Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 23-26)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بكونه : " حديثاً " في هذه الآية وفي قوله : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] وفي قوله : { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } [ الواقعة : 81 ] والحديث لا بدّ وأن يكون حادثاً بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه ( لا ) يصح أن يقال : هذا حديث وليس بِعَتيقٍ ، وهذا عَتِيقٌ وليس بحَدِيثٍ ، ولا يصح أن يقال : هذا عتيقٌ وليس بحادِثٍ فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحدوث . وسمي الحَدِيثُ حديثاً لأنه مؤلَّفٌ من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تَحْدثُ حالاً فحالاً وساعةً فساعةً . الثاني : قالوا بأنَّه تعالى وصفه بأنه أنْزَلَه والمُنْزَلُ يكون في مَحَلِّ تصرف الغير وما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ وحَادِثٌ . الثالث : قالوا : إن قوله : " أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ " يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أنّ قوله : " زَيد أفضل الإخوة " ( يقتضي أن يكونُ زيدٌ مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة الأُخُوَّة ) ويكون من جنسهم ، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ، ولما كان سائر الأحاديث حادثةً وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً . الرابع : قالوا : إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكَتِيبَة وهي الاجْتِمَاعُ ، وهذا يدل على كونه حادثاً . قال ابن الخطيب : والجوابُ أن نَحْمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والألفاظ والعبارات ، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق . فصل كَوْنُ القرآنِ أحسنَ الحديث إما أن يكون بحسب اللفظ وذلك من وجهين : الأول : أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجَزَالَة . الثاني : أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخُطَب ولا من جنس الرِّسالة بل هو نوعٌ يخالفُ الكلَّ مع أن كل ( ذِي ) طبعٍ سليمٍ يَسْتَلِذُّهُ ويَسْتَطِيبُهُ ، وإما أن يكون أحْسَن الْحَدِيث لأجل المعنى . وهو من وجوه : الأول : أنه كتاب منزه عن التناقض قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المُعْجِزَات . الثاني : اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمُسْتقبل . الثالث : أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً . وقد شرح ابن الخطيب منها أقساماً كثيرة . قوله : " كِتَاباً " فيه وجهان : أظهرهما : أنه بدل من : " أَحْسَنَ الْحَدِيثِ " . والثاني : أنَّه حال منه ، قال أبو حيانَ ، لمّا نقله عن الزمخشري : وكأنه بناه على أن " أحْسَنَ الْحَدِيثِ " مَعْرفة لإضافته إلى معرفة ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلافٌ ، فقيل : إضافتُهُ مَحْضَةٌ وقيل : غيرُ محضة . قال شهاب الدين : وعلى تقدير كونه نكرةً يحسن أيضاً أيضاً أن يكون حالاً ؛ لأن النكرة متى أضيفتْ سَاغَ مجيءُ الحال منها بلا خلاف ، والصحيح أن إضافة " أفْعَلَ " محضةٌ وقوله : " مُتَشَابِهاً " نعت " لكِتَابٍ " . وهو المسوِّغ لمجيء الجامد حالاً ، أو لأنه في قُوّة " مَكْتُوبٍ " ، أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مَثَانِيه . وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ . قوله : " مَّثَانِيَ " قرأ العامة مَثَانِيَ - بفتح الياء - صفة ثانية ، أو حالاً أخرى . وقرأ هشامٌ عن ابن عامر وأبو بِشر بسكونها ، وفيها وجهان : أحدهما : أنه تسكين حرف العلة استثقالاً للحركة عليه كقراءة : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، ( و ) ( قوله ) : @ 4296 - كَأَنَّ أَيْدِيهِنَّ … … @@ ونحوهما . والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هُوَ مَثَانِي . كذا ذكره أبو حيان ، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن ينون تحذف ياؤه لالتقاء السَّاكِنَيْنِ ، فيقال : مثانٍ كما تقول : هَؤُلاَءِ جَوَارٍ ، وقد يقال : إنه وقف عليه ثم أجْري الوصل مُجْرَى الوقف لكن يعترض عليه بأن الوقف على المنقوص المنون بحذف الياء نحو : هذَا قَاضٍ وإثباتها لغةً قَلِيلُ ، ويمكن الجواب عنه بأنه قد قرىء بذلك في المتواتر نحو : { من والي } [ الرعد : 11 ] و { بَاقي } [ النحل : 96 ] و { هادي } [ الرعد : 7 ] في قراءة ابن كَثِيرٍ . فصل تقدم تفسير الكتاب عند قوله : " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وقوله : " مُتَشَابِهاً " أي يشبه بعضهُ بعضاً ( في الحُسْن ويُصَدّق بعضهُ بعضاً ) ليس فيه تناقضٌ ولا اختلاف ، قاله ابن عباس ، وقوله : " مَّثَانِيَ " جمع " مَثْنَى " أي يُثَنَّى فيه ذكرُ الوَعْدِ ، والوعيد ، والأمر ، والنهي ، والأخبار والأحكام ، أو جمع " مَثْنَى " مفعل من التَّثْنِية بمعنى التَّكرير ، وإنما وصف كتاب وهو مفرد " بمَثَانِي " وهو جمع لأن الكتاب مُشْتَمِلٌ على سُوَةٍ وآياتٍ ، وهو من باب : بُرْمَةٌ أعْشَارٌ ، وثَوْبٌ أخْلاَقٌ . قاله الزمخشري . وقيل : ثَمَّ موصوف محذوف أي فصولاً مَثَانِيَ ، حذف للدلالة عليه ، وقال ابن الخطيب : إن أكثر الأشياء المذكورة زَوْجَيْن زَوْجَيْن مثل الأمر ، والنهي ، والعام ، والخاص ، والمجمل ، والمفصل ، وأحوال السموات والأرض والجنة والنار ، والضوء والظلمة ، واللوح ، والقلم ، والملائكة ، والشياطين ، والعرش ، والكرسيّ ، والوعد ، والوعيدن والرجاء والخوف والمقصود منه أن بيانَ كلِّ ما سَوى الحق زوج يدل على أن كل شيء ممثل بضدِّه ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو اللَّهُ تَعَالَى . قوله : " تَقْشَعِرُّ " هذه الجملة يجوز أن تكون صفة " لكتاب " وأن تكون حالاً منه لاختصاصه بالصفة ، وأن تكون مستأنفة ، واقشعر جلده إذا تَقَبَّض وتجمَّع من الخوف وقفَّ شعره ، والمصدر الاقْشِعْرَارُ والقُشَعْرِيرةُ أيضاً ووزن اقْشَعرَّ افْعَلَلَّ ، ووزن القُشَعْرِيرَة فُعَلِّيلَة . فصل قال المفسرون : تقشعر تضطرب وتشمئز { مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوَجَل والخوف ، وقيل : المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } ( أي لذكر الله ) . قيل : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال الله : { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] وحقيقة المعنى أن قلوبهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء . قال عليه ( الصلاة و ) السلام : " إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ منْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنَه ذُنُوبُهُ كَما يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا " ، وقال : " إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ " ، قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأنهم تقشعرُّ جلودهم وتطمئن قلوبُهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغَشَيَان عليهم إنما ذلك في أهل البِدَع وهو من الشيطان ، وعن عروةَ بن الزّبير قال : قلت لجدّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون إذَا قرىء عليهم القرآن ؟ ( قالت : كانُوا كَمَا نعتَهم الله عزّ وجلّ تَدْمَع أعينهُم وتَقْشَعرُّ جلودُهُمْ ، قال : فقلتُ لها : إن ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن ) خَرَّ أحدهُم مغشيًّا عليه فقالت : أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم . وعن ابن عمر أنه مرّ برجل من أهل العراق ساقطٍ فقال : ما بالُ هذا ؟ قالوا : إنه إذا قرىء عليه القرآنُ أو سَمع ذكرَ الله سَقَطَ فقال ابن عمر : إنّا لنخشى الله ( - عزّ وجلّ ) - وما نَسْقُط . وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم - . فصل قال الزمخشري : تركيب لفظ القُشَعْرِيرَة من حروف التَّقَشُّع وهو الأديمُ وضموا إليه حرفاً رابعاً وهو الراء ليكون رباعياً دالاً على معنى زائد ، يقال : اقشعرَّ جلده من الخوف ( إذا ) وقف شعره وهو مثل في شدة الخوف فإن قيل : كيف قال : " تَلِينُ إلى ذكر الله " فعداه بحرف " إلى " ؟ فالجواب : التقدير : تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس الإدراك . فإن قيل : كيف قال : إلى ذكر الله ولم يقل : إلى ذكر رحمة الله ؟ فالجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره ، وأما من أحبَّ الله لا لشيء سواه فهو المحب وفي الدرجة العالية فلهذا لم يقل : تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله وإنما قال : إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا بقوله : { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] . فإن قيل : لم ذكر في جانب الخوف قُشَعْرِيرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب ؟ فالجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعَرَض ومحل المكاشفات هي القلوب والأرواح والله أعلم . ثم إنه تعالى : لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : { ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ } فقوله " ذَلِكَ " إشارة إلى الكتاب وهو هُدَى الله وهو الذي شَرَحَ الله صدره ( أولاً ) لقبول الهداية ومن يضلل الله أي يجعل قلبه قاسياً مظلماً { فَما لَهُ مِنْ هَادٍ } . واعلم أن سؤالات المعتزلة وجوابها عن مثل هذه الآية قد تقدم في قوله : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] ونظائرها . قوله : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } الآية لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } وتقريره أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه لأنه محل الصباحة وصومعة الحواس ( والسعادة والشقاوة ) لا تظهر إلا فيه ، قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [ عبس : 38 - 42 ] . ويقال لمقدم القوم : يَا وَجْهَ الْعَرَبِ ، ويقال الطريق الدال على حال الشيء : إن وجه كذا هو كذا . فثَبَتَ بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه وإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه ، وإذا عرف هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداءً للوجه لا جَرَمَ حسن جعل الاتّقاء بالوجه كناية ( عن العجز ) عن الاتقاء ونظيره قوله النابغة : @ 4297 - وَلاَ عَيْبَ فِيهمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنّ فلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكتَائِبِ @@ أي لا عيبَ فيهم إلا هذا ، وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذَنْ بوجْهٍ من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتّة ، وقيل : إنه يُلْقَى في النار مغلولة يده إلى عنقه ، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، وتقدم الكلام على الإعراب . و " سوء العذاب " أشده ، وقال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، وقال عطاء : يرمى به في النار منكوساً ، فأول شيء يمس النار منه وجهه . قوله : " وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ " أي تقول الخزنة للظالمين : { ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي وباله . ولما بين كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال : { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني وهم آمنون غافلون عن العذاب أي من الجهة التي لا يخشون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منا ، { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وهو الذل والصغار والهوان ثم قال : { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني أنَّ أولئك وإن نزل بهم العذاب والخزي في الدنيا فالعذاب المدخر لهم يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا .