Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 13-13)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" قَدْ كَانَ " جواب قسم محذوفٍ ، و " آيَةٌ " اسم " كان " ولم يُؤنث الفعلُ ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان . فهذا كقول امرئِ القيسِ : [ المتقارب ] @ 1350 - بَرَهْرَهَةٌ ، رُؤدَةٌ ، رَخْصَةٌ كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ @@ قال الأصمعي : " البَرَهْرَهَةُ : الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة ، والرُّؤدَة ، والرادة : الناعمة " . قال أبو عمرو : وإنما قال : الْمُنْفَطِر ، ولم يقل : المنفطرة ؛ لأنه رَدٌّ على القضيب ، فكأنه قال : البان المنفطر ، والخرعوبة : القضيب ، والمنفطر : الذي ينفطر بالورق ، وهو ألين ما يكون . قال أبو حيّان : أوَّل البانةَ بمعنى القضيب ، فلذلك ذكر المنفطر ، ولوجود الفصل بـ " لَكُم " فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا ، كقوله : [ البسيط ] @ 1351 - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ @@ وقال بعضهم : محمول على المعنى ، والمعنى : قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ . وفي خبر " كان " وَجهَانِ : أحدهما : أنه " لَكُم " و " فِي فِئَتَيْنِ " في محل رفع نَعْتاً لـِ " آيَةٌ " . والثاني : أنه " فِي فِئَتَيْنِ " وفي " لَكُمْ " وجهانِ : أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من " آية " ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية ، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً . الثاني : أنه متعلق بـ " كان " ذكره أبو البقاء ، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل " فِي فِئَتَيْنِ " الخَبَرَ إشْكالٌ ، وهو أن حكم اسم " كان " حكم المبتدأ ، فلا يجوز ، أن يكونَ اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به ، وهنا لو جعلت " آية " مبتدأ ، وما بعدها خبراً لم يجز ؛ إذْ لا مُسَوِّغَ للابتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ " لَكُم " الخبرَ ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ . قوله : { ٱلْتَقَتَا } في محل جر ، صفة لـ " فِئَتَيْنِ " ، أي : فئتين ملتقيتين ، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر . قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } العامة على رفع " فِئَةٌ " وفيها أوجُه : أحدها : أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل " الْتَقَتَا " ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على " فِئَتَيْنِ " المتقدمتين في الذكر ؛ ليسوغ الوصف بالجملة ؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير ، والتقدير : في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة ، وفئة أخرى كافرة . الثاني : أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ ، تقديره : إحداهما فئةٌ تقاتل ، فقطع الكلام عن أوله ، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك : [ الطويل ] @ 1352 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ @@ أي أحدهما شامت ، وآخر مُثنٍ ، ومثله في القطع قول الآخر : [ البسيط ] @ 1353 - حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ @@ أي : بعضه مَلْويٌّ ، وبَعْضُه مَحْصُود . قال أبو البقاء : فإن قلتَ : إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة . قيل : لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً ، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم : شامت ، وآخر مُثْنٍ ، فجاء به نكرة دون أل . الثالث : أن يرتفع على الابتداء ، وخبره مُضْمَر ، تقديره : منهما فئةٌ تقاتل ، وكذا في البيت ، أي : منهم شامت ، ومنهم مثنٍ . ومثله قول النابغةِ : [ الطويل ] @ 1354 - تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا لِستَّةِ أعْوَامٍ ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ @@ تقديره : منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ ، ورماد خبره ، كما تقدم في نظيره . وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ : و { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } بالجر على البدل من " فِئَتَيْنِ " ، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ : [ الطويل ] @ 1355 - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ @@ هو بدل بعض من كل ، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه ، تقديره : فئةٍ منهما . وقرأ ابن السَّمَيْفَع ، وابن أبي عَبْلَة " فِئَةً " بالنصب ، وفيه أربعة أوجهٍ : أحدها : النصب بإضمار أعني . والثاني : النصب على المَدْح ، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني ، كأنه قيل : أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله ، وأذمُّ أخرى كافرةً . والثالث : أن ينتصب على الاختصاص ، جوَّزَه الزمخشريُّ . قال أبو حيّان : " وليس بجيد ؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً " . قال شهابُ الدينِ : لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو : " نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ " ، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً . الرابع : أن ينتصب " فِئَةٌ " على الحال من فاعل " الْتَقَتَا " ، كأنه قيل : التقتا مؤمنةً وكافرةً ، فعلى هذا يكون " فئة " و " أخرى " توطئةً للحال ؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما ، وهذا كقولهم : زيد رجلاً صالحاً ، ومثله في باب الإخبار - { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ الأعراف : 81 ] ، ونحوه . قوله : { وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } " أخْرَى " صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت " كافرة " بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في " فِئَةٌ تُقَاتِلُ " ، وهذه منسوقة عليها . وكان من حق من قرأ " فِئَةٌ " - بالنصب - أن يقرأ " وأخْرَى كَافِرَةٌ " بالنصب عطفاً على الأولى ، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به ؛ فإنه قال : " وقرئ " فِئَةٍ تقاتلُ " " وأخرى كافرةٍ " بالجر على البدل من " فئتين " ، والنصب على الاختصاص أو الحال " فظاهر قوله : و " بالنصب " أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء ، وهو لو لم يقل : والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما ، والجواب عنه . والعامة على " تُقَاتِلُ " - بالتأنيث " ؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث ، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه ، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً ، نحو الشمس طلعت ، وعليه جمهور الناس . وخالف ابنُ كَيْسان ، فأجاز : الشمسُ طلع . مستشهداً بقول الشاعر : [ المتقارب ] @ 1356 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا @@ حيث قال : أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل : أبقلت ، وغيره يخصه بالضرورة . وقالوا : إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ ، فيقول : ولا أرضَ أبقلتِ ابْقَالَها . وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك ، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل ، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ . وقرأ مجاهدٌ ومقاتل : " يُقَاتِلُ " - بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ ، ومُقوِّيَةٌ له ، قالوا : والذي حسن ذلك كونُ " فِئَةٌ " في معنى القوم والناس ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً . قوله : " يَرَوْنَهُمْ " ، قرأ نافع - وحده - من السبعة ، ويعقوب ، وسهل : " تَرَوْنَهُمْ " بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة . فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ : أحدها : أن الضميرَ في " لَكُمْ " والمرفوع في " تَرَوْنَهُمْ " للمؤمنين ، والضمير المنصوب في " تَرَوْنَهُمْ " والمجرور في " مِثْلَيْهِمْ " للكافرين ، والمعنى : قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد ، وهو أبلغ في القدرة ؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم ، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ ، ونحوه قوله تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 249 ] . واستبعد بعضهم هذا التأويلَ ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [ الآية : 44 ] - : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } فالقصة واحدة ، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين ؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم ، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم . ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين ؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [ إياهم ] مثلي عددهم ؛ ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قلَّلهم في أعينهم ؛ ليقدموا عليهم ، فالآيتان باعتبارين ، ومثله قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] مع قوله : { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] . قال الفرّاء : المراد بالتقليل : التهوين ، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً ، أي : قد هوّن عليّ ، [ لا أني أرى الثلاثة اثنين ] . الثاني : أن يكون الخطاب في " تَرَوْنَهُم " للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في " تَرَوْنَهُمْ " للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في " مِثْلَيْهِمْ " للمؤمنين ، والمعنى : تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم ، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً ، والمسلمون على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم ، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] . قال الزمخشريُّ - رحمه الله - " وقراءة نافع لا تُساعِد عليه " ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ : ترونهم مثليكم - بالخطاب في " مِثْلَيهم " لا بالغيبة . قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ - : " قلت : بل يُساعد عليه ، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك " اهـ ، فلم يأت أبو عبدِ الله بجواب ؛ إذ الإشكالُ باقٍ . وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين : أحدهما : أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة ، وأنَّ حقَّ الكلام : مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة ، ونظَّره بقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] . والثاني : أن الضمير في " مِثْلَيْهِمْ " وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين . والمعنى : تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، [ فكأنه ] قيل : ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم ، وهو جواب حسن . فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ فالجواب : أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم ؛ وذلك لأنه - تعالى - قال : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فأظهر ذلك العدد [ من المشركين ] للمؤمنين ؛ تقوية لقلوبهم ، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم . الثالث : أن يكون الخطاب في " لَكُمْ " وفي " تَرَونَهُم " للكفار وهم قريش ، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي : قد كان لكم - أيها المشركون - آية ؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ ، ليجبنُوا عنهم ، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية ، وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم ؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين ، وهو أنه قللهم أولاً ، ليجترئ عليهم الكفارُ ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم ؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ . الرابع : كالثالث ، إلا أن الضمير في " مثليهم " يعود على المشركين ، فيعودُ ذلك السؤالُ ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال : مثليكم ، ليطابق الكلام ، فيعود الجوابان . وهما : إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وإما عوده على الفئة الكافرة ؛ لأنها عبارة عن المشركين ، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة ، ويكون التقدير : ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة . وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى ، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين ، حتى فشلوا ، وجبنوا ، فطمع المسلمون فيهم ، فانتصروا عليهم ، ويؤيده قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [ آل عمران : 13 ] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما ، ويعود السؤال ، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال - : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ؟ ويعود الجواب . الخامس : أن الخطاب في " لَكُم " و " تَرَوْنَهُمْ " لليهود ، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين ، على معنى : ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم ، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه . وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } - لليهود ، فجعله في " تَرَوْنَهُم " لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف ؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك ، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار ، أي : أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين ، ومع ذلك غلبهم المؤمنون ، وانتصروا عليهم ، فهو أبلغ في القدرة . ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين ، والمجرور على المشركين ، أي : ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين ؛ مهابةً لهم ، وتهويلاً لأمر المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال - ، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين ، والمجرور على المسلمين ، والمعنى : ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم ؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين ، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين ، حَسَداً وبَغْياً . فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع . أما قراءة الباقين ففيها أوجه : أحدها : أنها كقراءة الخطاب ، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ . الثاني : في أن الخطاب في " لَكُمْ " للمؤمنين ، والضمير المرفوع في " يَرَوْنَهُم " للكفار ، والمنصوب والمجرور للمسلمين ، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم ؛ ليهابوهم ، ويجبنوا عنهم . الثالث : أن الخطاب في " لَكُم " للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في " يَرَوْنَهُم " للكفار ، والمنصوب للمسلمين ، والمجرور للمشركين ، أي : يرى المشركون [ المؤمنين ] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم ؛ لما تقدم في الوجه قبله . الرابع : أن يعود الضميرُ المرفوعُ في " يَرَوْنَهُم " على الفئة الكافرةِ ؛ لأنها جمع في المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين ، أو [ على ] المسلمين ، أو أحدهما لأحدهم . والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين ، وتكثير الكافرين ؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم ، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله ، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم ، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، ويؤيده قوله بعد ذلك : { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } وقال في موضع آخر : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] . وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته - : فالهاء في " يَرَوْنَهُمْ " للكفار ، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب ، والهاء في " مِثلَيْهم " للمسلمين . فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل : يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم ، فكان أبلغ في الآية ، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير ، والعدة كانت كذلك أو أكثر ؟ قلت : أخبر عن الواقع ، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر ، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه ، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين ، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا ، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى . قال شهاب الدين : " وإلى هذا المعنى ذهب الفراء ، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال : مثليهم : ثلاثة أمثالهم ، كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها " . وغلطه أبو إسحاقَ - في هذا - وقال : مِثْل الشيء : ما ساواه ، ومثلاه [ ما ساواه ] مرتين . قال ابن كَيْسان : الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك . والأخرى : أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم . والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون لها محل ، وفيه - حينئذ - وجهانِ : أحدهما : النصب على الحال من الكاف في " لَكُم " أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم . والثاني : الجر ؛ نعتاً لـ " فِئَتَيْنِ " ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما ، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف ، ويحتمل الرفع ؛ صفة لإحدى الفئتين ، ويحتمل الجر ؛ صفة لـ " فِئَتَيْنِ " أيضاً ، على أن تكون الواو في " يَرَوْنَهُمْ " ترجع إلى اليهود ؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين . وقرأ ابن عباس وطلحة " تُرَوْنَهُمْ " - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان : أحدهما : أنها البصرية ، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد ، وهو قوله : " رَأيَ الْعينِ " . قال الزمخشريُّ : " رؤية ظاهرة مكشوفة ، لا لبس فيها " ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط ، وسلامة الحاسَّةِ ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [ بوجوه ] : أحدها : أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر ، وينظر إليهم على سبيل التأمل وثانيها : أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض . وثالثها : يجوز أن يقال : إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر ، [ فعلى هذا ] ، يتعدى لواحد ، ومثليهم نصب على الحالِ . الثاني : أنها من رؤية القلبِ ، فعلى هذا يكون " مِثْلَيهِم " مفعولاً ثانياً ، وقد ردّه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين : أحدهما : قوله : " رأي العين " . الثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين . وأجيب عن [ الوجه ] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين ، أي : يشبه رأي العين ، فليس إياه على التحقيق ، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد ، فلا يلزم المحال المذكور ، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى . ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك ؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى ، فالمعنى : فإن اعتقدتموهن ، والاعتقاد قد يكون صحيحاً ، وقد يكون فاسداً ، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ " تُرَوْنَهُمْ " - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول - ؛ لأن قولهم : أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ ، لا يقين وعلم ، فلما كان اعتقاد التضعيفِ في جمع الكفار ، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً ؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال ، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم ، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه ، فكان المراد التخمين والظن ، لا اليقين والعلم ، كذا قيل ، وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن البصر لا يخالف المُبْصَر ؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر ، وسوء في النظر ، فيتخيل الباصر الشيءَ شيئَيْن فأكثر ، وبالعكس . احتج من قال : إن الرائي هو المشركون بوجوه : الأول : أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمفعول ، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله : { كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ } . الثاني : مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله { قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ } خطاب مع الكفار ، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار ، والمعنى : تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً . الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم ، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر . واحتج من قال : الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود ، وهذا ليس بمحال فكان أولى ، قال ابن مسعودٍ : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم ، قال ابن مسعود : " حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعينَ ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً " . فصل وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود ، وهي قوله : { سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 12 ] ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، أظهروا التمرد ، وقالوا : لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ ، وقلة المعرفة بالقتال ، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا ، فقال تعالى : إنكم - وإن كنتم [ أغنياء ] ، أقوياء ، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون ، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا } يعني واقعة بدر ؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار ، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ ، ونصر المسلمين ، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه . الفئة : الجماعة ، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي : في طاعته رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين ، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً ، بين كل أربعة منهم بعير ، وفرسان : فرس للمقدادِ بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، وأكثرهم رجَّالةٌ ، وكان معهم من الدروع ستة ، وثمانية سيوف ، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة ، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائةُ فرس ، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك . فصل ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً : أحدها : أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور ، منها : قِلَّةٌ العَدَد . ومنها : أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا . ومنها : قِلَّةُ السلاح والخيل . ومنها : أن ذلك أول غزواتهم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد ، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة ، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية ، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة ، فيكون مُعْجزاً . وثانيها : أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش ، بقوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ، يعني جمع قريش ، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان ، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب ؛ فكان مُعْجِزاً . وثالثها : قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } ، والصحيح أن الرائين هم المشركون ، والمرئيين هم المؤمنون ، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً . ورابعها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة ، لقوله تعالى : { فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] ، وقال : { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] قيل : إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض ، وهو المراد من قوله : { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } . قوله : { رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } في انتصابه ثلاثة أوجهٍ ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي ، أو النصب على المصدر التشبيهيّ . الثالث : أنه منصوب على ظرف المكانِ ، قال الواحديُّ : " … كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب ، وَمَناطَ [ الْعُنق ] ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً . و " رأى " مشترك بين " رأى " معنى أبصر ، ومصدره : الرَّأي ، والرؤية ، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم ، وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرق بالمصدر ، فالرؤية للبصر خاصةً ، والرؤيا للحلم فقط ، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية ، يقال : هذا رأي فلان ، أي : اعتقاده . قال : [ الطويل ] @ 1357 - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ خَوَارِجَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ @@ قوله : { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } التأييد : تفعيل ، من الأَيْد ، وهو القوَّة ، والباء سببية أي : سبب تأييده ، ومفعول " يَشَاءُ " محذوف ، أي : من يشاء تأييده . وقرأ ورش " يُويِّدُ " ، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً ، وهو تسهيل قياسيٌّ ؛ قال أبو البقاء وغيره : " ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ ؛ لقربها من الألف ، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً ، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف " . وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة ، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف ، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة . و " عبرة " : فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة ، والعبور : التجاوز ، ومنه عبرتُ النهر ، والمعبر السفينة ؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر ، وعَبْرَةُ العين : دَمْعُهَا ؛ لأنها تجاوزها ، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة ، والاعتبار : افتعال منه ، والعبارة : الكلام الموصل إلى الغرض ، لأن فيه مجاوزةً ، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها ، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها . و " لأولي أبصار " صفة لـ " عبرة " ، أي : عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال : لفلان بصر بهذا الأمر . وقيل : لمن أبصر الجمعين .