Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 166-167)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" ما " موصولة بمعنى الذي ، في محل رفع بالابتداء ، و " بإذن الله " الخبر ، وهو على إضمار مبتدأ ، تقديره : فهو بإذن الله ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وهذا - على ما قرره الجمهورُ - مُشْكِل ؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط . منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى ؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، " وأصابكم " - هنا - ماضٍ في المعنى ؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاء ؟ أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن - أي : وما تبين إصابته إياكم - كما تأولوا قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 27 ] - أي تبين - وهذا شرطٌ صريحٌ ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل " ما " - هنا - شرطاً صريحاً ، وتكون الفاء داخلة وجوباً ؛ لكونها واقعة جواباً للشرط . وقال ابنُ عطية : " يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء ، وكذلك ترتيبُ هذه ، فالمعنى إنما هو : وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم ، لكن قدم الأهم في نفوسهم ، والأقرب إلى حسّهم . والإذن : التمكينُ من الشيء مع العلم به " . وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى ؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى ، وأشار بقوله : الأهم والأقرب ، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ . فصل ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم ، وذكر هذه الآية وجهاً آخرَ ، وهو أن يتميز المؤمنُ عن المنافقِ ، والمراد بالجمعينِ هو جمعُ المؤمنينَ ، وجمعُ المشركينَ في يوم أحُدٍ . واختلفوا في المراد بقوله : { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } فقيل : الإذن - هنا - عبارة عن التخلية ، وتَرْك المدافعة استعار الإذن لتخلية الكفار ؛ لأن الآذنَ في الشيء لا يَدْفَع المأذون له عن مراده . وقيل : فبعِلْم الله ، كقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 3 ] وقوله : { آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] وقوله : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم ، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعاً بعِلة ؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات . وقيل : فبأمر الله ؛ لقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] والمعنى : أنه - تعالى - لما أمر بالمحاربة ، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح - على سبيل المجاز - أن يقال : حصل ذلك بأمره . ونُقِل - عن ابن عباسٍ - أن المرادَ من الإذن قضاءُ الله بذلك وحكمه به . وهذا أولى ؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، وبهذا تحصل التسلية . قوله : { وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } في هذه اللام قولان : أحدهما : أنها معطوفة على معنى قوله : { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } عطف سبب على سبب ، فتتعلق بما تتعلق به الباء . الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : وليعلم فعل ذلك - أي : أصابكم - والأول أولى - وقد تقدم أن معنى : وليعلم الله كذا : أي يُبَيِّن ، أو يظهر للناس ما كان في علمه ، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً ، أي : ليعلم إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، ولا حاجة إليه . قوله : { وَلْيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ } قال الواحدي : " يقال : نَافَقَ الرَّجُلُ - فهو منافقٌ - إذا أظهر كلمة الإيمان ، وأضمَر خلافَها ، والنفاق اسم إسلامي ، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ : أحدها : قال أبو عبيد : من نافقاء اليربوع ؛ لأن حجر اليربوع لها بابان : القاصعاء ، والنافقاء ، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر ، فقيل للمنافق : إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين : إظهار الإسلام ، وإضمار الكُفْرِ ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر . الثاني : قال ابنُ الأنباري : المنافق من النَّفَق ، وهو السربُ ، ومعناه : أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ . الثالث : أنه مأخوذٌ من النافقاء ، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ ، وهو أن النافقاء جُحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر ، حتى إذا رابه رَيْبٌ ، رفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق : منافق ؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه ، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر ، وتمسَّك بالإسلام " . قوله : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ } هذه الجملة تحتمل وجهين : الأول : أنْ تكونَ استئنافية ، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال ، وإما بالدَّفْع ، أي : تكثير سواد المسلمين . الثاني : أن تكون معطوفة على " نافقوا " فتكون داخلة في صلة الموصول ، أي : ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و " تعالوا " و " قاتلوا " كلاهما قام مقام الفاعل لـ " قيل " لأنه هو المقول . قال أبو البقاء : إنما لم يأتي بحرف العطف - يعني بين " تعالوا " و " قاتلوا " - لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال : إن المقصودَ هو الأمر بالقتال ، و " تعالوا " ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه . وقيل : الأمر الثاني حال . يعني بقوله : " تعالوا " ذكر ما لو سكت ، أن المقصود إنما هو أمرهم بالقتال ، لا مجيئهم وحده ، وجعله " قاتلوا " حالاً من " تعالوا " فاسد ؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية ، وهذه طلبية . قوله : " أو ادفعوا " " أو " - هنا - على بابها من التخيير والإباحة . وقيل : بمعنى الواو ؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع ، والأول أصح . فصل اختلفوا في القائل ، فقال الأصمُّ : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال . وقيل : إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال : لم نُلْقي أنفسَنا في القتل ؟ فرجعوا ، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ - : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدُوِّ . فصل معنى { قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ } يعني : إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم . وقال السُّدَّيُّ : وابنُ جُرَيْج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا - إن لم تقاتلوا معنا - لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة . وقوله : { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } إنما لم يَأتِ - في هذه الجُمْلَة - بحرف عطف ؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا - لما قيل لهم ذلك - ؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك . و " نعلم " - وإن كان مضارعاً - معناه المُضِيّ ؛ لأن " لو " تخص المضارع ، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره ، ونكَّر " قتالاً " للتقليل ، أي : لو علمنا بعض قتال ما . وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ } فقال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } . " هم " مبتدأ ، و " أقرب " خبره ، وهو أفعل تفضيل ، و " للكفر " متعلق به ، وكذلك " للإيمان " . فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر - متحدان لفظاً ومعنًى - بعامل واحد ، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر ، أو بدلاً منه ، فكيف تعلقا بـ " أقرب " ؟ فالجوابُ : أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل ، قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو ، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو . وقال أبو البقاء : " وجاز أن يعمل " أقرب " فيهما ؛ لأنهما يشبهان الظرف ، وكما عمل " أطيب " في قولهم : هذا بسراً أطيب منه رُطباً ، في الظرفين المقدرين لأن " أفعل " يدل على معنيين - على أصل الفعلِ وزيادتِهِ - فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر ، فتقديره : يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان " . ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين ؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك ، وقوله : الظرفين المقدَّرين ، يعني أن المعنى : هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه . و " أقرب " - هنا - من القُرْب - الذي هو ضد البعدِ - ويتعدى بثلاثة حروف : اللام ، و " إلى " و " من " . تقول : قربت لك ومنك إليك ، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو ، فـ " من " الولى المعدية لأصل معنى القرب ، والثانية هي الجارة للمفضول ، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى " إلى " . و " يومئذ " متعلق بـ " أقرب " وكذا " منهم " و " من " هذه هي الجارةُ للمفضول بعد " أفعل " وليست هي المعدية لأصل الفعل . ومعنى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } أنهم كانوا - قبل هذا الوقت - كاتمين للنفاق ، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر ، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر ؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين . وقيل : المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان ؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين . و " إذ " مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ ، عُوِّضَ منها التنوين ، وتقدير هذه الجملة : هم للكفر يوم إذْ قالوا : لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم . وقيل : المعنى على حذف مضاف ، أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان ، وفُضِّلُوا - هنا - على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولولا ذلك لم يَجُزْ ، تقول : زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً ، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً . ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً . لم يَجُزْ . وحكى النقاش - عن بعض المفسّرين - أن " أقرب " - هنا - ليست من معنى القُرب - الذي هو ضد البُعْدِ - وإنما هي من القَرَب - بفتح القاف والراء - وهو طلبُ الماءِ ، ومنه قارب الماء ، وليلة القُرْب : ليلة الورود ، فالمعنى : هم أطلب للكفر ، وعلى هذا تتعين التعدية باللام - على حَدِّ قولك : زيد أضربُ لعمرو . فصل قال أكثرُ العلماءِ : هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار . قال الحَسَنُ : إذا قال الله تعالى : " أقرب " فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : { مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر . وقال الواحديُّ - في " البسيط " : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ اتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره ؛ لأنه - تعالى - لم يطلق القول بتكفيرهم - مع أنهم كانوا كافرين - لإظهارهم كلمة التوحيد . قوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } في هذه الجملة وجهانِ : أحدهما : أنها مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعرابِ . الثاني : أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في " أقرب " أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة - وقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } قيل : تأكيد ، كقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . والظاهرُ أن القولَ يُطْلَق على اللساني والنفساني ، فتقييده بقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه ، اللهم إلا أن يُقَال : إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز ، قال الزمخشري : " وذكر الأفواه مع القلوب ؛ تصويراً لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم " . وبهذا - الذي قاله الزمخشريُّ - ينتفي كونُه للتأكيد ؛ لتحصيله هذه الفائدة - ومعنى الآية : أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم ، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ . قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } أي : عالم بما في ضمائرهم . فإن قيل : المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ ، فما معنى قوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } ؟ فالجواب : أنّ الله - تعالى - يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره .