Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 127-127)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : يستَخْبِرُونك في النِّسَاء . قال الواحدي - رحمه الله - : الاستِفْتَاء : طَلَب الفَتْوَى ، يقال : اسْتَفْتَيْتُ الرَّجل في المَسْألة ؛ فأفْتَاني إفتاءاً وفُتْياً وفَتْوًى ، [ وهما ] اسمْان وُضِعَا موضع الإفْتَاء ، ويُقَال : أفْتَيْت فُلاناً في رؤيا رآهَا إذا عَبَّرها ، قال - تعالى - : { يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ } [ يوسف : 46 ] ، ومعنى : أفتنا : إظْهار المُشْكِل ، وأصْلُه : من الفَتَى : وهو الشَّابُّ القَوِي ، فالمعنى : كأنَّه يَقْوى بِفتيانِهِ ، والمُشْكِل إذا زَالَ إشْكَالُه بِبيَانِهِ مَا أشْكِل ، يصيرُ قويّاً فَتِيًّا . واعلم : أنَّ عَادَة اللَّه فِي ترتيب هذا الكِتَابِ الكَرِيمِ ، أنْ يَذكُر الأحْكَام ، ثَمَّ يذْكُرُ عَقِيبه آياتِ الوَعدِ والوَعِيدِ ، والتَّرغِيب والتَّرهيب ، ويخلط بها آياتٍ دَالةً على كِبْرِياء اللَّه - تعالى - وجلالِ قُدْرَتِه ، ثم يَعُود إلى بَيَان الأحْكَام ، وهذا أحْسَن أنواع التَّرْتِيب ، وأقوى تَأثِيراً في القُلُوب ؛ لأن التَّكْلِيف بالأعْمَال الشَّاقَّةِ لا يقع مَوْقِعِ القُبُول ، إلا إذا اقْتَرن بالوَعْد والوَعِيد ، وذلك لا يُؤثِّر إلا عند القَطْع بِغَايَةِ كَمَال من صَدَر عنه الوَعْد والوَعِيد . قوله [ تعالى ] : { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية اعلم : أن الاستِفْتَاء لا يقع عن ذَوات النِّساء ، وإنَّما يقع عن حَالةٍ من أحْوَالِهِنّ ، وصفة من صِفاتِهِن ، وتلك الحَالَة غير مَذْكُورة في الآية ، فكانت مُجْمَلة غير دَالَّة على الأمْر الذي وقع عَنْه الاستِفْتَاءِ . فصل في سبب نزول الآية قال القُرْطُبِي : هذه الآية نَزَلَت بسبب قَوْم من الصَّحَابة ، سألوا عن أمر النِّسَاء وأحْكَامِهِن في المِيرَاث وغير ذَلِك ، فأمَر اللَّه نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - أن يَقُول لَهُم : { ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } أي : يبيِّن لكم حُكْم ما سَألْتُم عَنْه ، وهذه الآيَة رُجوعٌ إلى ما افْتُتِحَتْ به السُّورة من أمْر النِّسَاءِ ، وكانَ قد بَقِيتْ لهم أحْكَام لم يَعْرِفُوها ، فسألوا ؛ فقيل لهُم : [ إن ] الله يُفْتيكُم فيهنَّ . [ وروي عن مَالِكٍ قَالَ : كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يُجيبُ حتى ينزل عليه الوحي ، وذلك في كِتَاب الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ } [ البقرة : 220 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [ البقرة : 219 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [ طه : 105 ] و { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] . " وما يُتْلى " : فيه سَبْعَة أوْجه ، وذلك أن مَوْضع " ما " يحتمل أن يكُون رفعاً ، أو نصباً ، أو جراً ، فالرَّفعُ من ثَلاَثة أوْجُه : أحدها : أن يكون مرفوعاً ، عَطْفاً على الضَّمِير المستكِنِّ في " يُفتيكم " العائد على الله - تعالى - ، وجاز ذلك للفَصْل بالمَفْعُول والجَارِّ والمَجْرُور ، مع أن الفَصْلَ بأحدهما كافٍ . والثَّانِي : أنه مَعْطُوفٌ على لَفْظِ الجلالة فَقَطَ ؛ ذكره أبو البقاء وغيرُه ، وفيه نَظَر ؛ لأنه : إمَّا أنْ يُجْعَلَ من عَطْف مفردٍ على مُفْردٍ ، فكان يَجِبُ أن يُثَنَّى الخَبرُ ، وإن توسَّط بين المُتَعَاطفين ، فيقال : " يُفْتِيانِكُم " ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجُوز ، ومَنِ ادَّعى جَوازَه ، يَحْتاج إلى سَمَاع من العَرَب ، فيقال : " زيد قَائِمَان وعَمْرو " ، ومثلُ هذا لا يجُوز ، وإمَّا أن يُجْعَلَ من عَطْف الجُمَل ، بمَعْنَى : أنَّ خبرَ الثَّاني محذوفٌ ، أي : وما يُتْلَى عَلَيْكُم ، يُفْتيكم ، فيكون هذا هو الوَجْه الثَّالث - وقد ذكروه - فَيَلْزَم التَّكْرَار . والثالث من أوْجُه الرَّفع : أنه رَفْع بالابْتِدَاء ، وفي الخبَر احْتِمَالان : أحدهما : أنه الجَارُّ بعده ، وهو " فِي الكِتَابِ " والمرادُ بـ " ما يتلى " القرآنُ ، وبـ " الكتاب " : اللوحُ المحفوظ ، وتكُونُ هذه الجُمْلَة معترضةً بين البدل والمُبْدَل منه ، على ما سيأتي بَيَانُه ، وفائدةُ الإخْبَار بذلك : تَعْظِيمُ المَتْلوِّ ، ورفعُ شأنه ؛ كقوله : { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] . والاحتمال الثاني : أن الخبر مَحْذُوفٌ ، أي : والمتلوُّ عَلَيْكم في الكتاب يُفْتيكم ، أو يبيِّن لَكُم أحْكَامَهُن . وذلك المَتْلُوّ في الكِتَاب هو قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } [ النساء : 3 ] وحَاصِل الكلام : أنَّهم قد سألُوا عن أحْوَال كَثِيرةٍ من أحْوالِ النِّسَاء ، فما كان مِنْهَا غير مُبَيَّن الحُكْم ، ذَكر أن اللَّه يُفْتِيهم فيها ، وما كان فِيهَا مُبَيَّن الحُكْم في الآيات المُتَقَدِّمَةِ ، ذكر أن تِلْك الآيَات المَتْلُوة تُفْتيهم فيها ، وجعل دَلاَلة الكِتَاب على الحُكْم إفتاء من الكتاب ؛ كما يُقَال في المَجَازِ المَشْهُور : كِتَاب اللَّه يُبَيِّن لنا هَذَا الحُكْم ، وكلام الزَّمخشري يحتمل جَمِيع الأوْجُه ، فإنه قال : " ما يُتْلى " في مَحَلِّ الرفع ، أي : اللَّهُ يُفْتيكُم ، والمتلوُّ في الكِتَاب في مَعْنَى : اليتامى ، يعني قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } [ النساء : 3 ] . وهو من قَوْلِك : " أعْجَبَنِي زَيْدٌ وكَرَمُه " انتهى ، يعني : أنَّه من باب التَّجْريد ؛ إذ المقصودُ الإخْبَارُ بإعجَاب كَرَم زيدٍ ، وإنما ذُكِر زَيْدٌ ؛ ليُفيدَ هذا المَعْنَى الخاصَّ لذلك المَقْصُود أنّ الذي يُفْتيهم هو المَتْلُوُّ في الكِتَابِ ، وذُكِرت الجَلاَلةُ للمعنى المُشَار ، وقد تقدَّم تَحْقِيق التَّجْرِيد في أوَّل البَقَرة ، عند قوله : { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } [ البقرة : 9 ] . والجَرُّ من وَجْهَيْن : أحدهما : أن تكُون الواوُ للقَسَم ، وأقسمَ اللَّهُ بالمَتْلُوِّ في شأن النِّساء ؛ تَعْظِيماً له ، كأنه قيل : وأقْسِمُ بما يُتْلى عَلَيْكُم في الكِتاب ؛ ذكره الزمخشري . والثاني : أنه عَطْفٌ على الضَّمِير المَجْرُور بـ " في " أي : يُفْتيكُمْ فيهنَّ وفيما يُتْلَى ، وهذا مَنْقُولٌ عن محمَّد بن أبي مُوسَى ، قال : " أفتاهم الله فيما سألُوا عنه ، وفيما لَمْ يَسْألوا " ، إلا أنَّ هذا ضَعِيفٌ من حَيْث الصِّنَاعةُ ؛ لأنه عطفٌ على الضمير المَجْرُورِ من غير إعَادَة الجَارِّ ؛ وهو رأي الكُوفيِّين ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاسِ فيه عند قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " ليس بِسَديدٍ أن يُعْطَفَ على المَجْرُورِ في " فيهنَّ " ؛ لاخْتِلاله من حيث اللَّفْظِ والمَعْنَى " وهذا سَبقَه إليه أبُو إسْحاق . قال [ الزجاج ] : وهذا بَعِيدٌ بالنِّسْبَة إلى اللَّفْظِ وإلى المَعْنَى : أمَّا اللَّفْظُ ؛ فإنه يقتضي عَطْفُ المُظْهَر على المُضْمَرِ ، وأما المَعْنَى : فلأنه ليس المُرادُ أنَّ اللَّهَ يُفْتيكم في شَأنِ ما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب ، وذلك غيرُ جَائزٍ ؛ كما لم يَجُزْ في قوله { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] يعني : من غير إعادةِ الجَارِّ . وقد أجَابَ أبو حيَّان عما ردَّ به الزَّمَخَشريُّ والزجاج ؛ بأن التَّقْدِيرَ : يُفْتيكم في مَتْلُوِّهِنَّ ، وفيما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب في يتامى النِّسَاء ، وحُذِف لدلالة قوله : { وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } ، وإضافةُ " مَتْلُو " إلى ضمير " هُنَّ " سائغةٌ ، إذ الإضافة إليهنَّ ، كقوله : { مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] لمَّا كان المَكْرُ يقع فيهما ، صَحَّتْ إضافتُه إليْهِمَا ، ومثله قول الآخر : [ الطويل ] @ 1885 - إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاَحَ بِسُحْرَةٍ سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا في الغَرَائِبِ @@ [ قال شهاب الدين ] : وفي هذا الجواب نظرٌ . والنَّصْبُ بإضمار فِعْل ، أي : ويبيِّن لَكُم ما يُتْلى [ عليكم ] ؛ لأنَّ " يُفْتيكُم " بمعنى يبيِّن لكم ، واختار أبو حيَّان وجْهَ الجرِّ على العَطْفِ على الضَّمير ، مختاراً لمَذْهَبِ الكوفيِّين قال : لأنّ الأوْجُه كلَّها تؤدِّي إلى التَّأكيد ، وأمَّا وَجْهُ العَطْفِ على الضمير [ المَجْرُور ] ، فيجعلُه تأسِيساً ، قال : " وإذا دار الأمْرُ بينهما ؛ فالتَّأسيس أوْلى " ، وفي إفْرَادِ هذا الوَجْهِ بالتَّأسيس دُونَ بَقِيَّةِ الأوْجُه نظرٌ لا يَخْفى . قوله : " فِي الكِتَابِ " يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ : أحدها : أنه مُتَعَلِّقٌ بـ " يُتْلى " . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في " يُتْلى " . والثالث : أنه خَبَر " مَا يُتْلى " عَلَى الوَجْه الصَّائِر إلى أنَّ " مَا يُتْلى " مبتدأ ، فيتعلق بمَحْذُوف أيضاً ، إلاَّ أنَّ مَحَلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ ، وعلى ما قَبْلَه نصبٌ . قوله : { فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ } فيه خَمْسة أوْجه : أحدُها : أنه بَدلٌ من " الكِتَاب " وهو بدلُ اشْتِمَالٍ ، ولا بد مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : في حُكْم يَتَامَى ، ولا شك أن الكِتابَ مشتملٌ على ذِكْرِ أحكامِهِن . والثاني : أن يتعلَّق بـ " يُتْلَى " . فإن قيل : كيف يجُوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جرٍّ بلفظ وَاحِدٍ ، ومعنى واحِدٍ ؟ فالجوابُ أنَّ مَعْنَاهما مُخْتَلفٌ ، لأن الأولى للظَّرْفية على بابها ، والثانية بمعنى البَاءِ ، للسببية مَجَازاً ، أو حقيقةً عِنْد مَنْ يقولُ بالاشتراك . وقال أبو البقاء : كما تَقُولُ : " جئتُك في يوم الجُمْعَة في أمْرِ زَيْدٍ " . والثالث : أنه بَدَل من " فِيهِنَّ " بإعادة العَامِل ، ويكون هذا بَدَل بَعْض من كُلٍّ . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " فإنْ قُلْت : بِمَ تعلَّق قوله : " في يتامى النِّسَاء ؟ " قلت : في الوَجْه الأوَّل هو صِلَةُ " يُتْلى " أي : يُتْلى عَلَيْكُم في مَعنَاهُنَّ ، ويجُوز أن يكُون " في يتامى " بَدَلاً من " فيهنَّ " ، وأما في الوَجْهَيْن الأخِيرَيْن فبدلٌ لا غير " انتهى ، يَعْنِي بالوجْه الأول : أن يكون " مَا يُتْلَى " مَرْفُوعَ المَحَلِّ . قال أبو حيَّان : " أمَّا ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة " يتلى " فلا يجُوزُ إلاَّ أنْ يكونَ بَدَلاً مِنْ " فِي الكِتَابِ " أو تكون " في " للسَّبَبية ، لئلا يتعلّق حَرْفا جر بلفظٍ واحد ، ومعنى واحد ، بعاملٍ واحدٍ ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في البَدَل والعَطْفِ ، وأمَّا تجويزُه أنْ يكونَ بَدَلاً من " فيهن " فالظاهرُ أنه لا يجُوز ؛ للفَصْلِ بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه بالمَعْطُوف ، ويصير هذا نظير قولك : " زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ ، وعمرو في كِسْرٍ مِنْهَا " فَفَصَلْتَ بين " فِي الدَّارِ " وبين " في كِسْرِ " بـ " عمرو " ، والمَعْهُودُ في مثل هذا التَّرْكيب : " زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ في كِسْرٍ منها وعمرو " . الرابع : أنْ يتعلَّق بنفس الكِتَاب أي : فيما كَتَب في حُكْم اليَتَامَى . الخامس : أنه حَالٌ فيتعلَّق بمَحْذوفٍ ، وصاحبُ الحالِ هو المَرْفُوعُ بـ " يُتْلى " أي : كائناً في حُكْم يتامَى النِّسَاء ، وإضافةُ " يَتَامى " إلى النِّساء من باب إضافةِ الخاصِّ إلى العَامَّ ؛ لأنهن يَنْقَسمْن إلى يتامَى وغَيْرِهِن . وقال الكُوفيُّون : هو من إضافة الصِّفَة إلى المَوْصُوف ؛ إذا الأصلُ : في النِّساء اليتامى كقولك : يوم الجمعة وحق اليقين ، وهذا عند البَصْريِّين لا يجُوزُ ، ويُؤوِّلُون ما وَرَدَ من ذَلِك ؛ ولأن الصفة والموصُوف شيء واحدٌ ، وإضافة الشيء إلى نفسه محَالٌ . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإنْ قُلْت : إضافة اليَتَامَى إلى النِّسَاء ما هِيَ ؟ قلت : هي إضافةٌ ، بمَعْنَى : " مِنْ " نحو : سُحْقِ عِمَامةٍ . قال أبو حيًّان : " والذي ذكره النَّحوِيُّون من ذلك [ إنَّما هُو ] إضافة الشَّيْء إلى جِنْسِه ، نحو : " خاتمُ حَدِيدٍ " ويجوزُ الفَصْل : إمَّا بإتباع ، نحو : " خاتمٌ حديدٌ " ، أو تنصبَه تَمْييزاً ، نحو : " خاتمٌ حديداً " ، أو بجره بـ " مِنْ " نَحْو : خاتم من حَديدٍ " ، قال : " والظَّاهِر أن إضافة " سُحْقِ عِمَامةٍ " و " يَتامَى النِّساء " بمعنى : اللام ، ومعنى اللام : الاخْتِصَاص " . وهذا الردُّ لَيْس بشيء ، فإنهم ذَكَروا [ في ] ضَابِط الإضَافة التي بِمَعْنى " مِنْ " أن تكونَ إضَافَة جُزْءٍ إلى كُلٍّ ، بشرطِ صِدْقِ اسمِ الكُلِّ على البعْضِ ، ولا شك أن " يَتَامَى " بَعْض من النِّسَاء ، والنِّسَاء يَصْدُق عَلَيْهِنَّ ، وتحرَّزْنَا بقولنا : " بشرط صِدْقِ الكُلِّ على البَعْض " من نحو : " يَدُ زَيْد " فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليَدِ وحْدَها . وقال أبو البقاء : { في يتامى النِّساء } [ أي : ] في اليتَامَى مِنْهُنَّ " وهذا تَفْسِيرُ معنى لا إعْرَابٍ . والجُمْهُور على " يَتَامَى " جمع : يَتيمَة . وقرأ أبو عَبْد الله المَدَنِي : " ييامى " بياءيْن مِنْ تَحْتُ ، وخرَّجه ابن جِنِّي : على أن الأصْل " أيامَى " فأبْدَلَ من الهَمْزَة ياءً ، كما قَالُوا : " فلانٌ ابنُ أعْصُر ويَعْصُر " ، والهَمْزَةُ أصلٌ ، سُمِّي بذلك لقوله : [ الكامل ] @ 1886 - أبُنَيَّ إنَّ أبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَهُ كَرُّ اللَّيَالِي واخْتِلاَفُ الأعْصُرِ @@ وهم يُبْدِلُون الهَمْزة من اليَاء ، كقولهم : " قَطَع الله أدَهُ " يريدون : يدَهُ ، فلذلك يُبْدِلون منها اليَاءَ ، و " أيامى " : جَمْع " أيِّم " بوزن : فَيْعِل ، ثم كُسِّر على أيَايِم ، كسيِّد وسَيَايِد ، ثم قُلِبَتِ اللاَّم إلى مَوْضِع العَيْنِ ، والعَيْن إلى مَوْضِعِ اللاَّم ، فصار اللَّفْظ " أيامى " ثم قُلِبت الكَسْرَةُ فتحةً ؛ لِخفَّتِها ، فتحركت الياءُ وانفتح ما قَبْلَها ، فقلبت ألفاً ؛ فصار : " أيامى " فوزنه فَيَالِع . وقال أبو الفَتْحِ أيضاً : ولو قيل إنه كُسِّر أيِّمٌ على فَعْلَى ، كسَكْرَى ، ثم كُسِّر ثانياً على " أيامى " لكان وجهاً حسناً ، وسيأتي تَحْقيق هذه اللَّفْظَةِ [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنكُمْ } [ النور : 32 ] . وقرئ : " ما كَتَبَ اللَّهُ لَهُنَّ " بتسمية الفَاعِلِ . فصل في سبب نزول الآية ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُول الآية قَوْلَيْن : الأوّل : أن العَرَب كانت لا تُورثُ النِّساء والصِّبْيَان شيئاً من المِيراثِ ؛ كما ذكرنا في أوَّلِ السُّورَةِ ، فنزلت هذه الآية في تَوْريثهم ، قال ابن عبَّاسٍ : يريد ما فَرَضَ لَهُنَّ من المِيرَاثِ . الثاني : أن الآية نزلت في تَوْفِية الصَّداق لَهُنَّ ، وكانت اليتيمَةُ تكون عند الرَّجُلِ ، فإن كانت جَمِيلةً ومَالَ إلَيْهَا ، تزوَّجَ بها وأكَلَ مالها ، وإن كانت ذَمِيمَةً ، منعها الأزْوَاجَ حتى تَمُوتَ ، فأنزل اللَّه هذه الآية . قوله : " وتَرْغبون " فيه أوْجُه : أحدُها : - وهو الظاهر - أنه مَعْطُوفٌ على الصِّلةِ ، عطف جملةٍ مُثْبَتةٍ على جُمْلةٍ منفية ، أي : اللاَّتي لا تُؤتُونَهُنَّ ، واللاًّتي ترغبُون أن تَنْكحوهُنَّ ؛ كقولك : " جاء الَّذِي لا يَبْخَلُ ، ويُكْرِم الضِّيفَان " . والثاني : أنه مَعْطُوفٌ على الفِعْلِ المَنْفِيِّ بـ " لا " أي : لا تؤتُونَهُن ولا تَرْغَبُون . والثالث : أنه حَالٌ من فاعِل " تؤتونهن " أي : لا تؤتُونَهُنَّ ، وأنتم رَاغِبُون فِي نِكاحِهِنَّ ، ذكر هذين الوجْهَيْن أبو البقاء ، وفيهما نَظَر : أمّا الأولُ : فلخلافِ الظَّاهِر ، وأما الثَّانِي : فلأنه مُضَارع فلا تَدْخُل عليه الواوُ إلا بِتَأويلٍ لا حَاجَة لنا بِهِ هَهُنَا . و " أن تَنْكِحُوهُنَّ " على حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ ، ففيه الخلاف المَشْهُور : أهي في محل نَصْب أم جر ؟ واختُلِفَ في تَقْدير حرف الجَرِّ . فقيل : هو " في " أي : تَرْغبُون في نِكَاحِهِنَّ ؛ لقُبْحهن وفَقْرهنَّ ، وكان الأوْلِيَاء كذلك : إن رَأوها جَمِيلَةً مُوسِرَةً ، تزوجها وَليُّها ، وإلاَّ رغبَ عَنْها ، والقَوْل الأوَّل مَرْوِيٌّ عن عَائِشَة وطَائِفَة كَبِيرةٍ . قال أبو عُبَيْدَة : هذه الآية [ تَحْتَمِل ] الرَّغْبَة والنَّفْرَة . فإن حَمَلْته على الرَّغبة ، كان المعنى : وتَرْغَبُون أن تَنْكِحُوهُنَّ . وإن حملته على النَّفْرة ، كان المَعْنَى : وترغبون عن أن تنكحوهن ؛ لدمامتهن . فإن قيل : إن النحاة ذكروا أن حَرْف الجَرِّ يجوز حذفُه باطِّرادَ مع " أنْ " و " أنَّ " بِشَرْط أمْنِ اللَّبْس ، يعني : أن يكون الحَرْفُ متعيّناً ، نحو : " عَجبْت أن تَقُوم " أي : من أن تَقُوم ، بخلاف " مِلْتُ إلى أنْ تَقُوم " أو " عَنْ أنْ تَقُوم " والآيةُ من هذا القَبِيل . فالجواب : أن المَعْنَييْن هُنا صَالِحَان ؛ يدل عليه ما ذَكَرْت لك من سَبب النُّزُولِ ، فصار كلٌّ من الحَرْفَيْن مراداً على سَبِيل البَدَل . فصل مذهب الأحْنَاف فيمَن له ولاية الإجبار استدل الحَنَفِيَّة بهذه الآيَة ، على أنَّه يَجُوز لغير الأب والجَدِّ تزويج الصَّغيرة ، ولا حجَّة لهم فيها ؛ لاحْتِمَال أن يكون المُرَادُ : وتَرْغَبُون أن تُنْكِحُوهُن إذا بَلَغْن ، ويدل على صِحَّة قَوْلِنا : " إن قُدَامة بن مَظْعُون زَوَّج ابْنَة أخيه عُثْمَان بن مَظْعُون من عَبْد الله بن عُمَر ، فخطبها المُغِيرَة بن شُعْبَة ، ورغَّب أمَّهَا في المَالِ ، فجاءوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قُدَامَةُ : أنا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أبيهَا ، فقال النَّبِيُّ - عليه الصلاة والسلام - : إنَّها صَغِيرة ولا تُزَوَّج إلا بإذنِها " وفرَّق بَيْنَها وبين ابْن عُمر ، وليس في الآيَة أكْثَر من رغْبَة الأوْلِيَاء في نِكَاحِ اليَتيمَةِ ، وذلك لا يَدُلُّ على الجَوَازِ . [ قوله : " والمستضعفين " فيه ثلاثة أوْجُه : أظهرُهَا : - أنه مَعْطُوفٌ على " يَتَامَى النِّسَاء " أي : ما يُتْلَى عَلَيكُم في يَتَامَى النِّسَاء وفي المُسْتَضْعَفِين ، والذي تُلِي عَلَيْهِم فيهم قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] ، وذلك أنَّهُم كانوا يَقُولون : لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يَحْمِي الحَوْزَة ، ويَذُبُّ عن الحَرَمِ ، فيَحْرِمُون المَرْأةَ والصَّغِيرَ ؛ فنزلت ] . { والمُسْتضعَفِين من الوِلْدَان } وهم الصِّغَار ، أن تُعْطُوهم حُقُوقَهُم ؛ لأنَّهم كانوا لا يُورثون الصِّغَار ، يريد ما يُتْلَى عليكم في باب " اليَتَامَى " من قوله : { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] ، يعني : إعطاء حقوق الصِّغار . والثَّاني : أنَّه في مَحَلِّ جر ، عَطْفاً على الضَّمِير في " فيهن " ؛ وهذا رأيٌ كوفِيّ . والثالث : أنه مَنْصُوبٌ عطفاً على مَوْضِع " فيهن " أي : ويبيِّن حال المستضعفين . قال أبو البقاء : " وهذا التَّقْدِيرُ يَدْخُلُ في مَذْهَب البَصريِّين مِنْ غيرِ كَلَفَةٍ " يعني : أنه خَيْرٌ من مَذْهَب الكُوفيين ، حيث يُعْطَفُ على الضَّمِير المَجْرُور مِنْ غَيْرِ إعادَةِ الجَارِّ . قوله : " وأنْ تقوموا " فيه خَمْسَةُ أوجه : الثلاثة المتقدمة قَبْله ، فيكون هو كَذَلِك لِعطْفِه على ما قَبْلَه ، والمتلوُّ عليهم في هذا المَعْنَى قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] . والرابع : النَّصْبُ بإضمار فعل . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً بإضْمار " يأمُرُكُم " ، بمعنى : ويأمركم أن تقُومُوا ، وهو خِطَابٌ للأئمة بأنْ يَنْظُروا إليْهِم ، ويَسْتَوْفُوا لهم حُقُوقَهم ، ولا يَدَعُوا أحداً يَهْتَضِمُ جَانِبَهُم " ، فهذا الوَجْه من النَّصْب غيرُ الوَجْهِ المذْكُور قَبْلَه . والخامس : أنه مُبْتدأ ، وخبره مَحْذُوفٌ ، أي : وقيامُكم لليتامَى بالقِسْطِ خيرٌ لَكُم ، وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ ، والمعنى : أن تقوموا لليتَامَى بالقِسْطِ ، أي : بالعَدْل فِي مُهُورِهِن ، ومواريثهِن . ثم قال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } يجازِيكُم به .