Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 25-25)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } الآية " من " شرطية وهو الظَّاهِرُ ، ويجوز أن تكون موصولة ، وقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } إما جواب الشَّرط ، وإمَّا خبر الموصول ، وشروط دخول الفاء في الخبر موجودة و { مِنكُمْ } في محلِّ نصب على الحال من فاعل { يَسْتَطِعْ } وفي نصب { طَوْلاً } ثلاثة أوْجُهٍ : أظهرُهَا : أنَّهُ مفعول بـ " يستطيع " وفي قوله " أنْ ينكح " على هذا ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه في محلِّ نصبٍ بـ " طولاً " على أنَّهُ مفعول بالمصدر المنون ؛ لأنَّه مصدر ؛ وطلت الشيء أي : نلتُهُ ، والتَّقدير : ومن لم يستطع أنْ ينال نكاح المحصنات [ المؤمنات ] ، ومثله قول الفَرَزْدَقِ : [ الكامل ] @ 1784 - إنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ طَالَتْ فَلَيْسَ يَنَالُهَا الأوْعَالاَ @@ أي : طالت الأوْعَالُ فلم تَنْلها ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثير قال الشَّاعِرُ : [ الوافر ] @ 1785 - بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُؤُوسَ قَوْمٍ أزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ المَقِيلِ @@ وقول اللَّه تعالى { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا } [ البلد : 14 ، 15 ] وهذا الوجه ذهب إليه الفارسي . الثاني : { أَن يَنكِحَ } بدل من { طَوْلاً } بدل الشَّيْءِ من الشَّيْءِ ؛ لأنَّ الطول هو القدرة ، أو الفضل ، والنِّكاحُ قدرة وفضل . الثَّالثُ : أنَّهُ على حذف حرف الجَرِّ ، ثم اختلف هؤلاء ، فمنهم مَنْ قَدَّرَهُ بـ " إلى " أي : طولاً إلى أن ينكح المُحْصَنَاتِ ، ومنهم من قَدَّرَهُ باللامِ أي : لأن ينكح ، وعلى هذين التَّقديرين ، فالجارّ في محلِّ الصِّفَةِ لطولاً ، فيتعلَّق بمحذوف ، ثُمَّ لما حُذِفَ حرف الجرِّ فالخلاف المشهُورُ في محل " أن " أنصبٌ هو أم جرٌّ ؟ . وقيل : اللامُ المقدّرة مع " أنْ " هي لام المفعول من أجله ، أي : لأجل نِكاحِهنَّ . الوجه الثَّاني من نصب { طَوْلاً } : أن يكون مفعولاً له على حذف [ مضاف ] أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات ، وعلى هذا فـ " أن ينكح " مفعول " يستطع " أي : ومن لم يستطع نكاح المُحْصَنَات لعدم الطَّوْلِ . الوجه الثالثُ : أن يكون مَنْصُوباً على المصدر . قال ابْنُ عَطيَّة : ويصحُّ أن يكون طَوْلاً نصباً على المَصْدَرِ ، والعامِلُ فيه الاستطاعة [ لأنَّهما بمعنى و { أَن يَنكِحَ } ، على هذا مفعول بالاستطاعة ، أو ] بالمصدر يعني أنَّ الطولَ هو استطاعة في المعنى ، فَكَأنَّهُ قيل : ومن لم يستطع منكم استطاعة ، والطَّوْلُ : [ الفضل ومنه ] التطول وهو التَّفضل قال تعالى { ذِي ٱلطَّوْلِ } [ غافر : 3 ] ويقال : تطاولَ لهذا الشَّيءِ أي تناوله كما يقالُ : يد فلان مبسوطة ، وأصل هذه الكلمة من الطُّولِ الّذي هو ضدّ القصر ؛ لأنَّهُ إذَا كان طويلاً ففيه كمال وزيادة [ كما أنه إذا كان قصيراً ففيه قصور ونقصان ، فسمى الغنى طولاً لأنه ينال به المراد ما لا ينال عند الفقر ] كما أنَّ بالطول ينال ما لا ينال بالقصر . قال ابنُ عبَِّاس ومُجاهدٌ وسعيدُ بنُ جبيرٍ والسُّديُّ وابنُ زيدٍ ، ومالكٌ : " الطَّول هو السَّعة ، والغنى " قيل : والطَّوْلُ : الحرة ، ومعناه : أنَّ من عنده حرَّة لا يجوز له نكاح [ أمة ] ، وإن عَدمَ السَّعَةَ ، وخاف العَنَتَ ؛ لأنَّهُ طالب شهوة وعنده امرأة ، وهو قول أبِي حنيفَةَ [ وبه قال الطَّبرِيُّ ] . وقال أبُو يُوسفَ : الطَّوْلُ هو وجود الحرَّة تحته ، وقيل : الطَّوْلُ هو التَّجلد والصبر كمن أحبَّ أمةً ، وهويها حتَّى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج [ عليها ] غيرها ، فإنَّ له أن يتزوّج الأمَةَ إذا لم يملك مهرها ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سَعَةً في المال لِنِكَاحِ حرَّةٍ . وهذا قول قَتَادَةَ والنَّخَعِيِّ وعطاءٍ ، وسفيان والثَّوْرِي نقله القُرْطُبِيُّ . فصل : [ تفسير المراد بالمحصنات ] والمراد بالمحصنات ههنا الحرائر [ لأنه تعالى أثبت نكاح الإماء عند تعذر نكاح المحصنات ، فلا بد أن يكون المراد بهن الحرائر ] ؛ لأنه ذكرهن كالضّد للإمَاء ووجه تسميتهن بالمحصنات على قراءة من فتح الصَّاد أنَّهن أحصن بحريتهن عن أحوال الإمَاءِ فإنَّ الأمَةَ تكونُ خراجةً مُمْتهنَةً مُبْتَذِلَةً في الظَّاهِرِ ، والحرةُ مصونة عن هذه القَضَايَا ، وأمَّا على قراءة كسر الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهنَّ . فصل [ في شرط نكاح الأمة ] دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُ لا يجوزُ للحرِّ نكاحُ الأمَةِ إلاَّ بشرطين ؛ وهما ألاَّ يجد مهر حرة ، ولا ثمن أمة ، وأنْ يخاف العَنَتَ ، وهو قولٌ جائزٌ ، وبه قال طاوس وعمرو بْنُ دينَار ، وإليه ذهب مالكٌ والشَّافعيُّ وأحْمَدُ ، وجوّز أصحابُ الرَّأي للحر نكاح الأمَةِ . فإنْ قيل : أيُّ تفاوت بين ثمن الأمة ، أو مهرها وبَيْنَ نكاح الحرَّة الفقيرة . فَالجوابُ : أنَّ العادة كانت في الإماء التخفيف لاشتغالهن بخدمةِ السَّيِّد فظهر التَّفَاوُتُ . فصل [ في حكم نكاح الأمة الكتابية ] دلَّت الآيةُ على أنَّهُ لا يجوز للمُسْلِم نكاحُ الأمَةِ الكتابيَّةِ لقوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } ولقوله : { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] ولأن الأمَةَ الكافرةَ ناقِصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : نَقْصُ الرِّقِّ ، ونَقْصُ الكُفْرِ ، والولدُ تابع للأمِّ في الحريةِ والرق ، فيتعلَّقُ الولدُ رقيقاً على مِلْكِ الكافِرِ وجوز أبُو حنيفة ذلك لعموم قوله : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] وقوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وقوله : { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [ المائدة : 5 ] والمراد بهذا الإحصان العفّة . والجَوَابُ أنَّ آيتنا خاصةٌ ، والخاص مُقَدَّمٌ على العام ؛ ولأنها دخلها التخصيص فيما إذا كان تحته حرّة ، وَاتَّفَقُوا على أنَّهُ [ لا ] يجوزُ وطؤها بملك اليمين . انتهى . فصل [ في شرط الإيمان ] ظاهر قوله { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } يقتضي كون الإيمان معتبراً من الحرَّة فعلى هذا لو قدر على طول حرّة كتابيَّة ، ولم يقدر على طول أمةٍ مسلمةٍ فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوّج بالأمةِ ، وأكثرُ العُلماء على أنَّ ذكر الإيمان نذب في الحرائرِ ، ولا فرق بين [ الأمة ] المؤمنة والكتابيَّة في كثرة المؤمنة وقلتها . فصل في التَّحذيرِ من نكاح الأمَاءِ وجوهٌ منها : - الولد ينبع الأمَّ في الحريَّة والرِّق فيصير الولد رقيقاً . قال عُمَرُ - رضي الله عنه - : أي حُرٍّ تَزوَّجَ بأمَةٍ ، فقد رَقّ نِصْفُهُ ، يعني : يصير وَلَدُهُ رقيقاً . وقال سعيدُ بْنُ جُبير : ما نكاح الأمة من الزِّنَا إلا قريب ، قال الله تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي عنْ نِكَاحِ الإمَاءِ . ومنها أنَّ الأمَةَ تكون قد تعوّدت الخروجَ ، والبروزَ والمخالطةَ للرِّجَالِ وصارت في غاية الوقَاحةِ ، ورُبَّمَا تَعَوَّدَت الفجورَ . ومنها أن حقّ المولى عليهم أعظم من حقِّ الزَّوْجِ ، ولا تخلص للزَّوْج كخلوص الحُرَّةِ ، وربَّما احتاج الزَّوْجُ إليها جداً ، ولا يجد إليها سبيلاً [ لحبس السيّد لها ] . ومنها أنَّ المولى قد يبيعها من إنسان آخر ، فعلى قول من يقول بيع الأمَةِ يُوجِبُ طلاقها تصير مطلَّقَة شاء الزَّوْجُ أم أبى ، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يُسَافِر المولى بها وبولدها ، وذلك من أعْظَمِ المَضَارّ . ومنها أن مهرها ملك لمولاها ، فلا تَقْدِرُ على هبته لِزوجهَا ، ولا إبرائه بخلاف الحرَّةِ ، فلهذه الوجوه لم يُؤْذَنْ في نِكَاحِ الأمةِ إلا على سبيل الرُّخصةِ . وروى أبُو هريرة قال : سَمِعْتُ رسولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم يقول [ الحرائر ] صلاح البيت والإماء هلاك البيت أو قال فساد " فساد البيت " ذكره القرطبي . قوله : " فممّا " الفاء قد تقدّم أنَّها إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدة في الخَبَرِ على حَسْبِ القولين في " من " وفي هذه الآية سبعة أوْجُهٍ : أحدها : أنَّها متعلّقة بفعل مقدّر بعد الفاء تقديرُهُ : فينكحُ مِمَّا ملكت أيمانكم و " ما " على هذا موصولة بمعنى الذي أي : نوع الّذي ملكته ، ومفعولُ ذلك الفعل المقدّر محذوفٌ تقديرهُ : فَيَنْكِحُ امرأة ، أو أمَةً مما ملكته أيمانكم ؛ فـ " مِمَّا " في الحقيقة متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة لذلك المفعولِ المحذُوفِ و " من " للتَّبعيضِ ، نحو : أكلتُ مِنَ الرَّغيفِ ، و { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } في محلِّ نصب على الحال من الضَّمير المقدّر في " ملكت " العائد على [ " مَا " ] الموصولة و { ٱلْمُؤْمِنَات } صفة لفتياتكم . الثَّاني : أن تكون " مِنْ " زائدة و " ما " هي المفعولة بذلك الفعل المقدَّر أي : فلينكح ما ملكته أيمانكم . الثَّالثُ : أنَّ " مِنْ " في { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } زائدة و { فَتَيَاتِكُمُ } هو مفعولُ ذلك الفعل المقدَّرِ أي : فلينكح فتياتكم ، و " مما ملكت " متعلق بنفس الفعل و " من " لابتداء الغاية ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من " فتياتكم " قدم عليها و " من " للتَّبعيضِ . الرَّابعُ : أن مفعول " فلينكح " [ هو المؤمنات أي : فلينكح ] المؤمنات الفتيات و " مما ملكت " على ما تقدَّم في الوجْهِ قبله و " من فتياتكم " حال من ذلك العائد المحذوف . الخامِسُ : أنَّ مما في محَلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فالمنكوحَةُ مِمَّا ملكت [ أيمانكم ] . السَّادس : أن " ما " في " مِمَّا " مصدريَّةٌ أي : فلينكح من ملك أيمانكم ، ولا بدَّ أن يكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعولِ نحو : { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 11 ] ليصحّ [ وقوع ] النكاح [ عليه ] . السَّابعُ : وهو أغربها ونقل عن جماعة منهم ابن جرير أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراًَ وأنَّ التقدير : ومنْ لَمْ يستطعْ منكمْ [ طولاً ] أنْ ينكحَ المُحْصنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، فبعضكم فاعل ذلك [ الفعل ] المقدّر ، فعلى هذا يكون قوله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } معترضاً بين ذلك الفعل المقدَّر وفاعله ، ومثل هذا لا ينبغي أن يقال . فصل قال ابن عباس : يُريدُ بقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : فليتزوّج جاريةَ أخيه ، فإنَّ الإنسانَ لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه ، والفتيات المملوكات جمع فتاةٍ تقُولُ العربُ للأمة : فتاة ، وللعبد : فتى ، قال عليه السلامَ : " لا يَقُولَنَّ أحدكُم عَبْدِي ، ولا أمَتِي ، وَلكِنْ لِيَقُلْ فَتَاي وفَتَاتِي " ويقالُ للجارية الحديثة : فتاة ، والغلام ، فتى ، والغلام ، فتى ، والأمة تسمى فَتَاة . قوله : { والله أعلم بإيمانكم } جملة من مبتدأ وخبر جيء بها بعد قوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } لتفيد أنَّ الإيمان الظَّاهر كافٍ في نكاحِ الأمَةِ المؤمنة ظاهراً ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها يقيناً ، فإنَّ ذلك لا يطلع عليه إلا اللَّه تعالى ، وفيه تأنيس أيضاً بنكاح الإماءِ ، فإنَّهم كانوا يفرون من ذلك . قال الزَّجَّاجُ : " المعنى : احملوا فتياتكم على ظاهر الإيمانِ ، واللَّهُ أعلمُ بالسَّرائِرِ " . قوله تعالى : { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبر أيضاً ، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الأمة [ كما تقدَّم ، والمعنى : أنَّ بعضكم من جنس بعض في النَّسب والدين ، فلا يدفع الحر عن نكاح الأمَّةِ ، عند الحاجة إليه ، وما أحسن قول أمير المؤمنين عَلِيٍّ رضي الله عنه ] : [ البسيط ] @ 1786 - والنَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثيلِ أَكْفَاءُ أبوهُمُ آدَمٌ والأمُّ حَوَّاءُ @@ والحكمَةُ في ذِكْرِ هذه الكَلِمَةِ أنَّ العَرَبَ كانوا يَتفاخَرُونَ بالأنْسَابِ ، فأخبر تعالى أن ذلك لا يلتفت إليه ؛ لأنَّ الإيمان أعظم الفضائل ، وإذا حصل الاشتراك فيه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك . قال تعالى : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وكان أهلُ الجاهليّة يضعون من أين الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجراً لهم من أخلاق أهل الجاهليَّةِ . قوله " بإذن أهلهن " متعلق بـ " انكحوهنّ " وقدّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي : بإذنِ أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم المُلاَّك . فصل في نكاح الأمة بإذن سيدها اتَّفَقُوا على أنَّ نكاحَ الأمَةِ بدون إذن سيِّدهَا باطلٌ بهذه الآية ، فإنها تقتضي كون الإذن شرطاً في جواز النِّكاحِ ، وإن لم يكن النكاح واجباً كقوله عليه [ الصَّلاة و ] السلام : " من أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعلُوم " فالسلم ليس بواجب ، ولكنَّهُ إذا اختار أن يُسْلِمَ فعليه استيفاء هذه الشَّرائط ، ولأنَّ الأمَةَ ملك للسيِّد ، وبالتّزوج تبطل عليه أكْثَرُ منافعها ؛ فوجب ألاّ يجوز ذلك إلا بإذنِهِ ، وأمَّا العبد فلقوله عليه السَّلامُ : " إذَا تَزَوَّجَ العَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ السيّد فهو عاهِرٌ " . فصل في اشتراط إذن الولي في النكاح استدلُّوا بهذه الآية على أنَّه لا يصحُّ نِكَاحُ الحرَّة البالغة العاقلة إلاَّ بإذن الولي ، قالوا : لأنَّ الضَّمِيرَ في قوله { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } عائد إلى الإماءِ والأمة ذات موصوفة بالرِّق ، وصفة الرِّقِّ صفة زَائِلَةٌ لا تتناول الإشارة بتلك الصّفة ، إلا تَرى أنَّهُ لَوْ حلف لا يَتكلَّمُ مع هذا الشاب فصار شيخاً ثم تَكَلَّمَ معه حَنَثَ ؛ فثبت أن الإشارة إلى الذَّاتِ الموصوفة بصفَةٍ ، عرضية زائلة باقية بعد زوال تلك الصِّفةِ العرضية ، وإذَا كان كذلك ، فوجب أن تكون الإشَارَة إلى الإمَاءِ باقيةً بعد زَوَالِ الرِّقِّ ، وحصول صفة الحريّة لهنّ ، وإذا ثبت أنَّ ذلك في الصُّورَةِ الباقية ؛ وجب ثبوته في سائر الصُّورِ ، لأنَّهُ لا قائل بالفرق . قال الرازيُّ : هذه الآية ترد على الشافعيِّ ، فإنَّهُ يقول : لا عِبَارَةَ للمرأة في النِّكاح ، فإذا ملكت المرأةُ جارية وكلتْ مَنْ يزوجها ، واللَّهُ تعالى شرط إذن أهلهنّ مطلقاً فقد ترك [ الظاهر ] والجوابُ من وُجُوهٍ : الأوَّلُ : المرادُ بالإذن الرِّضَا ولا بدَّ مِنْهُ . الثَّاني : أنَّ المرادَ بأهلهنّ من يقدر على نكاحهن ، فإن كانت امرأةً فموْلاَهَا . الثَّالِثُ : أنَّ الأهْلَ يتناولُ الذكورَ والإناثَ ، لكنَّهُ عام والأدلَّةُ الدَّالَّةُ على المرأة لا تنكح نفسها خاصّة ، والخاصُّ مقدَّمٌ وفي الحديثِ : " العَاهِر هي التي تنكِحُ نَفْسَهَا " ولذا كانت مسلوبةَ العبارة في [ حقّ ] نفسها ، فهي في حقّ مملوكها أولى . قوله تعالى { فآتوهن أجورهن } قال بعضهم : هو المهر ، قال : والمُرادَ به مهر المثل لقوله تعالى : { بِٱلْمَعْرُوفِ } وهذا إنَّمَا ينطلق فيما كان مبنياً على الاجتهاد وغالب الظنِّ في المعتاد والمتعارف كقوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] . وقال القاضي : " المرادُ من [ الأجُورِ : ] النَّفَقةُ عليهنّ قال : لأنَّ المهر مقدّر ، فلا معنى لاشتراط المعروف فيه ، فكأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ كونها أمَةً لا يقدحُ في وُجُوبِ نفقتها ، وكفايتها كما في حقّ الحرة ، وأكثر المفسَِّرينَ حملوا قوله : { بِٱلْمَعْرُوفِ } على تَرْكِ المطْلِ ، والتَّأخيرِ عند المطالبة على العَادَةِ الجميلَةِ . فصل في من المستحق لقبض مهر الأمة ؟ نقل أبُو بكرٍ الرَّازِي في أحكام القرآن عن بعض أصْحَابِ مالكٍ ، أنَّ الأمة هي المستحقّة لقبض مهرها بهذه الآيةِ . والجوابُ من وُجوهٍ : أحدُهَا : أنَّا إذا حملنا [ قوله ] الأجور على النَّفَقَةِ ، زال تمسكهم . وثانيها : إنَّمَا أضاف إيتاء المهور إليهن ، لأنَّهُ ثمن بعضهن ، وليس في قوله " وآتوهن " ما يوجب كون المَهْرِ ملكاً لهنَّ . وثالِثُهَا : ثبت أنَّهَا تقتضي كَوْنَ المَهْرِ ملكاً لهُنَّ ، ولكنَّهُ عليه السلامُ قال : " العَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ [ ملِكٌ ] لمولاهُ " وقال تعالى : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } [ النحل : 75 ] فنفى الملك عنه . ورابُعهَا : أنَّ المهر عِوَضٌ عن منافِع البُضْعِ ، وهي مملوكةٌ للسيِّدِ . قوله : " بالمعروف " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ : أحدها : أنَّه متعلِّق بـ { وَآتُوهُنَّ } أي : آتوهن مهورهن بالمعروف . الثَّاني : أنَّهُ حالٌ من أجورهن أي : ملتبسات بالمعروف ، يعني : غير ممطولة . الثالِثُ : - أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله { فَٱنكِحُوهُنَّ } أي : فانكحوهن بالمعروف [ بإذن أهلهن ومهر مثلهن ، والإشهاد عليه ، وهذا هو المعروفُ ] وقيل : في الكلامِ حذف تقديره : وآتوهُنَّ أجورهن بإذن أهلهنَّ فحذف من الثَّاني لدلالة الأوَّلِ عليه ، نحو { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ } [ الأحزاب : 35 ] . أي الذاكرات الله . وقيل : ثَمَّ مُضَاف مقدر أي : وآتوا مواليهن أجورهن ؛ لأنَّ الأمة لا يسلّم لها شيءٌ من المهر . قوله تعالى { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حالان من مفعول { فَآتُوهُنَّ } ومحصنات على هذا ، بمعنى مزوجات . وقيل : { مُحْصَنَاتٍ } حال من مفعول { فَٱنكِحُوهُنَّ } ، ومحصنات على هذا بمعنى عفائف ، أو مسلمات ، والمعنى : فانكحوهن حال كونهن محصنات لا حال سفاحهن واتِّخَاذِهِنَّ للأخدان ، وقد تقدم أن " محصنات " بكسر الصَّاد وفتحها وما معناها ، وأن { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حال مؤكدة . و { وَلاَ مُتَّخِذَات } عطف على الحال قبله ، والأخدان مفعول بمتخذات ، لأنَّهُ اسم فاعل ، وأخدان جمع " خِدْن " كعِدْل وأعْدَال . والخِدْنُ : الصَّاحب . قال أبو زيد : الأخدانُ : الأصدقاء على الفاحشة ، واحدهُمْ خِدْنٌ وخدين وهو الّذي يخادنك ، ورجل خُدْنَةٌ : إذا اتَّخَذَ أخداناً أي : أصحاباً وقد تقدَّمَ أنَّ المُسَافح هو المجاهر بالزِّنَا ، ومتخذ الأخْدَان هو المستتر [ به ] ، وكان الزِّنَا في الجاهليَّة منقسماً إلى هذين القسمين ، ولم يحكموا على ذاتِ الخدن بكونها زانية . قوله : " فإذا أحصن " قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم { أُحْصِنَّ } بضمّ الهمزة وكسر الصَّادِ على البِنَاءِ للمفعول والباقون بفتحها على البنَاءِ للفاعل ، فمعنى الأوَّلِ أحصن بالتزويج فالمحصن بهنَّ هو الزوجَ ، هكذا قاله ابنُ عباسٍ ، وسعيدُ بْنُ جُبيرٍ والحَسَنُ ومُجاهِد . ومعنى الثَّانية : " وأحصن فروجهن أو أزواجهن " . وقال عُمَرُ وابنُ مسعودٍ والشعبيُّ والنخعيُّ والسديُّ : أسلمن . وطعنوا في هذا الوجه بِأنَّهُ تعالى وصف الإماء بالإيمان في قوله { فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } ويبعد أن يقال : فتياتكم المؤمنات ، ثم يقال : فإذا آمن فإن حالهن كذا وكذا ، ويمكن جوابه بأنَّهُ تعالى حكم حكمين : الأوَّلُ : حال نكاح الإمَاءِ فاعتبر الإيمان فيه بقوله : { فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } . والثَّاني : ما يجبُ عليهنَّ عند إقدامهن على الفاحشَةِ ، فذكر [ حال ] إيمانهنَّ أيضاً في هذا الحكم وهو قوله تعالى { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } . قوله : " فإن أتين بفاحشة فعليهن " الفاء في " فإنْ " جواب " إذَا " وفي " فعليهن " جواب " إن " فالشَّرط الثَّاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأوَّلِ ، ونظيره : إن أُكلت فإن ضربت عمراً فأنت حرٌّ ، لا يُعْتق حتى يأكل أولاً ، ثم يضرب عمراً ثانياً ولو أسقطت الفاء الدّاخلة على " إن " في مثل هذا التّركيب انعكس الحكم ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثُمَّ يأكل ثانياً ، وهذا يُعْرف من قواعد النَّحْوِ ، وهو أن الشَّرْطَ الثَّاني يُجْعل حالاً ، فيجب التَّلبُّسُ به أولاً . قوله : " من العذاب " متعلق بمحذوف ؛ لأنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في صلة " ما " وهو " على " ، فالعامل فيها معنوي ، وهو في الحقيقة ما تعلَّقَ به هذا الجار ، ولا يجوز أن يكون حالاً من " ما " المجرورة بإضافة " نصف " إليها ؛ لأنَّ الحال لا بدَّ أن يعمل فيها [ ما يعمل ] في صاحبها [ إن ] و " نصفُ " هو العامل في صاحبها الخفض بالإضافة ، ولكنه لا يعمل في الحال ، لأنَّهُ [ ليس ] من الأسماء العاملة إلا أنَّ بعضهم يرى أنَّهُ إذا كان جزءاً من المضاف جاز ذلك فيه ، والنصفُ جزء فيجوز ذلك . فصل في الآية إشكال ، وهو أنَّ المحصنات في قوله : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ } إمَّا أن يكون المرادُ منه الحرائِر المتزوّجات ، أو الحرائر الأبكار ، والسَّبَبُ في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن ، والأول مُشْكِلٌ ؛ لأن الواجبَ على الحرائر المتزوجات في الزِّنَا الرَّجم ، فهذا يقتضي أن يجب في زِنَا الإماء نصفُ الرَّجْمِ وذلك باطل . والثَّاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار ، فنصف ما عليهنَّ خمسون جَلْدَةً وهذا القدر واجب في زنَا الأمَةِ ، سواء كانت مُحْصَنَةً أو لم تكن ، فحينئذ يكون هذا الحكمُ معلقاً بمجرَّدِ صُدُورِ الزِّنَا عنهنَّ ، وظاهر الآية يقتضِي كونه معلقاً بمجموع الأمرين : الإحصان والزِّنا ، لأنَّ قوله { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } شرط بعد شرط . فيقتضي كون الحكم مشروطاً بهما نصاً . فالجوابُ أن يُخْتارَ القسم الثَّاني ، وقوله : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } ليس المرادُ منه جعل هذا الإحْصَانِ شرطاً لأن يجب في زَنَاهَا خمسُونَ جَلْدَةً ، بل المعنى أنَّ حدَّ الزِّنَا يغلظ عند التَّزوُّجِ فهذه إذَا زَنَتْ ، وقد تزوَّجت فحدُّهَا خمسون جلدة ، لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التَّزوُّجِ هذا القدر [ أيضاً ] أولى ، وهذا مما يَجْرِِي [ فيه مجرى ] المفهوم بالنَّصِّ لأنَّهُ لما خفف الحدَّ لمكان الرّق عند حصول ما يُوجبُ التَّغليظَ فبأن يجب هذا القدر عندما لا يوجد المغلظ أولى ، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا جلد على من لم يتزوّج من المماليك إذَا زَنَا لقوله تعالى : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ وبه قال طاووس . ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلامُ ، وإن كان المرادُ منه التزويج ، فليس المراد منه أنَّ التزويج شرط لوجوب الحدّ عليه ، بل المرادُ منه التّنبيه على أنَّ الممْلُوكَ إذا كان محصناً بالتَّزويج ؛ فلا رجم عليه ، إنَّمَا حده الجلد بخلاف الحر ، فحدُّ الأمةِ ثابت بهذه الآية ، وبيان أنَّه الجلد قوله عليه السلامُ " إذا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولا يُثربْ عليْهَا ، ثُمَّ إن زَنَتْ الثَّالِثَةُ ؛ فَلْيَبِعْها وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعِرٍ " . فصل في من يقيم الحد على الإماء ؟ اختلفوا فيمن يقيمُ الحدَّ على العَبْدِ والأمَةِ إذَا زَنَيَا ، قال بن شهاب : مضت السُّنَّةُ أن يَحُدَّ العَبْدَ والأمَةَ أهلُوهُم في الزِّنَا ، إلاَّ أنْ يُرْفَع أمرُهُمْ إلى السَّلطان ، فليس لأحَدٍ أن يفتات عليه قوله عليه السلامُ " إذَا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا الحَدَّ " وقال عليه السلامُ : " أقيمُوا الحُدُودَ عَلى مَا مَلَكتْ أيْمانُكُمْ مَنْ أحْصِنَ مِنْهُمْ ، ومَنْ لَمْ يُحْصِن " . قال مَالِكٌ : يَحُدَّ المولى عبده في الزِّنَا وشرب الخمر ، والقَذْفِ إذا شهد عنده الشُّهُودُ ، ولا يقطعُهُ في السَّرقَةِ إلاَّ الإمام . وقال أبُو حنيفةَ : " لا يقيمُ الحُدُودَ عليهم إلاَّ السُّلْطَان " . فصل متى يحد الأمة السلطان ؟ قال القُرطبيُّ : إذَا زنتِ الأمَةُ ثُمَّ عُتِقَتْ قَبْلَ أن يحدَّها سيِّدُهَا لم يحدَّهَا إلا السُّلْطَان ، فإنْ زَنَتْ ثم تزوَّجَتْ لم يكُنْ لسيِّدِهَا أن يجلدَهَا لحقِّ الزَّوْجِ ؛ إذ قد يَضُرُّهُ ذلك ، إذَا لم يكن الزَّوْجُ ملكاً للسَّيِّدِ ، فلو كان ملكاً للسَّيِّدِ ؛ جازَ ذلك لأن حقَّهُمَا حَقُّهُ . فصل إذا أقرَّ العَبْدُ بالزِّنَا ، وأنْكَرَهُ المولى فالحدُّ يجبُ على العبد لإقرارِهِ ، ولا يلتفت لإنكار السَّيِّد ، فلو عفا السَّيِّدُ عن عَبْدِهِ ، أو أمته إذا زَنَيَا ، فقال الحَسَنُ : له أن يغفر وقال غيرُهُ : لا ينفَعُهُ إلاَّ إقامَةُ الحدِّ ، كما لا يسع السُّلطانَ أنْ يعفو عن حدٍّ إذا عَلِمَهُ . قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } " ذلك " : مبتدأ ولمن خشِيَ : جارٌّ ومجرورٌ [ خبره ] ، والمشارُ إليه بـ " ذلك " إلى نكاح الأمة المؤمنة لمنْ عدِمَ الطَّوْلَ ، والعَنَتُ في الأصْلِ انكسارُ العَظْمِ بعد الجَبْرِ ؛ فاستعير لكلِّ مَشَّقَّةٍ . قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] أي : لشدَّدَ الأمرَ عليكم ، وأُريدَ بِهِ به هُنَا ما يجرُّ إليه الزِّنَا منَ العذاب الدُّنْيَوِيِّ ، والأخرويِّ . وقال بعضُ المفسِّرينَ : إنَّ الشَّبق الشَّديدَ في حقِّ النساء قد يؤدِّي إلى اختناق الرَّحم ، وأمَّا في حقِّ الرِّجالِ فقد يؤدي إلى أوجاعِ الوركين والظهر والأوَّل هو اللائِقُ ببيان القرآن . و " منكم " حالٌ من الضَّميرِ في " خشيِ " أي : في حال كَوْنِهِ مِنْكُمْ ، ويجوزُ أن تكون " من " للبيان . قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . مبتدأ وخبر لتأوله بالمصدَرِ وهو كقوله { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 237 ] والمعنى وأنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء متعفِّفِينَ خيرٌ لكم لما بَيَّنَا من المفاسدِ الحاصلة في هذا النَّكَاحِ . قال عليه الصلاة والسلام : " الحَرَائِرُ صَلاَحُ البَيْتِ ، والإمَاءُ هَلاَكُهُ " . وقال الشاعر : @ 1787 - وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ قَهْرَمَانَةٌ فَذلِكَ بَيْتٌ لا أبَالَكَ ضَائِعُ @@ وقال الآخر : [ الطويل ] @ 1788 - إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ المَرْءِ حُرَّةٌ تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ @@ فصل مذهب أبي حنيفة وأحمد : أنَّ الاشتغال بالنِّكاح أفضل من الاشتغال بالنَّافلة ، فإن قالوا بهذا سواء كان نكاح حرَّةٍ أو نكاح أمةٍ فهذه الآية نصٌّ في بطلان قولهم ، وإن قالوا : إنَّا لا نرجِّح نكاح الأمة على النَّافلة ، فحينئذٍ يسقط استدلالهم . ثم قال : { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا كالمؤكّد لما ذكره ؛ لأنَّ الأولى ترك هذا النِّكاح يعني أنَّهُ وإنْ حصل ما يقتضي المَنْعَ من هذا النِّكَاحِ إلا أنَّهُ تعالى أباحه لاحتياجكم إليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرَّحْمَةِ .