد سؤالاً فقال : فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ، لأن المُكرهة على الزنا بخلاف المُكره غير آثمة . قلت : لَعَلَّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يُخَاف منه التلف ، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تُعذَرُ فيه فتكون آثمة .