Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 154-154)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في نصب " أمَنَةً " أربعة أوجهٍ : الأول : أنها مفعول " أنْزَلَ " . الثاني : أنها حال من " نُعَاساً " لأنها في الأصل - صفةٌ ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً . الثالث : أنها مفعولٌ من أجْله ، وهو فاسدٌ ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل " أنْزَلَ " غير فاعلِ الأمَنَةِ . الرابع : أنه حالٌ من المخاطبين في " عَلَيْكُمْ " وفيه حينئذٍ - تأويلانِ : إما على حَذْف مضافٍ - أي ذوي أمَنَةٍ - وإما أن يكون " أمَنَةً " جمع آمن ، نحو بار وبَرَرَة ، وكافر وكَفَرَة . وألأما " نُعَاساً " فإن أعْرَبْنا " أمَنَةً " مفعولاً به كان بدلاً ، وهو بدل اشتمالٍ ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ ، أو مفعولاً من أجلِهِ ، وهو فاسدٌ ؛ لما تقدم وإن أعربنا " أمَنَةً " حالاً ، كان " نُعَاساً " مفعولاً بـ " أنزَلَ " و " أنْزَلَ " عطف على " فأثَابَكُمْ " وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى ، و " أل " في " الْغَمِّ " للعهد ؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون " أمَنَةً " مفعولاً به بما تقدم ، وفيه نظرٌ ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة . فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل " أمَنَةً " فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال : إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى ، بمعنى أنهُ أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به . و " أمَنَةً " كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به . وقرأ الجمهور : أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن ، أو جمع آمن ، على ما تقدم تفصيله . والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط ، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ . فصل في بيان كيفية النظم في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ : أحدهما : أنه لما وعد المؤمنين بالنصر ، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم ؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ . الثاني : أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ . ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه ، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه . واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ : أحدهما : الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } وقال في قصة بدرٍ : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] . وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ ، وعظم خوفُهُمْ . فإن قيل : لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ ، وأخرها في قصة بدرٍ ؟ فالجوابُ : أنه لما وعدهم بالنصر ، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ . قوله : { يَغْشَىٰ } قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالياء ؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة لـ " امَنَةً " ؛ مراعاة لها ، ولا بُدّ من تفصيل ، وهو إن أعربوا " نُعَاساً " بدلاً ، أو عَطْفَ بيانٍ ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن : الأول : أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ ، قدِّمت الصفة ، وأخر غيرها ، وهنا قد قدَّموا البدلَ ، أو عطف البيانِ عليها . الثاني : أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل ، لا عن المبدَل منه ، تقول : هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم " نُعَاساً " بدلاً من " أمَنَةً " يضعف لهذا . فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر : [ الكامل ] @ 1667 - وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرَاةِ كَأَنَّهُ مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ @@ فقال : " مُعَيَّنٌ " ؛ مراعاة للهاء في " كأنه " ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر : [ الكامل ] @ 1668 - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ @@ فقال : تركت ؛ مراعاة للسيوف ، ولو راعَى البدل لقال : تركا . فالجوابُ : أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن " معين " خبر لِـ " حاجبيه " لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ ، وأنَّ نصب " غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا " على الظرف ، لا على البدل . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 102 ] . وإن اعربوا " نُعَاساً " مفعولاً من أجله لزم الفصلُ بين الصفة والموصوف بالمفعول لَهُ , وكذا إن أعربوا " نُعاساً " مفعولاً به و " أمَنَةً " حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر ، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمَنَة ؟ فأخبر بقوله : " تغشى " . ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على " نُعَاساً " وتكون الجملة صفة له ، و " مِنْكُمْ " متعلق بمحذوف ، صفة لِـ " طَائِفَةً " . فصل قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ، وقال ثابتٌ : عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال : رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس . وقال الزبيرُ : كنت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الخوفُ ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا } . فصل قال ابنُ مسعودٍ : النُّعَاسُ في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ ، والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى . واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ : الأولى : أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو . الثانية : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ . الثالثة : أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم ؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ . الرابعةُ : أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم ، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم ، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى . قوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ : الأول : أنها واو الحالِ ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال ، والعامل فيها " يَغْشَى " . الثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عنها مَكيٌّ بواو الابتداء . الثالث : أنها بمعنى " إذْ " ذكره مَكي ، وأبو البقاءِ ، وهو ضعيفٌ . و " طائفة " مبتدأ ، والخبر { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين : إما للاعتمادِ على واو الحالِ ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره - . وأنشدوا : [ الطويل ] @ 1669 - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ @@ وإما لأن الموضعَ تفصيلٌ ؛ فإن المعنى : يغشى طائفةً ، وطائفة لم يغشهم . فهو كقوله : @ 1670 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ @@ ولو قُرِئ بنصب " طَائِفَة " - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة ، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ : أحدها : أنه { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } كما تقدم . الثاني : أنه " يَظُنُّونَ " والجملة قبله صفة لِـ " طَائِفَة " . الثالث : أنه محذوفٌ ، أي : ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل ، والجملتان صفة لِـ " طَائِفَةٌ " أو يكون " يَظُنُّونَ " حالاً من مفعول " أهَمَّتْهُمْ " أو من " طَائِفَةٌ " لتخصُّصه بالوَصْف ، أو خبراً بعد خبر إن قلنا : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } خبر أول . وفيه من الخلاف ما تقدم . الرابع : أن الخبر { يَقُولُونَ } والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين ، أو خبرين ، أو إحداهما خبر ، والأخْرَى حالٌ . ويجوز أن يكون { يَقُولُونَ } صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا : إن الخبرَ هو الجملة التي قبله ، أو قلنا : إن الخبر مُضْمَرٌ . قوله : { يَظُنُّونَ } له مفعولان ، فقال أبو البقاءِ : { غَيْرَ ٱلْحَقِّ } المفعولُ الأولُ ، أي أمراً غير الحق ، و " باللهِ " هو المفعول الثاني . وقال الزمخشريُّ : { غَيْرَ ٱلْحَقِّ } في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به . و { ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } بدل منه . ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية و { غَيْرَ ٱلْحَقِّ } تأكيداً لِـ { يَظُنُّونَ } كقولك : هذا القول غير ما يقول . فعلى ما قال لا يتعدى " ظن " إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية ، كقولك : ظننت بزيد ، أي : جعلته مكان ظني ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر : [ الطويل ] @ 1671 - فَقُلْتُ لَهُمْ : ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ @@ أي قلتُ لهم : اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ . ويحصل في نصب { غَيْرَ ٱلْحَقِّ } وجهان : أحدهما : أنه مفعول أول لِـ " يَظُنُّونَ " . والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ . وفي نصب { ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } وجهان - أيضاً - : البدل من { غَيْرَ ٱلْحَقِّ } أو أنه مصدر مؤكِّد لِـ { يَظُنُّونَ } . و " بالله " إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً ، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية ، قال الزمخشريُّ : " كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدقٍ ، يريد : الظنَّ المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية " . وقال غيره : المعنى : المدة الجاهلية ، أي : القديمة قبل الإسلامِ ، نحو { حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } [ الفتح : 26 ] فصل هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه ، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه ، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها ، فهذا هو المرادُ من قوله : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ : أحدهما - وهو الأظهرُ - : أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريدُ ، لا اعتراض عليه . وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ ، فلا يبعد أن يكون لِلَّهِ حكمٌ خفيَّةٌ ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم ، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء ، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول . قال القفال : لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا ، وذلك ينافي التكليفَ ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات ، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ . الاحتمالُ الثاني : أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ . وقيل : ظنوا أن محمداً قد قُتِل . و { ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } بدل من قوله : { غَيْرَ ٱلْحَقِّ } وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية ، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً ، وهو ظنُّ أهل الجاهلية . قوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } " من " - في { مِن شَيْءٍ } - زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهانِ : أحدهما - وهو الأصحُّ - : أنه " لَنَا " فيكون { مِنَ ٱلأَمْرِ } في محل نصبٍ على الحالِ من " شَيءٍ " لأنه نعتُ نكرة ، قدم عليها ، فنصب حالاً ، وتعلق بمحذوفٍ . الثاني : - أجازه أبو البقاء - أن يكون { مِنَ ٱلأَمْرِ } هو الخبر ، و " لنا " تبيين ، وبه تتم الفائدةُ كقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذا ليس بشيء ؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ ، وإذا كان كذلك فيصير " لَنَا " من جملة أخرى ، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ ، وليس نظيراً لقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] فإن " لَهُ " فيها متعلق بنفس " كُفُواً " لا بمحذوفٍ ، وهو نظيرُ قولكَ : لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ . فـ " لبكر " متعلق بنفس الخبر . وهل هنا الاستفهام عن حقيقته ، أم لا ؟ فيه وجهانِ : أظهرهما : نَعَمْ ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة . والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء ، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ . ولكن يضعف هذا بقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره ؛ لأنه يُقِرُّ بذلك ، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة ، فكأنَّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيءٌ ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه ، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } لقولهم هذا ، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله : " وطائفة " فإن قوله : { يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم } وكذا { يَقُولُونَ } - الثانية - إما خبر عن " طَائِفَةٌ " أو حال مما قبلها . فصل اعلم أنَّ قولَهُ : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون ، وهي تحتمل وجوهاً : الأول : أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا يخرج من المدينةِ ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الوِلْدان ، فلما كثر القتل في بني الخزرج ، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له : قُتِل بنو الخَزرج ! ! فقال : " هل لنا من الأمر من شيء " ؟ يعني : أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من " المدينة " . والمعنى : هل لنا أمرٌ يُطاع ؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار . الثاني : ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي ، أي : هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صلى الله عليه وسلم وهو النصر والقوة - شيء ؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار . الثالث : أن التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين ، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة ، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة ؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله : { يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } . وقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } قرأ أبو عمرو " كُلُّهُ " - رفعاً - وفيه وجهان : الأول : - وهو الأشهر - أنه رفع بالابتداء ، و " لله " خبره والجملة خبر " إنَّ " نحو : إن مال زيد كله عنده . الثاني : أنه توكيد على المحل ، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء ، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي ، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق ، فيكون " للهِ " خبراً لِـ " إنَّ " أيضاً . وقرأ الباقون بالنصب ، فيكون تأكيداً لاسم " إنَّ " وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و " للهِ " خبر " إنَّ " . وقيل على النعت ؛ لأنَّ لفظة " كُلّ " للتأكيد ، فكانت كلفظة " أجمع " . فصل هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره ؛ لأن المنافقين قالوا : إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَا ونُصْحَنا ، لما وقع في هذه المِحْنةِ ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ ، وهذا [ الجواب ] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين . قوله : { يُخْفُونَ } إما خبر لِـ { طَآئِفَةً } وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله : { يَقُولُونَ } يحتمل هذينِ الوجهينِ ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : { يُخْفُونَ } فلا محلَّ له حينئذٍ . قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } كقوله : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } وقد عرف الصحيح من الوجهين . وقوله : { ما قُتِلْنا هَـٰهُنا } جواب " لَوْ " وجاء على الأفصح ، فإن جوابها إذا كان منفياً بـ " ما " فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس ، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله : " وطائفة " إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال : " فإن قُلتَ : كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله : " وطائفة " . قُلْتُ : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } صفة لـ { َطَآئِفَةٌ } و { يَظُنُّونَ } صفة أخرى ، أو حالٌ ، بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين ، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و { يَقُولُونَ } بدلٌ من { يَظُنُّونَ } . فإن قلتَ : كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ ؟ قلتُ : كانت مسألتهم صادرة عن الظن ، فلذلك جاز إبداله منه ، و { يُخْفُونَ } حال من { يَقُولُونَ } و { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ ، و { يَقُولُونَ } بدلٌ من { يُخْفُونَ } والأجود أن يكون استئنافاً " . انتهى . وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، كما تقدم تقريره في قوله : { وَطَآئِفَةٌ } أي : ومنكم طائفةٌ ، فإنه موضعُ تفصيلٍ . فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } وبين قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } وقد أجاب عن الأول بقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وأجاب ههنا بغير ذلك ؟ فالجوابُ من وجهين : الأول : أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ ، وما قُتِلْنَا هاهنا ، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ : الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ ، والمعتزلي يقول : ليس الأمر كذلك ؛ فإن الإنسانَ مختارٌ ، ومستقلٌّ بالفعل ، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر ، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى . الثاني : أن المراد من قوله : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صلى الله عليه وسلم شيء ؟ ويكون المراد من قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَـٰهُنا } هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن " المدينة " ، وما قُتِلْنا ههنا . واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [ الشُّبْهَةَ ] من ثلاثة أوجهٍ : الأول : قوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } ومعناه : أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل ، فلو لم يُقْتَلْ ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً . وقال المفسِّرون : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم ، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل : تقديرُ الكلام : كأنه قيل للمنافقين : لو جلستم في بيوتكم ، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم . قوله : { لَبَرَزَ } جاء على الأفصح ، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب " لو " مثبتاً . وقراءة الجمهور { لَبَرَزَ } مخفَّفاً مبنياً للفاعل ، وقرأ أبو حَيْوَة " لَبُرِّزَ " مشدَّداً ، مبنيًّا للمفعول ، عدَّاه بالتضعيف . وقرئ " كَتَبَ " مبنياً للفاعل ، و " القَتْلَ " مفعول به . وقرأ الحسنُ : { كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتالُ } رَفعاً . الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : " وليبتلي " فيه خمسة أوجُهٍ : فقيل : إنه متعلق بفعل قبله ، وتقديره : فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ ، ليبتلي ما في صدوركم ، أي : ضمائركم . وقيل : بفعل بعده ، أي : ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء . وقيل : الواو زائدة ، واللام متعلقة بما قبلها . وقيل : " وليبتلي " عطف على " ليبتلي " الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام ، فعطف عليه { وَلِيُمَحِّصَ } قاله ابنُ بحرٍ . وقيل : هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره : ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي . الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وَجْهَانِ : أحدهما : أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات ، وتطهرها . الثاني : أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم ، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات . فإن قيل : قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] فلم أعادَه ؟ فالجواب : أنه أعادهُ ؛ لطول الكلام بينهما ، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والابتلاء الثاني سائر الأحوال . فإن قيل : قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } المرادُ منه القلب ؛ لقوله : { ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق ؟ فالجوابُ : أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي : الأسرار والضمائر ؛ لأنها حالَّةٌ فيها ، مصاحبة لها ، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية .