Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 169-170)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" الذين " مفعول أول ، و " أمواتاً " مفعول ثانٍ ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب ، أو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام - بخلاف عنه - " يحسبن " بياء الغيبة ، وفي الفاعل وجهان : أحدهما : أنه مُضْمَر ، إما ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان - أي : حاسب . الثاني : قاله الزمخشري : وهو أن يكون " الذين قتلوا " قال : ويجوز أن يكون " الذين قتلوا " فاعلاً والتقديرُ : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً . فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأول ؟ قلتُ : هو - في الأصلِ - مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : " بل أحياء " أي : هم أحياءٌ ؛ لدلالة الكلام عليهما . وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره ، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً ، نعم رجلاً زيد ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه ، والبدل على خلاف فيه ، وضمير الأمرِ ، قال : " وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المُفَسِّرُ خبراً للضمير " وبأن حذف أحد مفعولي " ظن " اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً ، نص عليه الفارسيُّ ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة . قال شهابُ الدينِ : وهذا من تحملاته عليه ، أما قوله : يؤدي إلى تقديم المضمر … إلى آخره ، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً ، بل إيراداً للمعنى المقصود ، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ " أنفسهم " المنصوبة وهي المفعول الأول ، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة ، تأكيداً للضمير في " قتلوا " ولم يتنبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة ، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون ، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ ، كما ستقف عليه قريباً . وتقدم الكلامُ على مادة " حسب " ولغاتها ، وقراءاتها ، وقُرِئَ " تحسبن " - بفتح السين - قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر " قتّلوا " - بالتشديد - وهشام وحده في " ما ماتوا وما قتلوا " والباقون بالتخفيف ، فالتشديد للتكثير ، والتخفيفُ صالح لذلك ، وقرأ الجمهورُ " أحياءٌ " رفعاً ، على تقدير : بل هُمْ أحياءٌ ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة " أحياءً " وخرَّجها أبو البقاء على وجهين : أحدهما : أن يكون عطفاً على " أمواتاً " قال : " كما تقول : ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً " . الثاني : - وإليه ذهب الزمخشري - أيضاً - أن يكون بإضمار فعل ، تقديره : بَلِ احسبهم أحياءً ، وهذا الوجهُ سبق إليه أبو إسحاق ، الزجاجِ ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه - في الإغفال - وقال ، لأن الأمر يقينٌ ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة ، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم ، أو اجعلهم ، وذلك ضعيفٌ ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر . قال شهابُ الدينِ : وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله : إن الأمر يقينٌ ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن ، فكيف يقال فيه : أحسبهم - بفعل يقتضي الشك - وهذا غير لازم ؛ لأن " حسب " قد تأتي لليقين . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 1688 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 1689 - شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي @@ فـ " حسب " - في هذين البيتين - لليقين ؛ لأن المعنى على ذلك . وقوله : لذلك ضعيف ، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية ، وليس كذلك ، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ - لدلالة المعنى عليه - من غير ضَعْفٍ - وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ - وأما تقديره هو : اعتقدهم أو جعلهم ، قال الشيخ : هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت : اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيِّرهم أو سمِّهم ، أو الْقهم . قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه خمسةُ أوجهٍ : أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لـ " أحياء " على قراءة الجمهورِ . الثاني : أن يكون ظرفاً لـ " أحياء " لأن المعنى : يحيون عند ربهم . الثالث : أن يكون ظرفاً لـ " يرزقون " أي : يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ . الرابع : أن يون صفة لـ " أحياء " فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور ، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة . الخامس : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في " أحياء " . أي : يحيون مرزوقين . والمراد بالعندية : المجاز عن قربهم بالتكرمة . وقيل : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي : في حكمه ، كما تقول : هذه المسألةُ عند الشافعي كذا ، وعند غيره كذا . قال ابنُ عطية " وهو على حَذف مضاف ، أي : عند كرامة ربهم " . ولا حاجةَ إليه ؛ لأن الأولَ أليقُ . قوله : { يُرْزَقُونَ } فيه أربعةُ وجهٍ : أحدها : أن يكون خبراً ثالثاً لـ " أحياء " أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً . الثاني : أنها صفة لـ " أحياء : " - بالاعتبارين المتقدمين - فإن أعربنا الظرف وصفاً - أيضاً - فيكون هذا جاء على الأحسن ، وهو أنه إذا وصف بظرفٍ وجملةٍ ، فالأحسن تقديمُ الظرفِ وعديله ؛ لأنه أقرب إلى المفردِ . الثالث : أنه حال من الضمير في " أحياء " أي : يحيون مرزوقين . الرابع : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، والعامل فيه - في الحقيقة - العامل في الظرف . قال أبو البقاء - في هذا الوجه - : " ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في الظرف ، إذا جعلته صفة . وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط ، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك - أيضاً - وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة ، ولو جعلته خبراً كان كذلك " . فصل هذه الآية نزلت في شهداء بدرٍ ، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً ، ثمانية من الأنصارِ ، وستة من المهاجرين . وقيل : نزلت في شهداء أُحُدٍ ، وكانو سبعينَ رجلاً ، أربعة من المهاجرين - حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عميرٍ ، وعثمان بن شماسٍ ، وعبد الله جَحْشٍ - وباقيهم من الأنصار . فصل ظاهرُ هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون حقيقةً ، أو مجازاً ، فإن كان حقيقةً ، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو في الحال . وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال ، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ ، أو الجسمانيةَ ، فأما الاحتمال الأولُ - وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة - فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ ، منهم الكَعْبِيِّ ، قال : لأن الله - تعالى - أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ ، وقولهم : إن أصحاب مُحَمدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للقتل ، فَيُقْتَلون ، ويخسرون الحياة ، ولا يصلونَ إلى خيرٍ . وهذه الآية تردُّ هذا القول ؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية ، وأيضاً فإنه تعالى قال : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة . وقال : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً - قبل القيامة لأجل التعذيب ، فأن يجعلَ أهلَ الثواب أحياء - قبل القيامة - لأجل الثواب أولى ؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب ، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك . فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ ، فجاز أن يبشِّرَه الله - تعالى - بأنهم سيصيرون أحياءً ، ويصلون إلى الثواب ؟ فالجوابُ : أن قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } وإنما يتناول الموتَ ؛ لأنه قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال ؛ لأنه لا حسبان - هناك - في صيرورتهم أحياء يوم القيامة . وقوله : { يُرْزَقُونَ } خبر مبتدأ ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان ، فزال السؤالُ ، وأيضاً فقوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا ، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة ، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ ، فدل على كونهم أحياءً قبلَ يوم القيامة . وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال - في صفة الشهداء : " أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا : يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم ، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية . وسُئِل ابنُ مسعود عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها ، فقيل لنا : إن الشهداء على نهر بباب الجنة في قُبَّةٍ خضراءَ . وفي رواية : في روضةٍ خضراء . وعن جابرٍ بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ - حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ - أحْيَاهُ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللَّهِ بنَ عَمرو أنْ أفَعْلَ لَكَ ؟ قَالَ : يَا رَبِّ ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى " . الاحتمالُ الثاني - وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ - والقائلون بهذا القولِ ، منهم من أثبت الحياةَ للروح ، ومنهم من أثبتها للبدنِ ، فمن أثبتها للروح قال : لقوله تعالى : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } [ الفجر : 27 - 30 ] والمراد : الروح . " وروي أنه صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين ، ويقول : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] فقيل : يا رسول الله ، إنهم أمواتٌ ، فكيف تُناديهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إنهم أسمع منكم " " وقال صلى الله عليه وسلم : " أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار " . الاحتمالُ الثالثُ : من أثبت الحياة للأجساد ، وهؤلاء اختلفوا ، فقال بعضهم : أنه - تعالى - يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات ، وإلى قناديل تحت العرش ، ويوصل إليها الكرامات . وقد طعنوا في هذا ، وقالوا : إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع ، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه ، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة ، متنعمة عارفة : لزم القول بالسفسطة . الاحتمالُ الرابعُ : إن كونهم أحياء من طريق المجاز . قال الأصمُّ البلخيُّ : إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة ، صحَّ أن يقالَ : أنه حَيّ ، وليس بميتٍ ، كما يقال - في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره - : إنه ميتٌ ، وكما يقال - للبليد - : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، كما قال عبد الملك بن مروان - لما رأى الزُّهريَّ ، وعلم فقهه وتحقيقه - : مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ . وإذا مَاتَ الإنسانُ ، وخلف ثناء جميلاً ، وذكراً حَسَناً ، يقال - على سبيل المجاز : أنه مَا مَاتَ . وقال آخَرونَ : مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء ، أمر أن ينادى : مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع ، قال جابرٌ : فخرجنا إليهم ، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجلٍ مَنْهُمْ ، فانفطرت دماً . وقيل : المراد - بكونهم أحياء - أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَّل الأموات . قال القرطبي : إذا كان الشهيدُ حيًّا - حكماً - فلا يُصَلَّى عليه ، كالحَيِّ حِسًّا . قوله : { فَرِحِينَ } فيه خمسة أوجهٍ : أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في " أحياء " . ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف . ثالثها : أن يكون حالاً من الضمير في { يُرْزَقُونَ } . رابعها : أنه منصوبٌ على المَدْح . خامسها : أنه صفة لـ " أحياء " . وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و " بما " يتعلق بـ " فرحين " . قوله : { مِن فَضْلِهِ } في " من " ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أن معناها السببية ، أي بسببب فضله ، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله . الثاني : أنها لابتداء الغايةِ ، وعلى هذين الوجهين تتعلق بـ " آتاهم " . الثالث : أنها للتبعيض ، أي : بعض فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف ، والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ . قوله : " ويستبشرون " فيه أربعة أوجهٍ : أحدها : أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم ؛ لكون الفعل في تأويله ، فيكون عطفاً على " فرحين " كأنه قيل : فرحين ومُسْتَبْشِرِين ، ونظَّروه بقوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] . الثاني : أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم ، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل ، قال أبو البقاء هو معطوف على " فرحين " لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن " فرحين " بمنزلة يفرحون ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ } [ الحديد : 18 ] والتقديرُ الأولُ أولى ، لأن الاسم - وهو " فرحين " لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع عليه ، فينبغي أن يُرَدَّ إليه . وإنما فعلنا ذلك في الآية ؛ لأن " أل " الموصولة بمعنى : الذي و " الذي " لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها ، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة . الثالث : أن يكونَ مُستأنفاً ، والواو للعطف ، عطفت فعلية على اسمية . الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يستبشرون ، وحينئذٍ يجوز وجهان : أحدهما : أن تكون الجملةُ حاليةً من الضمير المستكن في " فرحين " أو من العائد المحذوف من " آتاهم " وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً ؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً . الثاني من هذين الوجهين : أن تكون استئنافية ، عطف جملة اسمية على مثلها . و " استفعل " - هنا - ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجرد ، نحو : استغنى الله - بمعنى : غَنِيَ ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابنُ عطية . ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ ، نحو : أكانَهُ فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر ؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ . قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارّ وجهان : أحدهما : أنه متعلق بـ " لم يلحقوا " على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم . الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل " يلحقوا بهم " ، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي : في الحياة - . فصل معنى الكلام : ويستبشرون : ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم ، من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد ؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم ، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ ؛ فلذلك يستبشرون . وقال الزّجّاجُ وابن فورك : الإشارة - بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم - إلى جميع المؤمنين - وإن لم يقتلوا - ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دينَ الإسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون . قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان : أحدهما : أن " أن " وما في حَيِّزها في محل جَرّ ، بدلاً من " بالذين " بدل اشتمال ، أي : يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم ، فهو المستبشَر به في الحقيقة ، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها . الثاني : أنها في محل نَصْبٍ ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم . و " أن " - هذه - هي المخفَّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر . فإن قيل : الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ } ؟ . فالجوابُ أن ذلك على حَذفِ مُضَافٍ مناسبٍ ، تقديره : ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة . وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ - : ويجوز أن يكون في موضع نَصْب ، على معنى : بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدِّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من " الذين " - ليست في محل جَرٍّ ، بل في محل نَصْبٍ ، لأنها سقطت منها الباء ؛ فإن الأصل : بأن لا ، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ - على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ .