Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 71-71)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ العامة : { تَلْبِسُونَ } بكسر الباء ، من لبس عليه يلبس ، أي : خلَطه ، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز " تُلبِّسُون " - بضم التاء ، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس " بالتشديد " ، ومعناه التكثير . والباء في " الباطل " للحال ، أي : متلبساً بالباطل . فصل في معنى : تلبسون الحق { تَلْبِسُونَ } تخلطون { ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } الإسلام باليهودية والنصرانية . وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل - . وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل ، الذي حرَّفتموه ، وكتبتموه بأيديكم ، قاله الحسنُ وابن زيد . وقال ابنُ عباس وقتادةُ : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس . قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه ، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر . وقيل إنهم كانوا يقولون : إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء للشبهات . قوله : { وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ } جملة مُسْتَأنَفةٌ ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار " أن " في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار " أن " عند البصريين . ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ ، وأنكَرَه ، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع . يعني أنه ليس معطوفاً على { تَلْبِسُونَ } ، بل هو استئناف ، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ . ونقل أبو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال : الصَّرْف - هنا - يَقْبُح ، وكذلك إضمار " أن " لأن " تَكتُمُونَ " معطوف على موجب مقرَّر ، وليس بمستفهَم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ ، وليس بمنزلة قولك : أيقومُ فأقومَ ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي : [ الوافر ] @ 1506 - … وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا @@ قال سيبويه - في قولك : أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا - : لا يجوز إلا النَّصْبُ في " تدخلها " لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلُها ؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره . قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله ؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حَتْماً ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنَّ { يَكْتُمُونَ } معطوف على موجَب مقرَّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكَتْم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون { يَكْتُمُونَ } إخْباراً محضاً ، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار " أن " في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : " أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ " . فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه ، نحو : لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك ؛ لأن الضرب قد وقع . ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك ، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل ، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال ؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك ؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا ، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم ؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك ؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ ، محقَّق الوقوع ، مستفهَم عنه ، نحو : أين ذهب زيد فنتَّبعُه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ وكم مالك فنعرفُه ؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة ، فإن التقدير : ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا . قال شهابُ الدِّينِ : " وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون ، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث ، تنقيحاً للذهن " . ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة ، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير ، وهي : لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة لا تَبْعد عن [ لَغطِ البحث ] ، كأنه توهم أن " لَمْ " هي الجازمة ، فجزم بها ، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على " لم " - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم ، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة ، كيف يقولون في جار ومجرور : إنه يَجْزِم ؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه ، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً ؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم : { قالوا ساحران تظَّاهرا } [ القصص : 48 ] - بتشديد الظاء - الأصل : تتظاهران ، فأدغم الثاني في الظاء ، وحذف النون تخفيفاً ، وفي الحديث : " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا … " يريد - عليه السلامُ - : لا تدخلون ، ولا تؤمنون ؛ لاستحالة النهي معنًى . وقال الشاعرُ : [ الرجز ] @ 1507 - أبِيتُ أسْرِي ، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي @@ يريد تبيتين وتدلُكين . ومثله قول أبي طالب : [ الطويل ] @ 1508 - فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ @@ يريد : ستحتلبونها . ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مُرادَة وجوباً ؛ لعدم صلاحية " ستحتلبوها " جواباً ؛ لاقترانه بحرف التنفيس . والمراد بالحق : الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة . قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف ، إما اقتصاراً ، وإما اختصاراً - أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم ، وتعلمون أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً . فصل في كلام القاضي قال القاضي : قوله تعالى : { لِمَ تَكْفُرُونَ } ؟ و { لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } يدل على أن ذلك فعلهم ؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لِمَ فعلتم ؟ وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية ، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى ، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا .