Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 79-80)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال مقاتل والضَّحّاكُ { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى نجرانَ كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن [ يتخذوه ] ربًّا ، فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن عباس وعطاء : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَابَ } أي : القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود ، والرئيس - من نصارى نَجْران ، قالا : " يا محمد ، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً ؟ قَالَ : " مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ " " فأنزل الله هذه الآية . قال ابن عباسٍ : لما قالت اليهودُ : عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى : المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية . والبشر جميع بني آدم ، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ ، والجمع ، قال القرطبي : " لأنه بمنزلة المصدر " . قوله : { أَن يُؤْتِيهُ } اسم " كَانَ " و " الْبَشَر " خبرها . وقوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطف على " يُؤتيهُ " ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى ؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى ؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل - : إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف . وإنما بينا هذا ؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء الله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب ، نحو : " ما كان لزيد أن يفعل " ، كقوله تعالى : { مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا } [ النور : 16 ] . وقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وقوله : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : ما ينبغي لنا ، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين : قسم يكون النفي فيه من جهة العقل ؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ } [ آل عمران : 145 ] . وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعْرَف القسمان من السياق . وقرأ العامة " يَقُولَ " - بالنصب - نسقاً على " يؤتيه " والتقدير : لا يجتمع النبوة وهذا القول . والعامل فيه " أن " وهو معطوف عليه بمعنى : ثم أن يقول . والمراد بالحكم : الفَهْم والعلم . وقيل : إمضاء الحكم عن الله - عز وجل - . و { ٱلْكِتَابَ } القرآن . وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب - : " يقولُ " - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مُشْكِلٌ ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف ؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله ؛ لفساد المعنى ، فكيف يقولون : على القطع والاستئناف . قوله : { عِبَادًا } حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد : عباد . قال ابنُ عطِية : ومن جموعه : عَبِيد وعِبِدَّى . قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلُّها بمعنًى . وقال بعضهم : العبادُ للهِ ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر . وقال بعضهم : العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقرأت في لفظ " العباد " أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير ، وتصغير الشأن ، وانظر قوله : { وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 30 ] { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقوله : { قُلْ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ، وأما العبيد ، فتستعمل في تحقيره . ومنه قول امرئ القيس : @ 1527 - قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ @@ وقال حمزة بن عبد المطلب : " وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي " ؟ ومنه قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم ، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك . ولما كانت " العباد " تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أتى بها في قوله تعالى : { قُلْ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية . قال أبو حيّان : " وفيه بعض مناقشة ، أما قوله : ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى ، فأما عبيد ، فالأصح أنه جمع ، وقيل اسم جمع . وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع ، وألفه للتأنيث " . قال شهابُ الدّينِ : " لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا ، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ " . قال : وأما ما استقرأه من أن " عِباداً " يساق في [ مضمار ] الترفُّع والدلالة على الطاعة ، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ " العباد " وأما قوله : وأما العبيد ، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة : " وهل أنتم إلا عبيد أبي " ، وقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فاستقراء ليس بصحيح ، إنما كثر استعمال " عباد " دون " عبيد " لأن " فعالاً " في جمع " فَعْل " غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ ، وجمع فَعْل على " فعيل " لا يطَّرد . قال سيبويه : " وربما جاء " فعيلاً " وهو قليل - نحو الكليب والعبيد " . فلما كان " فِعَال " مقيساً في جمع " عبد " جاء " عباد " كثيراً ، وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله : { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وبعده { قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين . ونظير هذا - في سورة ق - { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] لأن قبله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } [ ق : 28 ] . وبعده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وأما مدلوله فمدلول " عباد " سواء ، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ " عبيد " إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزةَ : هل أنتم إلا عبيد ؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين . وقال شهابُ الدينِ : " رذه عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود ، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ - " عبيد " - ممنوع ؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره ، فالإحالة على اللفظ أوْلَى " . قوله : " لي " صفة لـ " عباد " . و { مِن دُونِ ٱللَّهِ } متعلق بلفظ " عِبَاداً " لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية ، وأن يكون حالاً ؛ لتخصُّص النكرة بالوصف . قوله : { وَلَـٰكِن كُونُواْ } أي : ولكن يقول : كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا ، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، كقوله تعالى : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : يقال لهم ذلك . والربانيون : جمع رَبَّانِيّ ، وفيه قولان : أحدهما : قال سيبَوَيْهِ : إنه منسوب إلى الرَّبّ ، يعني كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يُقال : رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني ، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ ، والكثيرِ الشعرِ ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة : قالوا : رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ . الثاني : قال المُبَرِّدُ : الربانيون : أرباب العلم ، منسوب إلى رَبَّان ، والربان : هو المُعَلِّم للخير ، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم ، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف ، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل : لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري ، قال : [ الرجز ] @ 1528 - أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ @@ وقال سيبويه : زادوا ألفاً ونوناً في الربانيّ ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم ، وهذا كما يقال : شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ . قال الواحديُّ : فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية . وفي التفسير : كونوا فقهاء ، علماء ، عاملين . قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ . وقال قتادةُ : حكماء ، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء ، معلمين . وقل عطاءٌ : علماء ، حكماء ، نصحاء لله في خلقه . وقيل : الرَّبَّانِيّ : الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره . وقال سعيد بن جُبَيرٍ : الرباني : العالم الذي يعمل بعلمه . وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبارُ : العلماء ، والربانيون : الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس ، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ : اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة . وقال ابنُ زيدٍ : الربانيُّ : هو الذي يربُّ النَّاسَ ، والربانيون هم : ولاة الأمة والعلماء ، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } [ المائدة : 63 ] أي : الولاة والعلماء ، وهما الفريقان اللذان يطاعان . ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته . قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سُمِّي ربانيًّا ؛ لأنه يُطاع كالربِّ ، فنسب إليه . قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم ، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ . قوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ : أحدها : أنها متعلقة بـ " كُونُوا " ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهورٌ . الثاني : أن تتعلق بـ " رَبَّانِيِّينَ " لأن فيه معنى الفعل . الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لـ " رَبَّانِيِّينَ " ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و " ما " مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمينَ ، نظيره قوله : { ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ } [ الجاثية : 34 ] . وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك ؛ فإنه قال : و " ما " الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرطٌ ، وهو اتحاد المتعلَّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية . و " كُنْتُمْ " معناه " أنتم " كقوله : { مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] أي مَنْ هو في المهد . قوله : { تَعْلَمُونَ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو " تَعْلَمُونَ " مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحدٍ ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب . ويجوزُ أن لا يُراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبزَ ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه ، فالتضعيف فيه للتعدية . وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم ، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً ، فالوصْف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين ، والرباني يقتضي أن يَعْلَم ، ويُعَلَّمَ غيرَه ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه . ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ ، والأصل عدم الحذف - والتخفيف مُسوَّغ لذلك ، بخلاف التشديد ، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول . وأيضاً فهو أوفق لِـ " تَدْرُسُونَ " . والقراءتان متواترتان ، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى . وقرأ الحسن ومجاهدٌ " تَعَلَّمُونَ " - بفتح التاء والعين ، واللام مشددة - من تعلم ، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما . قوله : { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } كالذي قبله ، والعامة على " تَدْرُسُونَ " - بفتح التاء ، وضم الراء - من الدرس ، وهو مناسب " تَعْلَمُونَ " من علم - ثلاثياً . قال بعضهم : كان حق من يقرأ " تُعَلِّمون " - بالتشديد - أن يقرأ " تُدَرِّسُونَ " - بالتشديد وليس بلازمٍ ؛ إذ المعنى : صرتم تُعَلِّمون غيرَكم ، ثم تُدَرِّسُونَ ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي : تتلونه عليهم ، كقوله : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ الإسراء : 106 ] . قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الروايتين عنه - " تَدْرِسُونَ " - بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة ، يقال : دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع " درس " وقرأ هو - أيضاً - في رواية " تُدَرِّسُونَ " من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة " تَعْلَمُونَ " بالتخفيف . الثاني : أن التضعيف للتعدية ، ويكون المفعولان محذوفين ؛ لفهم المعنى ، والتقدير : تُدَرِّسُونَ غيركم العلم ، أي : تحملونهم على الدرس . وقُرِئَ " تُدْرِسُونَ " من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم ، وأنزل ونزّل . والدرس : التكرار والإدمان على الشيء . ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن ، يدرُسه ويدرِسه ، أي : كرر عليه ، ويقال درست الكتاب ، أي : تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس . ودَرَس المنزلُ : ذهب أثرُه ، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى . قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب " يَأمُرَكُمْ " والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة ، سهلة التخريج ، والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف . أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع ، والفاعل فيه احتمالان : أحدهما : هو ضمير الله - تعالى - . الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم . والمعنى : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل : لا يأمركم عيسى . وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً ، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير . والمعنى على عوده على " بَشَر " أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا ، فيُعْبَدَ ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله ، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه ، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك ، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى . وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ : أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم ، فقدروا " أن " مضمرة بعده وتكون " لا " مؤكِّدة لمعنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فـ " لا " للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ، ولا منه قيام . الثاني : أن يكون نصبه لنَسَقه على { أَن يُؤْتِيهُ } قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة . قال الواحديُّ : ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا ؟ فنزلت . الثالث : أن يكون معطوفاً على " يَقُولُ " في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ . قال ابن عطيةَ : " وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى " ، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ " ولا عدم التآم المعنى . قال أبو حيّان : " وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على " يَقُولَ " وجعل " لا " للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو " أن " - إلا قبل " لا " النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي بـ " لا " مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خَطَأ بيِّن . أما إذا جعل " لا " لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ ، ولا عدم التئام المعنى ؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً . ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ " غير " موضع " لا " فإذا قلتَ : ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ . كانت " لا " لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوَصْفان ، ولو جعلت " لا " لتأسيس النفي كانت بمعنى " غير " فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له ؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلتَ : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زادٍ ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زادٍ ، معناه أنك جئت بزاد ؛ لأن " لا " هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن يكون " لا " لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي بـ " لا " على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم " . وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف " يَأمُرَكُم " على " يَقُولَ " وجوَّزَ في " لا " الداخلة عليه وجهين : أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي . الثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : وقُرِئ { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب ؛ عطفاً على " ثُمَّ يَقُولَ " وفيه وجهان : أحدهما : أن تجعل " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } . والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ، ثم يهينني ولا يستخف بي . والثاني : أن يُجْعَل " لا " غير مزيدة ، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربًّا ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء . قال شهاب الدينِ : " وكلام الزمخشري صحيحٌ ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون " لا " لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ " . وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ . قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله . قال الواحدي : ومما يدل على الانقطاع من الأول قراءة عبد الله " وَلَنْ يَأمُرَكُمْ " . وقال الفرّاءُ : فهذا دليل على انقطاعها من النسق ، وأنها مُسْتأنفة ، فلما وقعت " لا " موقع " لن " رفعت كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ } [ البقرة : 119 ] وفي قراءة ، عبد الله : ولن تُسْأل . قال الزمخشريُّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله : " ولَنْ يَأمُرَكم " وقد تقدم أن الضمير في " يَأمُركُمْ " يجوز أن يعود على " الله " وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك . وسواء قرئ برفع { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } و بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على " يَقُولَ " فإن الضمير يعود على " بشر " لا غير ، [ ويؤيد هذا قولُ بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع لِـ " بشر " لا غير يعني بما قبله " ثُمَّ يَقُولَ " . ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على " الله " تعالى ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه ، والأول أوْلَى . قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في " يَأمُرُكُمْ " - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات ، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم ؛ جرياً على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطابٍ ، لا التفات فيه . قوله : { أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ } الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني أنه لا يفعل ذلك . قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } " بَعْدَ " متعلق بـ " يَأمُرُكُمْ " وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان ، نحو حينئذٍ ويومئذٍ . و { أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } في محل خفض بالإضافة ؛ لأن " إذْ " تضاف إلى الجملة مطلقاً . قال الزمخشريُّ : " بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ " دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْجُدُوا له .