Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 153-158)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وذلك أن كَعْبَ بنَ الأشْرَف ، وفنحَاصَ بن عَازُورَاء من اليَهُودِ قالا لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم : إن كُنْتَ نَبِيّاً فأتِنَا بكِتَابٍ جُمْلةً من السَّماءِ ؛ كما أتَى [ به ] مُوسى - عليه السلام - ، فأنزل الله - تعالى - : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } . وكان هذا السُّؤال مِنْهُم تَحَكُّماً واقْتِرَاحاً ، لا سُؤال انْقِيَادٍ ، واللَّه - تعالى - لا يُنَزِّل الآيَاتِ على اقْتِرَاحِ العِبَادِ ، والمَقْصُود من الآيَةِ : بيان ما جَبِلوا عليه من التَّعنُّتِ ؛ كأنه قِيلَ : إن مُوسَى لمَّا نزلَ عليه كِتَابٌ من السَّمَاءِ ، لم يكْتَفُوا بِذلكَ القَدْر ، بل طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤيَة على سَبِيلِ المُعَايَنَةِ ، فكان طَلَبُ هؤلاءِ الكِتَاب لَيْس لأجْلِ الاسْتِرْشَادِ ، بل لمَحْضِ العِنَادِ . قوله : " فَقَدْ سَأَلُوا " : في هذه الفاءِ قولان : أحدهما : أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة ، قال ابن عطيَّة : " تقديره : فلا تبال ، يا محمَّد ، بسؤالِهِم ، وتشطيطهم ، فإنها عادُتُهمْ ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك . والثاني : أنها جوابُ شرطٍ مقدَّر ، قاله الزمخشريُّ أي : إن استكْبَرْتَ ما سألوه منْكَ ، فقد سَألُوا " ، و " أكْبَرَ " صفةٌ لمحذوف ، أي : سؤالاً أكْبَرَ من ذَلِكَ ، والجمهور : " أكبرَ " بالباء الموحدة ، والحسن " أكْثَرَ " بالثاء المثلثة . ومعنى " أكْبَر " أي : أعْظَم من ذَلِك ، يعني : السَّبْعِين الَّذِين خَرَجَ بِهِمْ [ مُوسَى ] إلى الجَبَلِ ، { فقالُوا : أرِنا اللَّه جَهْرَةً } أي : عِياناً ، فقولهم : " أرِنَا " جُمْلَة مفَسِّرة لِكبَرِ السُّؤال ، وعِظَمِه . [ و " جَهْرَةَ " تقدَّم الكلام عليها ، إلا أنه هنا يجوز أن تكون " جَهْرَةً " من صفةِ القوْلِ ، أو السؤالِ ، أو مِنْ صفةِ السائلين ، أي : فقالوا مجاهِرِين ، أو : سألوا مجاهرينَ ، فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أو على المَصْدر ، وقرأ الجمهور " الصَّاعِقَةُ " . وقرأ النَّخَعِيُّ : " الصَّعْقَةُ " وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة والباء في " بِظُلْمِهِمْ " سببيةٌ ، وتتعلَّق بالأخْذ ] . قوله : { ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ } يعنى : إلهاً ، { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } وهي الصَّاعِقَة ، وسمَّاها بَيِّنَاتٍ - وإن كَانَتْ شَيْئاً وَاحِداً ؛ لأنها دالَّةٌ على قُدْرَة الله - تعالى - ، وعلى عِلْمهِ وعلى قدمِهِ ، وعلى كَوْنهِ مُخَالِفاً للأجْسَامِ والأعْرَاضِ ، وعلى صِدْق مُوسَى . وقيل : " البَيِّنَات " إنْزَال الصَّاعِقَةِ وإحْيَاؤُهُم بعد إمَاتَتِهم . وقيل : المُعْجِزَاتُ التي أظْهَرَها لِفِرْعَوْن ، وهي العَصَا ، واليَدُ البَيْضَاءُ ، وفَلْقُ البَحْرِ ، وغيرها من المُعْجِزَات القاهرة . ثم قال : { فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ } ولم نَسْتَأصِلْهُم . قيل : هذا اسْتِدْعَاءٌ إلى التَّوْبَة ، مَعْنَاه : أن أولئك الَّذِين أجْرَمُوا تَابُوا ، فَعَفَوْنَا عَنْهُم ، فتُوبوا أنْتُم حتى نَعْفُوا عَنْكُم . وقيل : مَعْنَاه : أن قَوْم مُوسَى - وإن كَانُوا قَدْ بَالَغُوا في اللِّجَاجِ والعِنَادِ ، لكنا نَصَرْنَاهُ وقَرَّبْنَاهُ فعَظم أمْرُه وضَعُفَ خَصْمُه ، وفيه بِشَارَةٌ للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على سبيلِ التَّنْبِيهِ والرَّمْزِ ، وهو أنَّ هؤلاء الكُفارِ وإن كانوا يُعَانِدُونه - فإنَّه بالآخِرَة يَسْتَوْلي عَلَيْهم ويَقْهَرُهُم . ثم قال [ - تعالى - ] : { وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي : حُجَّة بَيِّنَة ، وهي الآيات السَّبْع . قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } [ في " فوقهم " : وجهان : أظهرهما أنه متعلق بـ " رَفَعْنا " ، وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور . و " بميثاقهم " متعلقٌ أيضاً بالرفع ، والباءُ للسببية ، قالوا : وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه : بنقض ميثاقهم ] . [ و ] قال بَعْضُ المفَسِّرين : إنهم امْتَنَعُوا من قُبُول شَرِيعَة التَّوْرَاةِ ، ورفع الله الجَبَل فَوْقَهُم حَتَّى قَبِلُوا ، والمعنَى : ورفَعْنَا فَوْقَهُم الطُّورَ ؛ لأجْلِ أن يُعْطُوا المِيثَاقَ بقُبُول الدِّين . وقال الزمخشريُّ : " بِمِيثَاقِهِمْ : بسبب ميثاقهم ؛ ليخافوا فلا ينقضُوه " وظاهر هذه العبارة : أنه لا يُحْتَاجُ إلى حذْفِ مضاف ، بَلْ أقول : لا يجُوزُ تقدير هذا المضافِ ؛ لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق ، فرَفَعَ اللَّهُ الطُّورَ عليهم ؛ عقوبةً على فعلِهِمُ النقضَ ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق ، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطُور ، فخافُوا فلم يَنْقُضُوهُ ، [ وإن كانوا قد نَقَضُوه ] بعد ذلك ، وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاقَ ، وأنه تعالى رفع الطُّور عقوبةً لهم فقال : " تقديرُه : بنَقْضِ ميثاقِهِمْ ، والمعنى : ورَفَعْنَا فوقَهُمُ الطُّور ؛ تخْويفاً لَهُمْ بسبب نقْضِهِم الميثاق " ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم ، ولقائلٍ أن يقول : لمَّا هَمُّوا بنقْضه وقاربوه ، صحَّ أن يقال : رَفَعْنَا الطُّورَ فوقهم ؛ لنقضهم الميثاق ، أي : لمقاربتهم نقضَهُ ، لأنَّ ما قارب الشيء أعْطِيَ حكمَه ؛ فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً ؛ كأبي البقاء وغيره . وقال بَعْضُ المُفَسِّرين : إنَّهُم أعْطوا المِيثَاقَ على أنهم إن هَمُّوا بالرُّجُوع عن الدِّينِ ، فاللَّهُ - تعالى - يُعَذِّبهم بأيِّ أنْواعِ العذابِ ، أراد : فَلَمَّا هَمُّوا بَتَرْكِ الدِّينِ ، أظَلَّ اللَّهُ الطُّورَ عَلَيْهِم . والميثاق مصدر مضاف لمفعوله ، وقد تقدَّم في البقرة الكلام على قوله { ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً } ، و " سُجَّداً " حالٌ من فاعل " ادْخُلُوا " . قوله : " لاَ تَعْدُوا " قرأ الجمهور : " تَعْدُوا " بسكون العين ، وتخفيف الدال مِنْ عَدَا يَعْدُو ، كَغَزَا يَغْزُو ، والأصل : " تَعْدُوُوا " بواوين : الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين ، فاستثقلتِ الضمة على لام الكلمة ، فحُذِفَتْ ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان ، فحُذِفَ الأوَّل ، وهو الواو الأولى ، وبقيتْ واو الفاعلين ، فوزنه : تَفْعُوا ومعناه : لا تعْتَدُوا ولا تَظْلِمُوا باصْطِيَاد الحِيتانِ فيه . قال الوَاحِدِي : يُقال : عَدَا عليه أشَدَّ العَدَاءِ [ والعَدْو ] والعُدْوَان ، أي : ظَلَمَه ، وجَاوَز الحَدَّ ؛ ومنه قوله : { فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] وقيل : { لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ } من العَدْوِ بمعْنَى الحُضْرِ ، والمُرَادُ به النَّهْي عن العَمَل والكَسْبِ يَوْم السَّبْتِ ؛ كأنه قِيل : اسْكُنُوا عَنِ العَمَلِ في هَذَا اليَوْم واقْعُدوا في مَنَازِلِكُم [ فأنا الرَزَّاق ] . وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال ، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع : فرَوَوْا عنه تارةً بسكون العين سكوناً محضاً ، وتارةً إخفاء فتحة العين ، فأما قراءة نافع ، فأصلها : تَعْتَدُوا ، ويدلُّ على ذلك إجماعُهُمْ على : { ٱعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } [ البقرة : 65 ] كونه من الاعتداء ، وهو افتعالٌ من العدوان ، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدالِ ، فنُقِلتْ حركتُها إلى العين ، وقُلبت دالاً وأدغمت . وهذه قراءةٌ واضحةٌ ، وأما ما يُروَى عن قالون من السكُون المحْضِ ، فشيءٌ لا يراه النحْويُّون ؛ لأنه جَمْعٌ بين ساكنينِ على غير حَدِّهما ، وأمَّا الاختلاسُ فهو قريب للإتيان بحركة ما ، وإن كانت خفيَّةً ، إلا أنَّ الفتحة ضعيفةٌ في نَفْسِهَا ، فلا ينبغي أن تُخْفَى لِتُزادَ ضعفاً ؛ ولذلك لم يُجز القراءُ رَوْمَهَا وقْفاً لضعفِها ، وقرأ الأعمش : " تَعْتَدُوا " بالأصل الذي أدغَمُه نافع . ثم قال { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } قال القفال : المِيثَاقُ الغَلِيظُ : هو العَهْدُ المؤكَّدُ غَايَة التَّوْكِيدِ . قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في " مَا " هذه وجهان : أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً . والثاني : أنها نكرة تامَّة ، و " نَقْضِهِمْ " بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في [ قوله ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] . و " نَقْضِ " مصدرٌ مضاف لفاعله ، و " مِيثَاقَهُمْ " مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ لـ " مَا " هذه وجهان : أحدهما : أنه " حَرَّمْنَا " المتأخِّر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } [ النساء : 160 ] وعلى هذا ، فيقال : " فَبِظُلْمٍ " متعلِّق بـ " حَرَّمْنَا " أيضاً ، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل ، وأجابوا عنه بأن قوله " فَبِظُلْمٍ " بدل من قوله " فبمَا " بإعادة العامل ، فيقال : لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف ؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه ، أعادَ الفاءَ للطُّولِ ، ذكر ذلك أبو البقاء والزَّجَّاج والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم . ورَدَّه أبو حيان بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل ، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم ؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وذلك أن قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا ٱلمَسِيحَ } وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات ، قال : " فالأوْلَى أن يكونَ التقدير : لَعَنَّاهُمْ ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره ابنُ عطيَّة : لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم ، قال : " وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ " ، وتسميةُ مثل هذا " جَوَاب " غيرُ معروف لغةً وصناعةً ، وقدَّره أبو البقاء : " فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ ، أوْ لُعِنُوا ، وقيل : تقديرُه : فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ ، والفاءُ زائدةٌ " . [ أي : في قوله تعالى { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ] . انتهى . وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ ، وردَّه ، فقال : " فإن قلْتَ : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله " بَلْ طَبَعَ اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت : لم يصحَّ لأن قوله : { بل طبع الله عليها بكفرهم } ردٌّ وإنكارٌ لقولهم : " قُلوبُنَا غُلْفٌ " ، " فكانَ متعلِّقاً به " ، قال أبو حيان : " وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر ، وهو أنَّ العطفَ بـ " بَلْ " للإضرابِ ، والإضرابُ إبطالٌ ، أو انتقالٌ ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه ؛ لأنَّ قوله : فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها " بَلْ " ، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى ، ولو قُلْت : مرَّ زَيْد بِعَمْرو ، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرٍو ، لم يَجُزْ " . وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي : فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا ، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ ، وقَتْلِهِم الأنْبِيَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة . وأمَّا قولُهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع غِلاَفٍ ، والأصل " غُلُفٌ " بتحريك اللاَّم ، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين ؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا : أنهم قالوا : قُلُوبُنَا غُلْف ، أي : أوْعِيَةٌ للعِلْمِ ، فلا حَاجَة بِنَا إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا ، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ . وقيل : إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف وهو المغَطَّى بالغلافِ ، أي : بالغِطَاءِ ، والمَعْنَى على هذا : أنَّهمُ قالُوا : قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ ، [ فَهي ] لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون ؛ نظيره قولُهُم : { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . قوله : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم ، أي : ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم : " قُلُوبُنَا غُلْفٌ " ، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في " طَبَعَ " إلا الكسائي ، فأدغم من غيرِ خلاف ، وعن حمزة خلاف ، والباء في " بِكُفرهِمْ " يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة ؛ كالباء في " طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ " يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به ، أي : مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع ، وقوله : " إِلاَّ قَلِيلاً " يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط ، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ ، أي : زَمَاناً قَلِيلاً ، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل " يؤمنُونَ " أي : إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون ؛ لأنَّ الضَّمِير في " لاَ يُؤمِنُونَ " عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم ، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ . [ والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ ، أي : في قوله : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فتأمّل ] . وقال البغوي : " إِلاَّ قَلِيلاً " يعني : ممَّن كَذَّب الرُّسُل [ لا ] من طُبِعَ على قَلْبِهِ ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه ، لا يُؤمِنُ أبَداً ، وأرَادَ بالقَلِيلِ : عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه . قوله : " وبكُفْرهِمْ " : فيه وجهان : أحدهما : أنه معطوفٌ على " مَا " في قوله : " فَبِمَا نَقضهِمْ " فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول . الثاني : أنه عطفٌ على " بِكُفرِهِمْ " الذي بعد " طَبَعَ " ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح ، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب ، فقال : " فإنْ قلْتَ : علامَ عَطَفَ قوله " وَبكُفْرِهِمْ " ؟ قلتُ : الوجهُ أن يُعْطَفَ على " فَبِمَا نَقْضِهمْ " ، ويُجْعَلَ قولُه : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلاماً يَتْبَع قوله : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } على وجه الاستطراد ، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله " بِكُفْرِهِمْ " ، فإن قلت : فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : { وَكُفْرِهِمْ بآيَاتِ الله } ، وقوله " بِكُفْرِهمْ " ؟ قُلْتُ : قد تكرر منهم الكُفْر ؛ لأنهم كفروا بموسَى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمدٍ ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض ، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه ؛ كأنه قيل : فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ ، والكُفْرِ بآيات الله ، وقتلِ الأنبياء ، وقولهم : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى ؛ عاقبناهم ، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا " . قوله : [ { وَبِكُفْرِهِمْ وَقولِهِمْ عَلَى مَرْيم } ] " بُهْتَاناً [ عظيماً ] " في نصب [ " بُهْتَاناً " ] خمسةُ أوجه : أظهرُها : أنه مفعولٌ به ؛ فإنه مُضَمَّنٌ معنى " كَلاَم " ؛ نحو : قُلْتُ خُطْبَةٌ وشِعْراً . الثاني : أنه منصوبٌ على نوع المصدر ، كقولهم : " قَعَدَ القُرْفُصَاءَ " يعني : أن القول يكون بُهتاناً وغير بهتان . الثالث : أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : قولاً بُهْتَاناً ، وهو قريبٌ من معنى الأول . الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظه ، أي : بَهَتُوا بُهْتَاناً . الخامس : أنه حال من الضميرِ المجْرور في قولهم ، أي : مُبَاهِتينَ ، وجازَ مجيءُ الحال من المضاف إليه ؛ لأنه فاعلٌ معنًى ، والتقديرُ : وبأن قالوا ذلك مباهتين . فصل في المقصود بالبهتان والمراد بالبُهْتَانِ : أنَّهُم رموا مَرْيَم بالزِّنَا ، لأنَّهم أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - على خَلْقِ الوَلَدِ من غير أبٍ ، ومُنْكِرُ قُدْرَةِ الله على ذلك كَافِرٌ ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يقُول : كُلُّ ولَدٍ مَسْبُوقٍ بوَالِدٍ لا إلى أوَّل ، وذَلِك يُوجِبُ القَوْل بِقِدَم العَالَمِ والدَّهْرِ ، والقَدْحُ في وجُود الصَّانِعِ المُخْتَار ، فالقَوْمُ أولاً أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - علَى خَلْقِ الوَلَدِ من غَيْر أبٍ ، وثانياً : نَسَبُوا مَرْيَم إلى الزِّنَا . فالمراد بقوله : " وَبِكُفْرِهِم " هو إنْكَارُهُم قُدْرَة الله - تعالى - ، وبقوله : { وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } نِسْبَتُهُم إيّاهَا إلى الزِّنَا ، ولمَّا حَصَل التغَيُّر حسن العَطْف ، وإنما صار هذا الطَّعْنُ بُهْتاناً عَظِيماً ؛ لأنه ظَهَر عند ولادَةَ عِيسَى - عليه السلام - [ من ] الكَرَامَاتِ والمُعْجِزَاتِ ، ما دَلَّ على بَرَاءَتِها من كُلِّ عَيْبٍ ، نحو قوله : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا } [ مريم : 25 ] وكلام عيسى - [ عليه السلام ] - طفْلاً مُنْفصِلاً عن أمِّهِ ، فإنَّ كُلَّ ذلك دَلاَئِل قاطِعَةٌ على بَراءة مَرْيَم - [ عليها السلام ] - من كل رِيبَةٍ ، فلا جَرَم وَصَف اللَّهُ - [ تعالى ] - [ طَعْنَ ] اليهُود فيها بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ . واعلم أنَّه لما وَصَفَ طَعْن اليَهُود في مَرْيم بأنَّه بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، ووصَفَ طَعْن المُنَافِقِين في عَائِشَةَ بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، حَيْثُ قال : { سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِين يَطْعَنُون في عَائِشَةَ ، بمَنْزِلَة اليَهُودِ الَّذِين يَطْعَنُون في مَرْيم - عليها السلام - . قوله : " وَقَوْلُهُم " عَطْف على " وَكُفْرِهِم " ، وكُسِرت " إنَّ " لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة . و " عِيسَى " بدلٌ من " المَسِيح " ، أو عطفُ بيان ، وكذلك " ابن مَرْيَم " ، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً ، وأجاز أبو البقاء في " رَسُول الله " هذه الأوجه الثلاثة ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ ، وقد يُقال : إنَّ " رَسُول الله " جرَى مَجْرَى الجوامدِ ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار " أعني " ، ولا حاجةَ إليه . قوله " شُبِّهَ لَهُمْ " : " شُبِّهَ " مبني للمفعول ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه مسند للجارِّ بعده ؛ كقولك : " خُيِّلَ إليه ، ولُبِّسَ علَيْهِ " [ كأنَّه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ] . والثاني : أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم : " إِنَّا قَتَلْنَا " أي : ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه ، فإن قيل : لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ ؟ فالجوابُ : أن المسيحَ مشبَّه به [ لا مشبَّه ] . فصل وهذا القَوْل مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم ؛ لأن قَولَهُم ، فَعَلْنَا ذَلِك ، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [ بجدٍّ واجْتِهَادٍ ] ، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ . فإن قِيلَ : اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى - عليه السلام - أعداء لَهُ ، عَامِدِين لِقَتْلِه ، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة ؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة ، فكيف قَالُوا : إنّا قَتلْنَا المَسيح [ عيسى ] ابن مَرْيَم رسُول الله ؟ . فالجوابُ من وَجْهَيْن : الأول : أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ ؛ كقول فِرْعَوْن : { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام - : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] . الثاني : أنه يجُوزُ أن يَضَعَ الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم ؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به . ثم قال - تعالى - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } . واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى ، فقال … الآية . فإن قيل : إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر ، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة ، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه ، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع ، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء - [ عليهم الصلاة والسلام ] - ؛ لأنا نَقُول : لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم ، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان ، وجَبَ ألاَّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر ، ووَجَبَ ألاَّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة . وأيضاً : ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات ، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ ، وحينئذٍ يعُود الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر ، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [ جميع ] الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وإذَا كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ ، كان مَرْدُوداً . فالجوابُ : قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين : إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه ، رفَعَهُ الله إلى السَّمَاءِ ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم ، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوهُ وصَلَبُوهُ ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ ، زال السُّؤالُ ، ولا يُقالُ : إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً ؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين ، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب ، وقيل غَيْر ذلِكَ ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } في سورة آل عمران [ الآية : 55 ] . ثم قال : { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } هذا الاختلافُ فيه قولان : الأول : أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ : نَسْطُورِيَّة ، ومَلْكَانِية ، ويعقوبية : فالنَّسْطُوريَّة : زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه ، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء ؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل ، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن ، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل ، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى ، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا ، ولا يُقَال : كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك ، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص ؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة ، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة ، وإذا كانت كَذَلِكَ ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن ، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ . وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا : القَتْل والصَّلْبُ وصَلاَ إلى اللاَّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور ، لا بالمُبَاشَرَةِ . وقالت اليعقوبية : القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن . فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ ، وهو المُرَاد من قوله : { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } . والمنزل الثاني : أن المُراد بـ " الَّذِين اخْتَلَفُوا فِيه " اليَهُود ، وفيه وجهان : الأوَّل : أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به ، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه ، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى ، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ ، قالوا : الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه . والثاني : قال السُّدِّي : إن اليَهُود حَبَسُوا عِيسى - عليه السلام - مع عَشَرَةٍ من الحَوَارِيِّين في بَيْتٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ من اليَهُودِ ليُخْرِجَهُ ويَقْتلهُ ، فألقى الله شِبْه عِيسَى - عليه السلام - على ذَلِك الرَّجُلِ ، ورَفَع عيسى إلى السَّماء ، فأخذوا ذلك الرَّجُلَ فَقَتَلُوهُ على أنَّه عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا [ إن كان هذا عِيسَى فأيْن صَاحِبُنَا ، وإن كان صَاحِبُنَا فأيْن عيسى ] ، فَذَلِكَ اخْتِلافُهُم فِيه . قوله : { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } : " مِنْهُ " في محلِّ جرِ صفة لـ " شَكٍّ " يتعلَّقُ بمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس " شَكٍّ " ؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى بـ " في " لا بـ " مِنْ " ، ولا يقال : إنَّ " مِنْ " بمعنى " في " ؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ ، ولا ضرورة لنا به هنا . وقوله : { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يجوز في " مِنْ علمٍ " وجهان : أحدهما : أنه مرفوع بالفاعليَّة ، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ : إمَّا " لَهُمْ " وإما " به " ، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعاً له ، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر ، و " مِنْ " زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة . والوجه الثاني : أن يكون " مِنْ علْمٍ " مبتدأ زيدت فيه " مِنْ " أيضاً وفي الخبر احتمالان : أحدهما : أن يكونَ " لَهُم " فيكون : " به " : إمَّا حالاً من الضمير المستكنِّ في الخبر ، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر ، وإمَّا حالاً من " عِلْمٍ " ، وإنْ كان نكرةً ؛ لتقدُّمها عليه ، ولاعتمادِه على نَفْي ، فإن قيل : يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه ، وهو ضرورةٌ ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم . فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم ذلك ، بل نقل أبو البقاء وغيره ؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك ، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً ، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ ، والزائدُ في حكْم المُطَّرَح ، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، أي : أعْني به ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس " عِلْم " ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه . والاحتمال الثاني : أن يكون " به " هو الخبر ، و " لَهُمْ " متعلق بالاستقرار ؛ كما تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه : الجرّ على أنها صفةٌ ثانية لـ " شَكٍّ " أي : غير معلوم . الثاني : النصب على الحال من " شَكٍّ " ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله " مِنْه " . الثالث : الاستئنافُ ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيدٌ . قوله : { إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } في هذا الاستثناء قولان : أصحهما : ولم يذكر الجمهورُ غيره : أنه منقطع ؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ، [ قال شهاب الدين : ] ، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ " اتِّباع " على أصل الاستثناء المنقطِعِ ، وهي لغةُ الحجاز ، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من " عِلْم " لفظاً ، فيجرُّ ، أو على الموضع ، فيُرفَعُ ؛ لأنه مرفوع المحلِّ ؛ كما قدَّمته لك ، و " مِنْ " زائدةٌ فيه . والثاني - قال ابن عطية - : أنه متصِلٌ ، قال : " إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين ، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز : " عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا " إنما يريدُ ظَنِّي " انتهى ، وهذا غيرُ موافقٍ عليه ؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن ، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ، فهو منقطع أيضاً ، أي : ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم . ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة : بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ ، فيكون من جِنْسِهِ ؛ كقوله - تعالى - { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وأراد : يَعْلَمُون ، وقوله : { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يوسف : 110 ] أي : تَيَقَّنُوا ، وقوله : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه ، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً . فصل في دفع شبهة لمنكري القياس احتَجَّ نُفَاةُ القِيَاسِ بهذه الآيَةِ ، وقالوا : العَمَلُ بالقياسِ من اتِّبَاع الظَّنِّ ، وهو مَذْمُومٌ ؛ لأن الله - تعالى - ذكر اتِّبَاعَ الظَّنِّ في مَعْرِضِ الذَّمِّ هَهُنَا ، وذَمَّ الكُفَّار في سُورَةِ الأنْعَامِ بقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] وقال : { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ . والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [ من اتِّبَاع الظَّنِّ ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ ] ، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً . قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } الضمير في " قَتَلُوهُ " فيه أقوال : أظهرها : أنه لـ " عيسى " ، وعليه جمهور المفسرين . والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء - : أنه يعودُ على العلم ، أي : ما قتلوا العلم يقيناً ، على حدِّ قولهم : " قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقييناً " و " قَتَلتهُ عِلْماً " ، ووجْه المجاز فيه : أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ ؛ فكأنه قيل : وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به ، إنما كان عن ظن وتخمين . الثالث - وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة - : أنه يعود للظنِّ تقول : " قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً " ، أي : تحقَّقت ، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً ، ولا قطعوا الظنَّ باليقين . قوله : " يَقيناً " فيه خمسة أوجه : أحدها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قتلاً يقيناً . الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله ؛ كما تقدم مجازه ؛ لأنه في معناه ، أي : وما تيقَّنوه يقيناً . الثالث : أنه حال من فاعل " قَتَلُوهُ " ، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله . الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه ، أي : ما تيقَّنوه يقيناً ، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله ، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً ، فقال : " تقديره : تيقَّنوا ذلك يَقِيناً " ، وفيه نظر . الخامس - ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ - : أنه منصوبٌ بما بعد " بَلْ " من قوله : " رَفَعَهُ الله " ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، أي : بَلْ رفعه الله إليه يقيناً ، وهذا قد نَصَّ الخليلُ ، فمَنْ دونه على منعه ، أي : أن " بَلْ " لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه ، وقوله : { بَلْ رفَعَهُ الله إِلَيْهِ } رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه ، والضمير في " إلَيْه " عائدٌ على " الله " على حَذْفِ مضاف ، أي : إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه . فصل : إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك احتَجَّ المُشَبِّهَةُ بقوله - تعالى - : { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } في إثْبَات الجِهَةِ . والجوابُ : أن المُراد الرَّفْعُ إلى موضعٍ لا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غير الله - تعالى - ؛ كقوله تعالى { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ آل عمران : 109 ] وقوله - تعالى - : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النساء : 100 ] ، وكانت الهِجْرَة في ذلك الوَقْت ، إلى المَدِينَةِ . وقال إبراهيمُ : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } [ الصافات : 99 ] . فصل : دلالة الآية على رفع عيسى عليه السلام دلت [ هذه ] الآيةُ على رفع عيسى - عليه السلام - إلى السَّمَاءِ ، وكذلك قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ آل عمران : 55 ] . ثم قال : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } ، والمراد بالعِزَّة : كَمَال القُدْرَة ، ومن الحِكْمَة : كمال العلم ، نَبَّه بهذا على أنَّ رَفْعَ عيسى - عليه السلام - إلى السَّموات وإن [ كَانَ ] كالمتَعَذِّر على البَشَرِ ، لَكِنَّه لا بُدَّ فيه من النِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِي وحِكْمَتِي ؛ كقوله - تعالى - : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] فإنّ الإسْرَاء وإن كان مُتَعذِّراً بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَة مُحَمَّدٍ ، إلا أنَّه سهل بالنسْبَة إلى قُدْرة الله - تعالى - .