Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 21-22)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ : الأولى قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ } لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله : { فَبَشِّرْهُم } ، وهذا هو الصحيح ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ بـ " إنَّ " فجواز دخول الفاء باقٍ ؛ لأن المعنى لم يتغير ، بل ازداد تأكيداً ، وخالف الأخفش ، فمنع دخولها من نسخه بـ " إنَّ " والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية ، وكقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } الآية [ البروج : 10 ] ، وكذلك إذا نُسِخَ بـ " لَكِنَّ " كقوله : [ الطويل ] @ 1376 - فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلاَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ @@ وكذلك إذا نُسِخ بـ " أنَّ " - المفتوحة - كقوله : { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] أما إذا نُسِخ بـ " لَيْتَ " ، و " لَعَلَّ " و " كَأنَّ " امتنعت الفاءُ عند الجميع ؛ لتغيُّرِ المعنى . فصل المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ والنصارى . فإن قيل : ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى - ، واليهود والنصارى ، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ . الجواب : أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم ، ونقول : إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى . الصفة الثانية : قوله : { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير ، وجاء - هنا - { بِغَيْرِ حَقٍّ } منكَّراً ، وفي البقرة { بِغَيْرِ الحَقِّ } [ البقرة : 61 ] معرَّفاً قيل : لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي ؛ لتعمَّ . وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين ، مختصين بأعيانهم ، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم ، فلم يقصد هذا العموم الذي هنا ، فجِيء في كل مكان بما يناسبه . فصل " روى أبو عبيدة بنُ الجراح ، قال : قلت : يا رسولَ الله ، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ ؟ قال : رجل قتل نبيًّا ، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا ، من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل ، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ بالمعروفِ ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر ، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى " . وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم . فإن قيل : قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } في حكم المستقبل ؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء ، ولا الآمرين بالقسط ، فكيف يَصِحُّ ذلك ؟ فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم ؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم ، راضين بطريقتهم ، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن ، إذا كان راضياً به . الثاني : أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلَ المؤمنين ، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم ، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال : النار مُحْرِقةٌ ، السَّمُّ قاتل . فإن قيل : قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق ، فما فائدة قوله : { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } ؟ فالجوابُ تقدم في البقرة ، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم . فإن قيل : قوله : { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ } ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ، ولا الأكثر ، ولا النصف . فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد ، لا للاستغراق . الصفة الثالثة : قوله : { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ } قرأ حمزة " وَيُقَاتِلُونَ " - من المقاتلة - والباقون " وَيَقْتُلُونَ " - كالأول . فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين ، وهي موافقة لقراءة عبد الله " وَقَاتَلُوا " - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي ، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال ، ومعناه : المُضِيّ . وأما الباقون فقيل - في قراءتهم - : إنما كرر الفعل ؛ لاختلاف متعلَّقه ، أو كُرِّرَ ؛ تأكيداً ، وقيل : المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح ، وبالآخر الإهانة ، وإماتة الذكر ، فلذلك ذكر كل واحد على حدته ، ولولا ذلك لكان التركيبُ : ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون ، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ . قوله : { مِنَ النَّاسِ } إما بيان ، وإما للتبعيض ، وكلاهما معلوم أنهم من الناس ، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد . فصل قال القرطبيُّ : " دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة " . قال الحسنُ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ " . وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب ، قالت : " جاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر - فقال : مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله ؟ قال : آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأتْقَاهُمْ لله ، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ " . قد ورد في التنزيل : { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ } [ التوبة : 67 ] ، ثم قال : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] . فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين ، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه ، ثم إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطانُ ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه ، والتعزير إلى رأيه ، والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا ، عالماً ، أميناً ، ويأمره بذلك ، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ ، كما قال تعالى : { ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ الحج : 41 ] . فصل قال الحسنُ : هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء ، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِنًى - فقال : " أيُّ الجهاد أفضلُ ؟ فقال عليه السلام : أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ " . قال ابن جريج : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيذكِّرُون قومَهم فيُقْتلون ، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم ، فيذكرون قومَهم ، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس . قوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ } قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن " حَبَطَتْ " بفتح الباء - وهي لغة معروفة ، أي : بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن ، وقَتْلِهم ، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم ، واسترقاقِهم ، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب ، وحصول العقاب - { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يَدْفَعُونَ عَنْهُم .