Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 62-63)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان : الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا ، والتَّقْدير : وإذا قيل لَهمُ : تعالَوْا إلى ما أنْزل اللَّهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون عَنْك صُدُوداً ، ثُمَّ جاءُوك يَحْلِفُون باللَّهِ إن أردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً ، يعني : أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك ، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك ، ويَحْلِفُون باللَّهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق ، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه ؛ كقوله : [ السريع ] @ 1818 - إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ @@ فقوله : " وبُلِّغْتَهَا " [ كلامٌ ] أجْنَبِيٌّ اعْتُرِض به ، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ ، وكذلك الآية ؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم ، فإنه - تعالى - حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ ، مع أنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به ، ويَصُدُّون عن الرَّسُول ، مع أنَّهم أمِرُوا بطاعته ، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم ؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، فقال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ ، قاله الحسن البَصْرِيّ ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ . الثاني : أنه - تعالى - لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت ، وفِرارِهم من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عند رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ ، قال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يَعْني : إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا ، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن ، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك ، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم أبَوْا ، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة ، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ : بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } ومعناه : أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ ، قال : هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني : لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه - [ تعالى ] - . قوله : { فَكَيْفَ } يجوز فيها وَجْهَان : أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ ، وهو قول الزَّجَّاج ؛ قال : تقديره : فكَيْفَ تَرَاهُم ؟ والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيْف صنيعُهُم في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم ؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف ، والبَاءُ في " بِهَا " للسَّببيَّة ، و " مَا " يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة ، والعَائدُ مَحْذُوف . فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية قال الزَّجَّاج : [ المراد ] بالمُصِيبَة : قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ، جَاءُوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وطالَبُوا عُمَر بِهِ ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة . وقال الجُبَّائِيُّ : المُراد بـ " المصيبة " هُنَا : ما أمر اللَّهُ - تعالى - نَبِيَّهُ من أنَّه لا يَسْتَصحبهُم في الغَزَوات ، وأنَّه يَخُصُّهم بمزيد الإذْلاَل والطَّرْدِ عن حَضْرتِهِ ، وهو قوله - تعالى - : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 60 ] ، إلى قوله : { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] ، وقوله : { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : 83 ] ، وهذا يُوجِب لَهُم الذُّلَّ العَظيم ، وإنما أصَابَهُم ذلك لأجْلِ نفاقهم . وقوله : " ثم جاءوك " أي : وقْتَ المُصِيبَةِ يحلفون ويعْتَذِرُون ، وأنَّا ما أرَدْنَا بما كان مِنَّا إلا الإصْلاحَ ، وكانوا كَاذِبين ؛ لأنَّهُم أضْمَرُوا خِلاف ما أظْهَرُوهُ . وقال أبو مُسْلِم : إنه - تعالى - لمَّا أخْبَر عن المُنَافِقِين ، ورغبتهم في حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، وكَراهتهم في حُكْمِ الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - أنه سَيُصيبُهم مَصَائِب تُلْجِئُهم إلَيْه وإلى أَن يُظْهِرُوا الإيمَانَ لَهُ ، ويَحْلِفُون أنَّ مُرَادَهُم الإحْسَان والتَّوفِيق ، قال : ومن عَادَةِ العَرَبِ عند التَّبشير والإنْذَارِ أن يقُولُوا : كيف أنت إذا كان كَذَا وكَذا ؛ ومثله قولُه - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران : 25 ] ، ثم أمرهُ - تعالى - إذا كان مِنْهمُ ذلِك ، أن يُعْرِضَ عَنْهُم ويَعظُهم . وقال غيره : المراد بـ " المصيبة " : كُلُّ مُصِيبةٍ تُصيبُ المُنَافِقِين في الدُّنْيَا والآخِرَةِ . قال القُرْطُبِيّ : وقيل : إن قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } نزل في شَأنِ الذين بَنَوْا مَسْجِد الضِّرار ، فلما أظهر اللَّهُ - تعالى - نِفَاقَهُم ، وأمرهم بهَدْمِ المَسْجِد - حَلَفُوا للرَّسُول صلى الله عليه وسلم دِفَاعاً عن أنْفُسهم : ما أردنا بِبِنَاء المَسْجِد إلاَّ طاعة اللَّه ومُوافَقَةِ الكِتَابِ . قوله : " يحلفون " حالٌ من فَاعِل جَاءُوك ، و " إن " نافية ، أي : ما أردْنَا و " إحساناً " مَفْعُول به ، أو اسْتِثْنَاء على حَسَبِ القوْلَيْن في المسْألة . فصل في تفسير الإحسان والمراد بـ " الإحسان " قيل : ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسُول إلاَّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا ، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا . وقيل : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر ، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمَ . وقيلَ : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك ، إلا أنَّك لا تَحْكُمُ إلاَّ بالحقِ ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن ، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا . وقال الكَلْبي : " إلا إحساناً " في القَوْل " وتوفيقاً " صواباً . وقال ابن كَيْسان : حقَّا وعَدْلاً ؛ نظيرُه : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } [ التوبة : 107 ] ، وقيل : هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم . ثم قال : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أي : من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة . ثم قال : " فأعرض عنهم " وهذا يُفيدُ أمْرَيِن : الأوّل : أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه ، غير مُلْتَفِت إليه . الثاني : أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله : اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم ، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم ، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ ، فربما يُجَرِّئُهُ ألاَّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة ، فَيَزْدَاد الشَّرُّ ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ . ثم قال : " وعظهم " أي : ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ ، وخَوِّفْهُم بعقاب اللَّه - تعالى - في الآخِرَةِ ، كما قال - تعالى - : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] . ثم قال - تعالى - : { فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } . قوله تعالى : " في أنفسهم " فيه أوجه : الأول : أن يتعلّق بـ " قل " ، وفيه معنيان : الأوّل : قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم أحد ؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة . الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق . الثالث من الأوجه : أن يتعلق بـ " بليغاً " ، أي قولاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً . قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مَذْهَبُ الكُوفيين ؛ إذ فيه تقدِيم مَعْمُول الصِّفَةِ على المَوْصُوف ، لو قُلْت : " جَاء زَيْداً رجلٌ يَضْرِبُ " ، لم يَجُزْ عند البَصْريين لأنه لا يتقدم المعْمُول إلا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيم العَامِل ، والعَامِلُ هُنَا لا يجوزُ تَقْدِيمُه ؛ لأن الصِّفَة لا تَتَقَدَّم على المَوْصُوف ، والكُوفِيُّون يُجِيزُون تَقْديم مَعْمُول الصِّفَة على الموصُوف ، وأمَّا قَوْل البَصْريَّين : إنه لا يَتَقدَّم المَعْمُول إلا حَيْثُ يَتَقدَّم العَامِل فيه بَحْثٌ ؛ وذلك أنَّا وجدْنا هذه القَاعِدَة مُنْخَرمَة في نَحْوِ قوله : { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] فـ " اليتيم " مَعْمُول لـ " تقهر " و " السائل " مَعْمُول لـ " تنهر " ، وقد تقدَّمَا على " لاَ " النَّاهِيَة والعَامِل فيهما لا يجوزُ تَقْدِيمُه عليهما ؛ إذا المجْزُوم لا يتَقَدَّم على جَازِمِه ، فقد تَقَدَّم المَعْمُول حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل . وكذلك قَالُوا في قوله : [ الطويل ] @ 1819 - قنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ بِمَا كَانَ إيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا @@ خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في " كان " ضَمِيرَ الشَّأنِ ، و " عَطِيَّة " مبْتَدأ و " عَوَّدَ " خبره حتى لا يلي " كان " معْمُول خَبَرها ، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه ، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم المَعْمُول ، وهو " إيَّاهُم " حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل ؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلاً رافعاً لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ ، نحو : زَيْد ضَرَب عَمْراً ، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر " لَيْس " عليها ، أجازه الجُمْهُور ؛ لقوله - تعالى - : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ووجه الدَّليل أن " يَوْم " مَعْمُولٌ لـ " مصروفاً " وقد تَقَدَّم على " لَيْسَ " ، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا . فصل في تفسير القول البليغ قيل المراد بـ " القَوْل البَلِيغ " : التَّخْوِيف باللَّه - عزَّ وجَلَّ - ، وقيل : تَوعَّدَهُم بالقَتْل إن لم يَتُوبُوا . وقال الحَسَن : القَوْلُ البَلِيغُ أن يَقُول لَهُم : إن أظْهَرْتم ما في قُلُوبكُم من النِّفَاقِ ، قُتِلْتُم ؛ لأنه يَبْلُغ في نُفُوسِهِم كُلَّ مَبْلَغٍ . وقال الضَّحَّاك : " فأعرضْ عَنْهُم وعِظْهُم " في المَلأ [ الأعْلى ] ، { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً } في السِّرِّ والخَلاَء . وقيل : هذا مَنْسُوخٌ بآيةِ القِتَالِ .