Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 181-182)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في كيفية النظم وجهانِ : الأول : أنه - تعالى - لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللَّهِ - فيما تقدم - وبالغ في تقريرِ ذلك ، قالت الكفارُ : إنه - تعالى - لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً ، والفقر على اللَّهِ مُحَالٌ ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله . الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللَّهِ تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض ؛ فإنه - تعالى - ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ - في إصلاح دينِهِ - إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ . قوله : { قَالُوۤاْ إِنَّ } العامل في " إنَّ هو " قاَلُوا " فـ " إنَّ " وما في حيِّزها منصوب المحل بـ " قَالُوا " لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو " قَوْلَ " وبين الفعلِ وهو " قَالُوا " تَنَازعَا في " إنَّ " وما في حيِّزها ، قال : " ويجوز أن يكون معمولاً لـ " قَوْلَ " المضاف ؛ لأنه مصدر ، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قولٌ ضعيفٌ ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل ، والأول مصدرٌ ، وإعمال الفعل أَقْوَى " . وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، وإنما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه يمنع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو - هنا - غير مذكور ، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع إلا على قول الكوفيين ، وهو ضعيفٌ كما ذكر . وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف . فصل قال الحسنُ ومجاهدٌ : لما نزل قوله : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] . قالت اليهودُ : إنَّ اللَّهَ فقيرٌ يستقرض منا ، ونحن أغنياء . وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ . " وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع ؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقام الصلاة , وإيتاء الزَّكَاةِ ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً ، فدخَلَ أبو بكر - ذات يومٍ - بيت مِدْراسهم ، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حَبْرٌ آخَرُ ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ : اتَّقِ اللَّهَ وأَسْلِم ؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فآمِنْ وصَدِّقْ ، وأَقْرِض اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ ، فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله - إذَنْ - فقيرٌ ونحن أغنياء ، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا ، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا - يعني في قوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فغضب أبو بكرٍ ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمدُ ، انظر ما صنع بي صاحبُك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ما حملك ما صنعتَ ؟ قال يا رسولَ اللَّهِ ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً ، زعم أن الله فقير وهم أغنياء ، فغضبت لله ، وضربت وجهه ، فجحد ذلك فِنْحاصٌ ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ ، وتصديقاً لأبي بكر " . واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً ؛ لقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ } وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُلْ ذلك ، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة ، فيجب القطع بذلك . قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء ، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله ، و " ما " وصلتها قائم مقام الفاعل ، و " قَتْلُهم " - بالرفع - عَطْفاً على الموصول ، و " يَقُولُ " - بياء الغيبة - والمعنى : سيحفظ عليهم . والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، فـ " ما " منصوبة المحل ، و " قَتْلَهُمْ " بالنصب عَطْفاً عليها ، و " نَقُولُ " بالنون - أيضاً - والمعنى : سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ . وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف " سَتُكْتَبُ " - بتاء التأنيث - على تأويل " مَا قَالُوا " بـ " مَقَالَتُهُمْ " . وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون ويقال . والحسنُ والأعرج " سَيَكْتُب " - بالغيبة - مبنياً للفاعل ، أي : الله تعالى : أو الملك . و " ما " - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به ، أي : مقولهم ، كقولهم : ضَرْب الأمير . قوله : { وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : ونكتب قتلهم ، أي : رضاهم بالقتل ، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم ، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ ، فقال الشعبي : قد شركت في دمه ، فجعل الرضا بالقتل قتلاً ، قال القرطبيُّ : وهذه مسألة عظمى ، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العُرس ابن عُمَيْرة الكِنديّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - أو فَأنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها " وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين . والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم - منذ كانوا - مُصِرُّون على الجهالات والحماقات . ثم قال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي : النار ، وهو بمعنى المُحْرِق - كالأليم بمعنى المُؤلم - وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت ، أو عند الحشر ، وإن لم يكن هناك قَوْلٌ . فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالاً ، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً ، فلو طلب اللَّهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً ، وذلك مُحَالٌ ، فوجب أن يقال : إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده ، وذلك قادحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ ، فهذا هو شُبْهَتُهم ، فأين الجوابُ ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا ؟ . فالجوابُ : إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر اللَّهُ عبيده ببذل الأموال ، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء . وأما على قول المعتزلة - فإنه تعالى يُراعي المصالح - فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد ؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ : منها : أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ . ومنها : أن يصير القلبُ - بذلك الإنفاقِ - فارغاً من حُبِّ ما سوى اللَّهِ تَعَالَى . ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه ، فتتألم روحه لمفارقته . قوله : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ } مبتدأ وخبر ، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت ، كذا قدره أبو البقاء ، وفيه نظر . و " ما " يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة ، و " ذلك " إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم ، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ : أحدهما : أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول ؛ عَطْفاً على " ذُوقُوا " كأنه قيل : ونقول لهم - أيضاً - ذلك بما قدمت أيديكم ، وُبِّخُوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب . الثاني : أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولِ الآيةِ . وذكرت الأيدي ؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها ، قال القرطبيُّ : وخص الأيدي بالذكر ؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته ؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ، كقوله : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } [ القصص : 4 ] وأصل " أيْدِيكُمْ " أيْدِيُكُم ، فحُذِفت الضمةُ ؛ لثقلها . قوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } عطف على " ما " المجرورة بالباء ، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم ، وعدم ظُلْمه لكم . فإن قيل : إن " ظلاماً " صيغة مبالغة ، تقتضي التكثير ، فهي أخص من " ظالم " ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فإذا قلت : زيد ليس بظلامٍ ، أي : ليس كثير الظُّلم - مع جواز أن يكون ظالماً - وإذا قُلْتَ : ليس بظالم ، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؟ فالجوابُ من وجوهٍ : الأول : أن " فَعَّالاً " قد لا يُراد به [ التكثير ] ، كقول طرَفة : [ الطويل ] @ 1702 - وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أرْفِدِ @@ لا يريد - هنا - أنه قد يحل التلاع قليلاً ؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة . الثاني : أنه للكثرة ، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد - وهم كثيرون - ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ . الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة ؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر - كان للظلم القليل المنفعة أترك . الرابع : أن يكون على النسب ، أي : لا يُنسَب إليه ظُلم ، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة . ذكر هذه الأربعة أبو البقاء . وقال القاضي أبو بكرٍ : العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم ، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً ، فنفاه على حَدِّ عِظَمِه لو كان ثابتاً . وقال الراغبُ : " العبيد - إذا أُضيف إلى اللَّهِ تَعَالَى - أعم من العباد ، ولهذا قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك " . وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين " عبيد " و " عباد " فقال : وجمع العَبْد - الذي هو مسترق - عبيد وقيل : عِبِدَّى وجمع العبَدْ - الذي هو العابد - عباد ، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة " ق " . فصل قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم ، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم .