Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 1-5)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { حـمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } إن جعلت " حم " قسماً كانت الواو عاطفة ، وإن لم تكن الواو للقسم . وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } جواب القسم . وهذا عندهم من البلاغة ، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحد ، كقول أبي تمام : @ 4388ـ … وَثَنَـايَـاك إنَّهـا إغْريـضُ @@ إن أريد بالكتاب القرآن ، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك . والضمير في " جَعَلْنَاهُ " على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم يصرح بذكره . والجَعْلُ في هذا تصيير ، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقناه . فصل ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين : الأول : أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم . الثاني : أن يكون القسم واقعاً على قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } . وفي المراد بالكتاب قولان : أحدهما : أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً . والثاني : المراد بالكتاب الكتابة والخط ، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع ، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال ، وأبان ما يحتاج إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز ؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده . وقوله : " جَعَلْنَاهُ " أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب عربياً . وقيل : بيّناه . وقيل : سميناه وقيل وضعناه . يقال : جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً ، أي وصفه بهذا ، كقوله : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] و { جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } [ الحجر : 91 ] { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ } [ التوبة : 19 ] كلها بمعنى الوصف والتسمية . فصل احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه : الأول : أنها تدل على أن القرآن مجعول , والمجعول هو المصنوع المخلوق . فإن قيل : المراد به أنه سماه عربياً , فهذا مدفوع من وجهين : الأول : أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً ، وإن كان بلغة العرب ، وهذا باطل . الثاني : ( أنه ) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة ، والتسمية أيضاً كلام الله وذلك أنه جعل بعض كلامه ، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل . الثاني : أنه وصفه بكونه قرآناً ، وهو إنما سمي قرآناً ، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض ، وما كان ذلك كان مصنوعاً . الثالث : وصفه بكونه عربياً ، وإنما يكون عربياً ، لأن العرب اختصت بضوع ألفاضه واصطلاحهم ، وذلك يدل على أنه مجعول . والتقدير : حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ . ويؤكد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ـ : " يَا رَبَّ طَه وَيس ، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم " . وأجاب ابن الخطيب : بأن هذا الذي ذكرتموه حق ؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً ، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه . قله : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } كلمة " لَعَلَّ " للتمني والترجي ، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور ، وكان المراد ههنا : إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِيطُوا بمَعْنَاه . قوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا } متعلقان بما بعدهما ، ولا تمنع اللام من ذلك . ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما ؛ لأنهما كانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف ، ويجوز أن يكون " لدينا " متعلقاً بما تعلق به الجار قبله ، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه . وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز ( تقديمها ) على العامل المعنوي ، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله ، وأن يكونا حالين من " الكتاب " أو مِنْ " أُمِّ " . ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء ، وقال : " ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً ؛ لان الخبر لزم أن يكون " عَلِيًّا " من أجل اللام " . قال شهاب الدين : وهذا يمنع أن تقول : " إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً " . وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب بكسر الألف والباقون بالضم . والضمير في قوله " وَإنَّهُ " عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره . فصل قيل : أم الكتاب هو اللوح المحفوظ . قال قتادة : أم الكتاب أصل الكتاب ، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله . قال ابن عباس : ( رضي الله عنهما ) ـ : أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ : وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا ، فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21ـ22 ] . وقوله : { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } قال قتادة : يخبر عن منزلته وشرفه ، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا " لَعَلِيٌّ " رفيع شريف " حَكِيمٌ " أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة ، أو ذو حكمة بالغةٍ . قيل : المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ آل عمران : 7 ] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم . فإن قيل : ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان ؟ . فالجواب : أنه تعالى لما أثْبَتَ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات ، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه . قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } في نصب " صفحاً " خمسةُ أوجه : أحدها : أنه مصدر في معنى يضرب ؛ لأنه يقال : ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال : @ 4389ـ اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ @@ والتقدير : أفنصفح عنكم الذكر ، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً ، يُنْكِرُ عليهم ذلك . الثاني : أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين . الثالث : أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، فيكون عامله محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ ٱللَّهِ } [ النمل : 88 ] قاله ابن عطية . الرابع : أن يكون مفعولاً من أجله . الخامس : أن يكون منصوباً على الظرف . قال الزمخشري : و " صَفْحاً " على وجهين : إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم ؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه ، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً ؟ فينتصب على الظرف ، نحو : ضَعْهُ جانباً ، وأمْش جنباً ، وبعضده قراءة : صُفْحاً بالضم . يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ وسُمَيْطِ بن عُمَر وشُبَيْل بن عَزرَةَ قرأوا : صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات : أحدهما : ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح ، ويكون ظرفاً . وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح ؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ . والثاني : أنه جمع صَفُوحٍ ، نحو : صَبُورٍ ، وصُبْر ، فينتصب حالاً من فاعل " يَضْرِبُ " وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء ، أي : أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ . وقد تقدم ما فيه . قوله : { أَن كُنتُمْ } قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر ، على أنها شرطيه . وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و " إنْ " إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان . وأجاب الزمخشري : أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير : " إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي " ، وهو عالم بذلك ، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم . وقيل : المعنى على المُجَازَاة ، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم ، أي إنكم غير متروكين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين . وهذا أراد أبو البقاء بقوله : وقرىء : إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب ، والباقون بالفتح على العلة ، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله : @ 4390ـ أَتَجْـزَعُ أَنْ بَـانَ الخَلِيـطُ المُـوَدِّعُ … @@ ومثله قوله : @ 4391ـ أَتَجْـزَعُ أَن أُذْنَـا قُتَيْبَـةَ جُزَّتَـا … @@ يروى بالكسر والفتح ، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة . وقرأ زيدُ بنُ عليّ : إذا بذالٍ عوضِ النون وفيها معنى العلة ، كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] . فصل قال الفراء والزجاج : يقال : ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ . أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ ، وقوله : " صَفْحاً " أي إعراضاً ، والأصل فيه : إنك تَوَلَّيْتَ بصَفْحَةِ عُنُقِكَ . والمراد بالذكر عذابُ الله . وقيل : أفنرُدُّ عنكم النصائح والمراعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين ، وقيل : أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن ، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أفنترك عنكم الوحي ، ونمسك عن إنزال القرآن ، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان ؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ ، قال قتادة : والله لو كان هذا القول رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله . وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ . وقال الكسائي : أفنطوي عنكم الذّكْرَ طَيًّا ، فلا تدعون ولا توعظون ، وقال الكلبي : أَفَنَتْركُكُم سُدًى ، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ . وقال مجاهد والسدي : أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم .