Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 66-68)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القراء في هذه على أربع مراتِبَ ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك : المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير : ها أنتم - بألف بعد الهاء ، وهمزة مخففة بعدها . المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع : بألف بعد الهاء ، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها . المرتبة الثالثة لورش ، وله وجهانِ : أحدهما : بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما . الثاني : بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية . المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف . فصل اختلف الناسُ في هذه الهاء : فمنهم من قال : إنها " ها " التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة ، نحو : ها أنت ذا قائماً ، وها نحن ، وها هم ، وهؤلاء ، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ ؛ توكيداً ، كهذه الآية ، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله : [ البسيط ] @ 1500 - تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ @@ وقول النابغة : [ البسيط ] @ 1501 - هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ @@ ومنهم من قال : إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام ، والأصل : أأنتم ؟ وهو استفهام إنكار ، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ ، وهَرَحْتُ ، وهَنَرتُ ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء ، وأبي الحسن الأخفش ، وجماعة ، واستحسنه أبو جعفر ، وفيه نظرٌ ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام ، لم يُسْمَع : هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً ؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه ؟ هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاء هان الأمر ، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام ، ولا غيرها ، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ ، وورش ؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة " أنتم " ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين ، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً ؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر : [ الكامل ] @ 1502 - وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا ، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا @@ يريد أذا الذي ؟ ويضعف جعلها - على قراءتهما - " ها " التي للتنبيه ؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها ، لا يقال : هَذَا زيد - بحذف ألف " ها " - كذا قيل . قال شهاب الدّينِ : " وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل - : { يَٰأَيُّهَا ٱلسَّاحِرُ } [ الزخرف : 49 ] و { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ النور : 31 ] ، و { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } [ الرحمن : 31 ] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم ؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة ، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف " ها " التي للتنبيه . وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة " أنتم " فالظاهر أنها للتنبيه ، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام ؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل ، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء ، وقال بعضهم : الذي يقتضيه النظر أن تكون " ها " - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان - ، للتنبيه ؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة ، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف ، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة ؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء ، ولو كانت " ها " للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء ، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في { ءَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك ، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في : { ءَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه من تسهيل الهمزة ، وترك إدخال الألفِ ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في { ءَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه . وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون " ها " للتنبيه ، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام . أما الوجه الأول فلأن " ها " التنبيه دخلت على " أنتم " فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في " هؤلاء " ونحوها ، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو ؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها ، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ . الوجهُ الثاني : أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام ؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك . وقال آخرون : إنه يجوز أن تكون " ها " - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة ، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على " أنتم " ذكر ذلك أبو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين . فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع ، وهشام عن ابن عامر - فقد تقدم توجيهه ، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم ، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون " ها " - عندهم - للتنبيه ، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم ، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال : [ الطويل ] @ 1503 - … آأَنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ @@ ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً ؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً ، وهؤلاء ، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين . وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم ، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال ، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين ؛ لالتقاء الساكنين . قال أبو شَامَةَ : الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون " ها " للتنبيه ؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ ، و { هٰأَنْتُمْ } أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر ، لا للاستفهام ، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل ، وحَذْفُ مَنْ حذف ، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله : { لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] وشبهه ، وأما الحذف فنقول : " ها " مثل " أما " - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف " أما " فكذا حذف ألف " ها " وعلى ذلك قولهم : أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ . وقد حمل البصريون قولهم : " هَلُمَّ " على أن الأصل " هَالُمَّ " ، ثم حذف ألف " ها " فكذا { هٰأَنْتُمْ } . وهو كلام حَسَنٌ ، إلا أنَّ قوله : إن { هٰأَنْتُمْ } - حيث جاءت - كانت خبراً ، لا استفهاماً ممنوع ، بل يجوز ذلك ، ويجوز الاستفهام ، انتهى . ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد ، فقال : من أثبت الألفَ في " ها " ، واعتقدها للتنبيه ، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل ، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة ، أو سهلها ، وأمّا من جعلها للتنبيه ، ومذهبه المد في المنفصل ، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها - . وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان : إبدال الهمزة - من " أنتم " - ألفاً ، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ ، فإذا أبدل مَدَّ ، وإذا سهَّل قَصَر ، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ : أحدها : أنَّ " أنتم " مبتدأ ، و " هَؤُلاَءِ " خبره ، والجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } جملة مستأنفة , مبينة للجملة الأولَى , يعني أنتم هؤلاءِ الأشخاص الحَمْقَى , وبيان حماقتكم , وقلة عقولكم , أنكم جادلتم فيما لكم به عِلْم بما نطق به التوراةُ والإنجيل { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ذكر ذلك الزمخشريُّ . الثاني : أن يكون { هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ } مبتدأ وخبراً , والجملة من { حَاجَجْتُمْ } في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم : ها أنا ذا قائماً ، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة ، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها . الثالث : أن يكون { هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ } على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول ، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ ، وهما الجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } ، ذكره الزمخشريُّ . وهذا إنما يتجه عند الكوفيين ، تقديره : ها أنتم الذين حاججتم . الرابع : أن يكون " أنْتُمْ " مبتدأ ، و " حَاجَجْتُمْ " خبره ، و " هؤلاء " منادًى ، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً ؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة ، وأجازه الكوفيون وأنشدوا : [ البسيط ] @ 1504 - إنَّ الأُلَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا @@ يريد يا هذا اعتصم ، وقول الآخر : [ الخفيف ] @ 1505 - لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ @@ يريد : يا أولاء . الخامس : أن يكون " هَؤلاءِ " منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل . و " أنتُمْ " مبتدأ ، و " حَاجَجْتُمْ " خبره ، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ . السادس : أن يكون على حذف مضافٍ ، تقديره : ها أنتم مثل هؤلاء ، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه ، أو حالاً . السابع : أن يكون " أنْتُمْ " خبراً مقدماً ، و " هَؤلاءِ " مبتدأ مؤخراً . وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها ، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين ببعضها ، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 85 ] فليلتفت إليه . قوله : { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } " ما " يجوز أن تكون معنى " الذي " وأن تكونَ نكرةً موصوفةً . ولا يجوز أن تكون مصدرية ؛ لعود الضمير عليها ، وهي حرف عند الجمهور ، و " لَكُمْ " يجوز أن يكون خبراً مقدماً ، و " عِلمٌ " مبتدأ مؤخراً ، والجملة صلة لِـ " ما " أو صفة ، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة ، أو صفة ، و " عِلْمٌ " فاعلٌ به ؛ لأنه قد اعتمد ، و " بِهِ " متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من " عِلْمٌ " إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له ، ولا يجوز أن يتعلق بـ " عِلمٌ " لأنه مصدر ، والمصدر لا يتقدم معموله عليه ، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك ، وسُمي بياناً . فصل وأما المعنى فقال قتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ وغيرُهم : إن الذي لهم به علم هو دينُهم وجدوه في كتبهم ، وثبتَتْ صحتُه لديهم ، والذي ليس لهم به علم هو شريعةُ إبراهيمَ ، وما عليه مما ليس في كتبهم ، ولا جاءت به إليهم رُسُلُهُمْ ، ولا كانوا مُعَاصِرِيه ، فيعلمون دينَه ، فجدالهم فيه مجرَّد عِنَادٍ ومُكَابَرة . قيل : الذي لهم به علم هو أمر نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لأنه موجود عندهم في كُتُبِهم بنعته ، والذي ليس به علمٌ هو أمر إبراهيم - عليه السلام - . قال الزمخشريُّ : " يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى ، وبيان حماقتكم ، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل ، { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا نطق به كِتَابُكُمْ من إبراهيمَ " . فصل اعلم أنهم زعموا أن شريعةَ التوراةِ والإنجيل مخالِفَةٌ لشريعة القرآن ، وهو المراد بقوله { حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } ثم قال : { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } وهو ادِّعاؤكم أن شريعةَ إبراهيمَ كانت مخالفةً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يُحْتَمَل في قوله : { هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } فكيف تحاجُّونه فيما لا علم لكم به ألبتة ؟ ثم حقَّق ذلك بقوله : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } كيفية تلك الأحوال من المخالفةِ والموافقةِ ، ثم ذكر - تعالى - ذلك مفَصَّلاً ، مُبَيَّناً ، فقال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود ؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر " لا " - في قوله : { وَلاَ نَصْرَانِيّاً } - توكيداً ، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته . قال القرطبيُّ : " دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له ، وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأتقن ، قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتاه رجل وولده ، فقال : يا رسولَ الله ، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قال : نَعَمْ ، قَالَ : فَمَا ألْوَانُهَا ؟ قال : حُمْرٌ ، قال : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَال : مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ " . وهذه حقيقة الجدال ، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قوله : { وَلَـٰكِن } استدراك لما كان عليه ، ووقعت - هنا - أحسن موقع ؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ . ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى ؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين ، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان ، والمجوس عَبَدَةِ النار ، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ . بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال : أيُّ فائدةٍ في قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } بعد قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } ؟ وأتى بخبر " كان " مجموعاً ، فقال : { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } بكونه فاصلةً ، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله : { يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فيتناسب النفيان . وقيل : قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح ، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه . والحنيفُ : المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ . وقيل : الحنيفُ : الذي يُوَحِّد ، ويَحُج ، ويُضَحِّي ، ويَخْتَتِنُ ، ويَسْتَقِبِل القبلة . وتقدم الكلام عليه في البقرة . فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام ، أتريدون به الموافقة في الأصول ، أو في الفروع ؟ فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام ، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود - [ ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً ] أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم صاحب شرع ألبتة ، بل كان مقرِّراً لدين غيره ، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا ، وغير مشروعة في صلاتهم . فالجوابُ : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا . ويجوز أن يقالَ : المراد به الموافقة في الفروع ، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى ، ثم زمان محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة ، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صلى الله عليه وسلم موافقاً لشرع إبراهيم ، جاز إطلاق الموافقة عليه ، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة . قوله : { إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } ، " إبْراهِيم " متعلِّق به " أوْلَى " و " أوْلَى " أفعل تفضيل ، من الولي ، وهو القُرْب ، والمعنى : إنَّ أقْرَبَ الناسِ به ، وأخصهم ، فألفه منقلبة عن ياء ، لكون فائه واواً ، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء ، لأن فاءَه واوٌ ، فلا تكون لامه واواً ؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه ، هل هي واو - أيضاً - أو ياء . و { لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } خبر " إن " و { وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ } نَسَق على الموصول ، وكذلك : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون - رضي الله عنهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر ؛ تشريفاً ، وتكريماً ، فهو من باب قوله تعالى : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ : { وَهَـٰذَا ٱلنَّبِي } - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول { اتَّبَعُوهُ } فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ ، ويكون قوله : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } نَسَقاً على قوله : { لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } . والجر نَسَقاً على " إبْرَاهِيمَ " أي : إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي ، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه ، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في " اتَّبَعُوهُ " فيُقَال : اتبعوهما ، اللهم إلا أن يقال : هو من باب : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ثم قال : { وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ . فصل روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب ، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر ، فاجمعوا مالاً ، وأهدوه إلى النجاشِيِّ ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم ، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا ، فركِبا البحرَ ، وأتَيَا الحبشةَ ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له ، وسلما عليه ، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون ، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك ؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر ، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا ، لا يدخل عليهم أحدٌ ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه ، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك ، فاحْذَرْهُمْ ، وادْفَعْهم إلَيْنَا ، لنكفِيَكَهُمْ ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ . فدعاهم النجاشيُّ ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب : يستأذن عليك حزبُ اللهِ ، فقال النجاشيُّ : مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه ، ففعل جَعْفَرُ ، فقال النجاشيُّ : نعم ، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته ، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع ؟ يرطنون بـ " حِزْبِ اللهِ " وما أجابهم به النجاشي ! ! ! فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له ، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشِيُّ : ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ ؟ قالوا : نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك ، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام ، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً ، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ ، وهي السلامُ ، وتحية أهل الجنَّةِ ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ ، وأنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف : يستأذنُ عليك حِزْبُ الله ؟ قال جَعْفَر : أنا ، قال : فتكلم ، قال : إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ ، ولا الظلمُ ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين ، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما ، وليُنْصِت الآخرُ ، فيسمع محاورتنا ، فقال عَمْرو لجعفر : تَكَلَّمْ ، فقال جعفر للنجاشيُّ : سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم ، فقال النجاشيُّ : أعبيدٌ هم أم أحرار ؟ فقال لا ، بل أحرارٌ كرام ، فقال النجاشيُّ : نَجَوْا من العبوديَّةِ ، ثم قال جعفرُ : سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق ، فيقتصّ منا ؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة . قال جعفر : سَلْهُمَا ، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق ، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ : إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو : لا ، ولا قيراط ، فقال النجاشيُّ : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك ، واتَّبَعُوا غيره ، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشيُّ : ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه ، الدين الذي اتبعتموه ؟ قال : أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ ، كنا نكفر بالله ، ونعبد الحجارة ، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ ، جاءنا به من الله رسولٌ ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم ، موافِقاً له . فقال النجاشيُّ : يا جعفر ، تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رِسْلِك ، ثم أمر النجاشيُّ ، فضُرِب بالنَّاقوس ، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشيُّ : أنشدكم اله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً ؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ ، قد بشرنا به عيسَى ، وقال : مَنْ آمن به فقد آمن بي ، ومن كَفَر به فقد كفر بي . قال النجاشيُّ لجعفَرَ : ماذا يقول لكم هذا الرجلُ ؟ وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا [ كتاب الله ] ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحُسْنِ الجوار ، وصلة الرَّحِم ، وبِرِّ اليتيم ، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له ، فقال : اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم ، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع ، وقالوا : زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ ، فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه ، فقال النجاشِيُّ : ما تقولون في عيسى وأمِّه ، فقرأ عليهم جعفر سورة " مريم " ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال : والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا ، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه ، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ، آمنون ، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم ، ثم قال : أبشروا ، ولا تخافوا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ ، قال عمرو : يا نجاشيُّ ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون ، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه ، وقال : إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة ، فاقبضوها ؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة ، قال جعفرُ : فانصرفْنَا ، فكنا في خير دارٍ ، وأكرم جوارٍ ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عز وجل : { إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي ، وَخَلِيلُ رَبِّي " ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ } .