Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 77-77)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ : أحدها : أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس ، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال ، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ . وثانيها : أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب ، وهم يعلمون ، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله . وثالثها : أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس ، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين . وقال بعضهم : إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ ؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة . فصل قال عكرمةُ : نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيرَها ، وحلفوا أنها من عند الله ؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم . وقيل : نزلت في ادِّعائهم أنه { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] كتبوا ذلك بأيديهم ، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ . وقال ابن جُرَيْجٍ : نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له ، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : أقم بيِّنتك ، فقال : ليس لي بينة ، فقال لليهودي : احلِفْ ، قال : إذاً يحلف ، فيذهب بمالي ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ } فنكل الأشعث . قال مجاهدٌ : نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ . قَالَ : وقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فقال أبو ذر : خابوا ، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ ؟ قال : المُسْبِلُ إزَارَهُ ، والمَنَّانُ ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ " . وروى أبو هريرة عن النبي : " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ : رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ، فاقتطعه ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ : الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ " . وقيل : " جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميُّ : يا رسولَ اللهِ ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ : هي أرضي في يدي ، أزرعها ، ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحَضْرَمِيّ : ألك بيِّنةٌ ؟ قال لا ، قَالَ : فَلَكَ يمينُهُ قال : يا رسولَ اللهِ ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه ، قال ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر " أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ " . قال علقمة : أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ ، روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ ، قَالُوا : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله ؟ قَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ " قالها ثلاث مراتٍ . قوله : { أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } أي : لا نصيبَ لهم في الآخرةِ ونعيمها ، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة ، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } أي : كلاماً ينفعهم ، ويسرهم . وقيل : لمعنى الغضب ، كما يقول الرجل : إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ . ثم قال : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي : لا يرحمهم ، ولا يُحْسِن إليهم ، ولا يُنِيلُهم خيراً ، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة . وقيل : لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] وقد تكون من غير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله : { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ } [ التوبة : 112 ] . وأما في الآخرة فكقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما بين حرمانهم من الثواب , بيَّن كونهم في العقاب الشديد المُؤلم . فصل قال القرطبيُّ : " دلَّت هذه الآية والأحاديث على أن حُكْمَ الحاكم لا يُحِلُّ المالَ في الباطن بقضاء الظاهرِ إذا علم المحكوم له بطلانَه , وروت أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إليَّ , وإنما أنا بَشَرٌ , ولَعَلَّ بعضَكم أن يكونَ ألْحَنَ بحُجَّته من بَعْضٍ , وإنما أقضِي بينَكُم على نحو ما أسمع , فمن قَضَيْتُ له من حَقِّ أخيه شيئاً , فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة " . قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في هذه اللام قولان : أحدهما : أنها بمعنى الاستحقاق ، أي : يستحقُّون العذاب الأليم . الثاني : كما تقول : المال لزيد ، فتكون لام التمليك ، فذكر ملك العذاب لهم ، تهكُّماً بهم .