Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 53-55)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمَّا وصف [ تعالى ] اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة ؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى ، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ . والبخلُ : ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ ، [ والحَسَدُ : أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللَّهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم ] فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ ، والحَسَدِ ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا ؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا ، ومَنَعَ هذا . واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم ، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ [ للغير مكروهٌ لِذَاته ، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر ] بالإحسانِ الحسن ؛ كما قيل : " بالبر يستعبد الحر " ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ ، لَمْ يُوجد الانقيادُ ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط ؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا ؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ الجُودِ ، والكَرَمِ ، والرَّحْمَةِ ، والشَّفَقَةِ ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم . و " أم " مُنقطعةٌ ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال ، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر بـ " بَلْ " ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار ، وكذلك هُو في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } وقال بعضُهم : الميمُ صلة ، وتقديره : ألَهُمْ ؛ لأنَّ حَرْفَ " أمْ " إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه ، وقيل : " أمْ " هنا مُتصلةٌ ، وقد سبقه - هاهنا - استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى ؛ لأنَّهُ لمَّا حَكَى قَولَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } فكأنَّهُ قال : أمِنْ ذلك يتعجَّبُ ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُمْ نَصِيبٌ من الملك ؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ ؟ . فصل في معنى " الملك " اختلفوا في هذا { ٱلْمُلْكِ } ، فقيل : إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ : نحنُ أوْلَى بالملكِ ، والنُّبوةِ ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ ؟ فأبطل اللَّهُ ذلك ، بهذه الآيةِ . وقيل : كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم ، في آخرِ الزمانِ ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُمْ ؛ فَكَذَّبهم الله [ تعالى ] بهذه الآيةِ . وقيل [ المرادُ ] بالمُلْكِ - هاهنا - التَّملِيكُ : يَعْنِي : أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ ؛ لو كان التمليكُ إليهم ، [ و ] لو كان التملِيكُ إلَيهمْ ؛ لبخلوا بالنَّقِير ، والقِطْمِيرِ . فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ والإثْبَاتِ . قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ : كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ ، وكانوا في عِزةٍ ، ومَنَعَةٍ ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ ؛ فنزلت هذه الآيةُ . قوله : " فإذن " حَرْفُ جَوَاب ، [ وجَزَاء ] ونُونُها أصلية ، قال مَكي [ وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً ] وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً ، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ الخَطِّ ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [ والوقف على نُونها بالألف ، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ ] ، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ مَسْعُودٍ ، وابنُ عَبَّاسٍ - هنا - بإعْمَالِهَا ، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه : { لاَّ يُؤْتُونَ } . وقال أبُو البَقَاءِ : ولَمْ يَعملْ - هنا - من أجْلِ حَرْفِ العَطْف وهُوَ الفَاء ، ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ ، أنْ يَعملَ مع الفَاءِ ، وليس المبطل لا ؛ لأنَّ " لا " يتخطَّاهَا العامِلُ ، فظاهِرُ هذه العبارَةِ : أنَّ المانِعَ حَرْفُ العَطْفِ ، وليس كذلك ، بل المانِعُ التلاوةُ ، ولذلك قال آخراً : ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ . قال سِيبَويْهِ : " إذن " في أصل الأفعالِ بمنزِلَةِ " أظن " في عَوَامِلِ الأسْمَاءِ ، وتقريرهُ : أنَّ الظنَّ إذَا وَقَعَ أوَّلَ الكلام - نَصَبَ ، لا غَيْرَ ؛ كقولِكَ : أظُنُّ زَيْداً قائماً ، وإنْ تَوَسَّطَ جَازَ إلْغَاؤه ، وإعْمَالهُ تقول : زَيدٌ ظننْتُ مُنْطِلقٌ ، ومنطلقاً ، وإنْ تأخَّر ، ألْغِيَ . والسببُ في ذلك ؛ أن " ظن " وأخواتِهَا ، نحو : عَلِمَ ، وحَسِبَ ، ضَعِيفةٌ في العملِ ؛ لأنها لا تُؤثِّرُ في مَفْعُولاتِهَا ، فإذا تَقَدَّمَتْ دلَّ تقدمُهَا على شِدَّةِ العِنَايَةِ ، فَقَوِي على التَّأثِيرِ ، وإذا تأخرت ، دلَّ على عدم العِنَايَةِ فلغى ، [ وإنْ توسَّطَتْ ، لا يكون في مَحَلِّ العنايةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ ، ولا في مَحَلِّ الإهْمَالِ من كل الوجوه ، فَلاَ جَرَمَ أوْجَبَ توسُّطُها الإعْمالَ ] ، والإعْمالُ في حَالِ التوسطِ أحسنُ والإلغاءُ حَالَ التأخُّرِ ، أحْسَنُ ، وإذا عرفتَ [ ذلك ] فنقول : " إذن " على هذا الترتيبِ ، [ فإن تقدمَّتْ نَصَبَتِ الفعلَ ، وإنْ توسَّطَتْ ، أوْ تأخرتْ جاز الإلْغَاءُ ] . والنَّقِيرُ : قال أهلُ اللغةِ : النَّقِيرُ : نُقْطَةٌ في ظَهْرِ النواةِ ، ومنها تَنْبُتُ النخلةُ ، وقال أبُو العَالِيَة : هو نَقْدُ الرجلِ الشَّيْءَ بِطَرفِ إصْبَعِهِ ، كما يُنْقِرُ الدِّرْهَمَ ، وأصْلُه : أنَّهُ فِعْلٌ مِنَ النَّقْرِ ، يُقالُ للخشبِ الذي يُنْقَرُ فيه : إنَّهُ نَقِيرٌ ؛ لأنه يُنْقَرُ ، والنَّقْرُ : ضَرْبُ الحَجَرِ وغَيْرِه بالمِنْقِارِ ، يُقَالُ : فلانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ ، أي : الأصْلِ ، والمِنْقِارُ : حَدِيدَةٌ كالفأسِ تُقْطَعُ بها الحِجَارَةُ ، ومِنْهُ : مِنْقِارُ الطائِرِ ؛ لأنه يَنْقُرُ بِهِ ، وذكْرُ النَّقيرِ هُنَا تَمْثِيلٌ ، والغَرَضُ منه ، أنَّهم يَبْخَلُونَ بأقلِّ القَلِيلِ . قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } . قال قَتَادَة : المرادُ أنَّ اليهودَ يَحْسُدُونَ العَرَبَ على النُّبوةِ ، وما أكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِمُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - . وقال ابنُ عَبَّاسٍ ، والحَسَنُ ، ومُجَاهدٌ وجَمَاعَةٌ ] : المراد بـ " الناس " رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَسَدُوهُ على ما أحَلَّ اللهُ له من النِّساءِ ، وقالوا : " ما له هم إلا النكاح " وهو المرادُ بقوله : { على ما آتاهم الله من فضله } ، وقيلَ حَسَدوهُ على النُّبوةِ ، والشَّرفِ في الدينِ والدنيا ، وهذا أقْربُ ، وأوْلَى . وقيل : المرادُ بـ { ٱلنَّاسَ } محمدٌ وأصحابه ، ولمّا بيَّن [ اللَّهُ ] تعالى أنَّ كثرةَ نِعَمِ اللَّهِ [ عليهِ ] صَارَ سبباً لحَسَدِ هؤلاءِ اليهودِ ، بَيَّنَ ما يدفع ذلك الحَسَدَ ، [ فقال ] { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } ، أيْ أنَّهُ جَعَلَ فِي أوْلادِ [ إبرَاهِيمَ ] جماعةً كثيرين ، جمعُوا بَيْنَ النبوةِ ، والملْكِ والحكمة ، وأنْتُم لا تَعْجَبُونَ من ذلك ، ولا تَحْسُدُونهم ، فَلِمَ تَتَعَجَّبُونَ من حالِ محمد ولِمَ تَحْسُدُونهُ ؟ والمرادُ بـ { آلَ إِبْرَاهِيمَ } دَاوُدُ ، وسُلَيْمانُ - عليهما السلام - وبـ { ٱلْكِتَابَ } مَا أنْزَلَ عليهم وبـ { َٱلْحِكْمَةَ } النبوةُ . فمن فَسَّر { ٱلْفَضْلُ } : بِكّثْرةِ النساءِ ، والمُلْكِ العَظيمِ ، والمعنى : أنَّ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ أوتيا مُلْكاً عَظِيماً ، وكان لسُليمانَ صلوات الله وسلامه عليه ألفُ امرأةٍ : ثلاثُمائَةٍ مُهْريَّة ، وسَبْعُمائة سُرِّيَّة ، وكان لداود - عليه السلام - مائةُ امْرَأةٍ ، ولم يكُنْ لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلاَّ تِسْعُ نِسْوةٍ ، فلمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ، سَكتُوا . وقوله : { فمنهم من آمن به } ، الضميرُ في به عَائِدٌ على " إبراهيم " أوْ على " القرآن " أوْ على الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، أوْ عَلَى ما أُوتيه إبراهيم - عليه السلام - فإنْ عَادَ إلى مُحَمدٍ ، فالمرادُ بالذين آمنُوا به ، الذين أُوتُوا الكتابَ ؛ آمن بعضُهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سلام ، وأصْحَابه ، وبَقِيَ بعضهم على الكُفْرِ والإنْكارِ ، وكذلك إنْ عادَ إلَى مَا أُوتِيه إبراهيم - علّيه السلام - قال السديُّ : الهاءُ في " بِهِ " و " عنه " رَاجِعَةٌ إلى إبْرَاهِيم ، وذلك أنَّهُ زَرَعَ ذَاتَ سَنَة ، وزرع الناسُ [ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ] فَهَلَكَ زَرْعُ الناسِ ، وَزَكَا زَرْعُ إبْراهيمَ - عليه السلامِ - فاحتاج الناسُ إلَيْه ، فكان يقولُ : " من آمن بي أعطيته " فمن آمَنَ ، أعْطَاهُ مِنْه ، [ وَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ ، منعه مِنْه ] ، وإنْ عاد إلى القُرْآنِ ، فالمعنى : أنَّ الأنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام - وأتْباعَهمُ معهم ، صَدَّقُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وقال آخُرون : المرادُ [ أنَّ ] أولئِكَ الأنبياءَ مع ما خُصُّوا به مِنَ النُّبوةِ ، والمُلْكِ ، جَرَتْ عادَةُ أممِهمْ : أنْ آمَنَ بعضُهم ، وكَفَرَ بعضُهم ، فَلاَ تَتَعَجَّب يا محمدُ ، مِنْ أمتِكَ ، فإنَّ أحْواَلَ جَميعِ الأمَمِ هكذا ، وذلك تَسْلِيةٌ له - عليه السلام - . قوله : { ومنهم من صد عنه } قَرَأ الجُمْهُورُ " صَدَّ " بفتح الصَّادِ ، وقرأ ابنُ مسعودٍ ، وابنُ عباسٍ ، وعكرمةُ : " صُدًّ " بضمها ، وقرأ أبُو رَجَاء ، وأبو الجَوْزَاءِ : بِكَسْرِهَا ، وكلتا القِرَاءتين على البِنَاء للمفعولِ ، إلا أنَّ المضاعَفَ الثُّلاثِيَّ ، كالمعْتَلِّ العَيْنِ منه ، فيجوزُ في أوله ثلاثُ لغاتٍ ، إخْلاَصُ الضَّمِّ ، وإخلاصُ الكَسْرِ ، والإشمامُ . قوله : { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } ، أيْ : كَفَى بجهنَّمَ [ في ] عذابِ الكُفَّارِ سعيراً والسَّعيرُ : الوقودُ ، وهو تَمْيِِيزٌ ، فإنْ كان بِمَعْنَى التهابٍ واحْتِرَاقٍ ، فَلاَ بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : كَفَى بسعيرِ جَهَنَّمَ سَعِيراً ؛ لأنَّ تَوَقُّدَهَا ، والتِهَابَهَا لَيْسَ إيَّاهَا ، وإنْ كان بمعنى : مُسَعَّرِ ، فلا يَحْتَاجُ إلى حَذْفٍ .