Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 12-12)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنَّ أقسام الوراثة ثلاثة : قسم لا يسقط بحال وهم : الآباء والأولاد والأزواج قسمان ، والثَّالِثُ هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوَّلين لأنه قد يعرض لهم السُّقوط بالكليَّة ، ولأنَّهم يدلون إلى الميِّتِ بواسطة ، والقسمان الأوَّلان يدلون بأنفسهم فقدَّمَ اللَّهُ تعالى الوارث بالنَّسب ؛ لأنَّهُ أعلاها ثمَّ ثنى بذكر الوارث بالسَّبب الَّذي لا يسقط بحال ، لأنَّهُ دون الأوَّلِ وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثَّالث بعدهما ؛ لأنَّهُ دونهما ، ولما جعل نصيب الذَّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرَّجُلِ مثل حظِّ الأنثيين في الوارث السببي فقال { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ } وسواء كان الولد من الزوج ، أو من غيره وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى ، ولا فرق بين الأوَّلادِ وأولاد الأولاد . فصل : الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها ذهب الشافعيُّ وأحمدُ إلى أنَّهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أن يغسل زوجته لقوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } فسمَّاها زوجة بعد الموت . قال أبو حنيفة : لا يَجُوزُ ؛ لأنَّهَا ليست زوجة ؛ لأنَّهُ لا يحلُّ وطؤها بعد الموت . وأجيب بأنَّها لو لم تكن زوجة لكان قوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } مجازاً ، وقد ثبت أنَّ التَّخْصيص اولى من المجاز عند التَّعارُضِ ، وأيضاً فقد حَرُمَ الوطء في صورٍ كَثِيرَةٍ مع وجود الزوجيَّة كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان ، وعند الصّلوات المفروضة ، والحج المفروض . ثمَّ قال : { فلهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن } وسواء كانت واحدة أو أربعاً فهم فيه سواء ، وهذه الآية تدلُّ على فضل الرَّجل على المرأة لتفضيلهم في النَّصِيبِ ، ولأنَّهُ ذكر الرِّجَالَ على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة . قوله : { وإن كان رجل يورثه كلالة } اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى { ٱلْكَلاَلَةِ } واشتقاقها ، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك ، فتقول : اختلف الناس في معنى { ٱلْكَلاَلَةِ } فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد ، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ . وقيل : الَّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر . وقيل : الَّذي لا ولد له فقط . وقيل : هو من لا يرثه أبٌ ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت . وقيل : الكَلاَلَةُ : الورثة ما عدا الأبوين والولد ، قاله قُطْرب ، وهو اختيار أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وسموا بذلك ؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة ، أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن . وأيضاً يقال : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد ، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه . وأيضاً يقال : كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً : إذا أعيا وذهبت قوَّته ، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة ، من غير أولاد لبعدها . وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } [ النساء : 176 ] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ ، وهما لا يرثانِ مع وجود الأب . " وروى جابر قال : مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ : يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة " وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد ، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ . وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال : " سألت رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها ، ضرب بيده صدري وقال " يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ " وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك ؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً . وقيل : { ٱلْكَلاَلَةِ } : المالُ الموروث ، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ . وقيل : { ٱلْكَلاَلَةِ } القرابة ، وقيل : الوراثة . فقد تلخص مما تقدم أنَّها [ إمَّا ] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ ، أو المال الموروثُ ، أو الإرْث ، أو القرابة . وأما اشتقاقها : فقيل : هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء ، أي : أحاط به ، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ ، أي : يحيط به كالإكْليلِ . ومنه " الروضة المكللة " أي : بالزَّهْرِ ، وعليه قول الفرزدق : [ الطويل ] @ 1765 - وَرِثْتُمْ قَنَاةَ المَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ @@ وقيل : اشتقاقها من " الكلال " وهو الإعْيَاء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : و " الكلالة " في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء . قال الأعشى : [ الطويل ] @ 1766 - فَآلَيْتُ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّدَا @@ فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة ، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن " فَعَالة " ، قال : " كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ " . ويقال : رجل كلالة ، وامرأةٌ كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة . إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله ، فتقول : يجوز في " كان " وجهان : أحدهما : أن تكون ناقصة و " رجل " اسمها ، وفي الخبر احتمالان : أحدهما : أنه " كلالة " إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل : إنَّها الوارث ، أو غير ذلك ، فَتُقَدَّر حذف مضاف ، أي : ذَا كلالة ، و " يورث " حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة لـ " رجل " وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول ، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أُقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ ، وهو ضمير الرَّجُلِ . والثَّاني : محذوف تقديره : يورث هو مَالَهُ ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من " ورث " الثُّلاثي أو " أورث " الرُّبَاعيُّ ؟ . فيه خلافٌ ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهٌُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [ المفعول ] الأوَّلِ من المفعولين بـ " من " فإنَّهُ قال [ وإن كان رجل يورث من كلالة ] و " يورث " من وَرِثَ أي : يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى بـ " مِنْ " . [ قال : ] وقد تُحْذَفُ ، تقولُ : " وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ " أي : مِنْ زيد ، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ " أورث " جعل الرَّجُلَ وارثاً لا موروثاً ، فإنَّهُ قال : " فإنْ قلتَ : فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من " أورث " فما وَجْهُهُ " . قلتُ : الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ " . وقال أبُو حيَّان : إنَّهُ من " أورث " الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ . الاحتمالُ الثَّاني : أن يكون الخبرُ الجملة من " يورث " . وفي نَصْبِ { كَلاَلَةً } أربعةُ أوْجُهٍ : أحدها : أنَّهُ حال من الضمير في " يورث " ، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ ، أو الوارثُ ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ ، أي : يُورث ذا كَلاَلَةٍ ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في { يُورَثُ } . قال أبُو البَقَاءِ : على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ " كلالةٌ " بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في { يُورَثُ } لجاز ، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به ، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ . يعني بكونها صفةً : أنَّهَا صفةٌ لـ " رَجُل " . الثَّاني : أنَّهَا مفعولٌ من أجله ، إنْ قيل : إنَّهَا بمعنى القرابة ، أي : يُورَثُ لأجل الكلالة . الثَّالثُ : أنَّهُ مفعول ثَانٍ لـ { يُورَثُ } إن قيل : إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ . الرَّابعُ : أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، إن قيل : إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ ، أي : يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ . وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره : " ذَات كَلاَلَةٍ " . الوجه الثَّاني من وجهي " كان " أن تكون تَامّةً ، فيُكْتَفى بالمرفوع ، أي : وَإن وُجِدَ رجل . و { يُورَثُ } في محلِّ رفع صِفَةٍ لـ " رَجُل " و { كَلاَلَةً } منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال ، أو المفعول من أجله أو المفعول به ، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها ، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ ، وهو أن تَكُونَ { كَلاَلَةً } منصوبة على التمييزِ . [ قال مَكِّيٌّ : " كان " أي : وقع ، و { يُورَثُ } نعت للرَّجُل و " رجل " رفع بـ " كان " و { كَلاَلَةً } نصب على التفسير ] . وقيل : هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين ، وفي جعلها تَفْسيراً - أي : تمييزاً - نظرٌ لا يَخْفى . وقرأ الجمهور : { يُورَثُ } مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه . وقرأ الحسن : يورث مبنيّاً للفاعل ، ونُقِلَ عنه أيضاً ، وعن أبي رَجَاءَ كذلك ، إلاَّ أنَّهما شدَّدا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح مِمَّا تقدَّم ، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ ، فيكون المفعولان محذوفين ، و { كَلاَلَةً } نَصْبٌ على الحال ، أي : وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً . وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة ، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله ، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره ، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً ، والأوَّلُ محذوفٌ أي : يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس ، أي : يُورِثُ مالَه أهلَه . قوله : { أَو ٱمْرَأَةٌ } عطف على { رَجُلٌ } وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التَّقديرُ : أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً ، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس ، إلاَّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ . وقوله : { وَلَهُ أَخٌ } جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا { رَجُلٌ } أي : إنْ كان { يُورَثُ } صفةً له ، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في { يُورَثُ } وَوَحَّدَ الضمير في قوله : " وله " ؛ لأنَّ العطف بـ " أو " وما ورد على خلاف ذلك أوِّلَ عند الجمهور كقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [ النساء : 135 ] . فإن قيل : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ } ثم قال { وَلَهُ أَخٌ } فهي عن الرَّجُلِ ، وما هي عن المرأة ، فما السَّبَبُ فيه ؟ . فالجوابُ : قال النُّحَاةُ : إذا تقدَّمَ متعاطفان بـ " أو " مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار ، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ ، فتقول : " زيدٌ أو هندُ قامَ " وَإنْ شئت : " قَامَتْ " . وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه : أحدُهَا : أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به . الثَّانِي : أنَّهُ يعود على أحدهما ، ولفظ " أحَد " مفردٌ مذكَّرٌ . والثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على الميِّت ، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه ، والضَّمير في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان : أحدُهُمَا : أنَّهُ يعود على الأخ والأخت . والثَّانِي : أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه وأخته ، إذا أُريد بالرَّجُلِ في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ . قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه - : " فإن قلتَ : فالضَّمِيرُ في قوله : { فلكل واحد منهما } إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ ؟ . قلت : على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه ، أو أخته ، وعلى الأوَّل إليهما . فإن قُلْتَ : إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى ، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه ؟ . قلتُ : نَعَمْ ، لأنك إذا قلتَ : السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير ، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى " . انتهى . وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك ، وهو كون للأخت النّصف ، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين ، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ . وقرأ أبيٌّ " أخ أو أخت من الأم " . وقرأ سعد بن أبي وقاص " من أم " بغير أداة التَّعريف . قوله : { فَإِن كَانُوۤاْ } الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } والمرادُ الذُّكورُ والإناث ، وأتى بضمير الذُّكور في قوله : { كَانُوۤاْ } وقوله : { خَلْفِهِمْ } تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ ، و " ذلك " إشارةٌ إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد ؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال : " هذا أكثرُ من واحد " بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه ، وتقدَّمَ إعراب { من بعد وصية يوصى بها } . فصل : في أثر عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال أبو بكر الصّديق - رضي الله عنه - في خطبته : ألا إنَّ الآيةَ التي أنزل اللَّهُ - تعالى - في أوَّل سورة النِّسَاءِ في بيان الفرائضِ أنزلها في الوَلَدِ ، والوالد والأمِّ ، والآية الثَّانية في الزَّوْجِ والزَّوجة والإخوة من الأمِّ ، والآية الَّتي ختم بها سورة النساء في الإخوة ، والأخوات من الأب والأمِّ ، والآية التي ختم بها سورة الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] . قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } " غير " نَصْبٌ على الحال من الفاعل في " يوصَى " ، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } ، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث ، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام ، كما دلَّ عليه في قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] ، أي : تَرَكَهُ الموروث ، فصار التقدير : يوصَى بها الموروثُ ، وهكذا أعْرَبَه الناس فجعلوه حالاً : الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره . وَردَّهُ أبو حيَّان ، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال وعامِلها بأجنبيِّ منهما ، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها { يُوصَىٰ } كما تقرَّرَ . وقوله : { أَوْ دَيْنٍ } أجنبي ؛ لأنَّهُ معطوف على { وَصِيَّةٍ } الموصوفة بالعامل في الحال . قال : ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب : { من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين } . وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني ناء الفعلِ للفاعل ، أو المفعول ، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهاً آخَر ، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور ؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل ، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه ، ألا ترى أنَّكَ لو قلت : " ترسل الرياح مبشراً بها " بكسر الشين يعني " يرسل الله الرياح مبشراً بها " فحذفت الفاعل ، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ ، فكذلك هذا ، ثم خَرَّجه على أحد وجهين : إما بفعل يَدُلُّ عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن ، وتقديره : يلزمُ ذلك مالَهُ ، أو يوجبه [ فيه ] غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب . وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه ، أي : يوصي غير مُضارٍّ ، فيصيرُ نظير قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] على قراءة من قرأ بفتح الباء . فصل اعلم أنَّ الضّرار في الوَصِيَّةِ يقعُ على وجوهٍ : منها : أن يوصي بأكثر من الثُّلُثِ ، أو يُقِرَّ بكلِّ ماله ، أو ببعضه لآخر ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقةَ له دَفْعاً للميراث عن الورثة ، أو يُقِرَّ بأنَّ الدّين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه ، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص ، أو يشتري شيئاً بثمن غالٍ ، كلُّ ذلك لغرض ألاَّ يصلَ المالُ إلى الورثة ، أو يوصي بالثُّلُث لا لوجه اللَّهِ ولكن لغرض تنقيص حقوق الورثةِ ، فهذا هو [ وجه ] الإضرار في الوصيةِ . روى عكرمة عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ " ، وعن شَهْر بْنِ حَوْشَب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإذَا أوْصَى وَجَارَ فِي وَصِيَّتِه خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِشرِّ عَمَلِهِ ؛ فَيدخُل النَّارَ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ " وقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فَرَضَهُ اللَّهُ - تعالى - قَطَعَ اللَّهُ - تعالى - مِيراثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ " ويدلُّ على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } [ النساء : 13 ] قال ابنُ عبَّاسٍ : في الوصيَّةِ { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ النساء : 14 ] قال : في الوصِيَّةِ . فصل هل يجب إخراج الزكاة والحج من التركة ؟ قال الشَّافِعِيُّ : إذَا أخَّرَ الزَّكاةَ والحج حتَّى مات يجب إخراجهما من التَّركة . وقال أبو حَنِيفَةَ : " لا تجب " . حجَّةُ الوجوب أنَّهَا دينٌ ، وقال تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } . وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : " أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْنٌ " وقال عليه السلام : " دينُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى " . قوله : { وَصِيَّةٍ } في نصبها أربعة أوجه : أحدها : أنَّهُ مصدرٌ مؤكَّد ، أي : يوصيكم اللَّهُ [ بذلك ] وَصِيَّة . الثَّاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } قاله ابنُ عَطِيَّةَ . والثَّالِثُ : أنَّهَا منصوبةٌ على الخروج إمَّا مِنْ قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ } ، أو من قوله : { لِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ } ، وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين . والرَّابعُ : أنَّها منصوبةٌ باسم الفاعل وهو { مُضَآرٍّ } والمُضَارَّة لا تقع بالوصيَّةِ بل بالورثة ، لكنَّه لَمَّا وَصَّى اللَّهُ - تعالى - بالورَثَة جَعَلَ المُضَارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مُبَالَغةً في ذلك ، وَيُؤيَّدُ هذا التخريج قراءة الحسن : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ } بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وَصَارَ نظير قولهم : " يا سارِقَ الليلةَ " ، التقدير : يا سارقاً في اللَّيْلة ، ولكنَّهُ أضاف اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً ، فكذلك هذا أصله : " غير مضار في وصية من الله " ، فاتُّسعَ في هذا إلى أنَّ عُدَّيَ بنفسه من غير واسطةٍ ، لما ذكرنا من قَصْد المبالغة ، وهذا أحْسَنُ تخريجاً من تخريج أبي البَقَاءِ فإنَّهُ ذكر في تخريج قراءة الحَسَنِ وجهين : أحدهما : أنَّهُ على حذف " أهل " أو " ذي " أي : غير مضارِّ أهل وصيَّةٍ ، أو ذي وَصِيَّة . والثَّاني : على حذف وقت ، أي : وقت وصيَّة ، قال وهو مِنْ إضافَةِ الصِّفة إلى الزَّمانِ ، ويقرب من ذلك قولهم : هو فارسُ حربٍ ، أي : فارس في الحرب ، وتقولُ : هو فارسُ زمانه ، أي : فارس في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضارٍّ في وقت الوصيَّة . ومفعول { مُضَآرٍّ } محذوفٌ إذا لم تُجعَلْ { وَصِيَّةً } مفعولةً ، أي : غير مضارٍّ وَرَثتِهِ بوصيَّةِ . فَإنْ قيل : ما الحكمةُ في أنَّهُ ختم الآية الأولى بقوله : " فريضة من الله والله عليم حليم " وختم هذه الآية بقوله : " وصية من الله " ؟ فالجوابُ : أنَّ لفظ الفرض أقوى وأؤكد من لفظ الوَصِيَّةِ ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصيَّةِ ليدلَّ بذلك على أنَّ الكلَّ ، وإن كان واجب الرِّعاية ، إلاَّ أن رعاية حال الأولاد أولى وأقوى ، ثم قال : { والله عليم حليم } عليم بمن جار أو عدل في وصيته " حليم " على الجائر لا يعالجه بالعقوبة وهذا وعيدٌ .