Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 45-56)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا } فيه ثلاثة أوجه : أظهرها : أن من موصولة ، وهي مفعولة للسؤال ، كأنه قيل : وأسْأَل الذي أرسلناهُ من قبلك عَمَّا اُرْسِلُوا به ، فإنهم لم يرسلوا إلا بالتوحيد . الثاني : أنه على حذف حرف الجر على أنه المسؤول عنه والمسؤول الذي هو المفعول الأول محذوف تقديره واسْأَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَاهُ . الثالث : أن من استفهامية ، مرفوعة بالابتداء ، و " أرسلنا " خبره والجملة معلقة للسؤال فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض . وهذا ليس بظاهر بل الظاهر أن المعلق للسؤال إنما هو الجملة الاستفهامية من قوله : " أَجَعَلْنَا " . فصل اختلف في هؤلاء المسؤولين ، فروى عطاء عن ابن عباس ( رضي الله عنهم ) قال : " لما أُسْرِيَ بالنَّبِي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بعث له آدم وولده من المرسلين فَأّذَّنَ جبْريلُ ثم أقام وقال : يا محمد تقدم فصل بهم ، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل : سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا … الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت ، ولست شَاكاً فيه " وهذا قول الزهري ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد ؛ قالوا : جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم ، فلم يسأل ولم يشك . وقال أكثر المفسرين : سَلْ مُؤْمِني أهْلِ الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد ، وهو قول ابن عباس في سائر الروايات ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن ، ويدل عليه قراءة عبد الله وأبي : واسأل الذين أرسلنا إليهم قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسوله بعبادة غير الله عز وجل ـ . وقال عطاء سؤال الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع ، فكأن المراد منه : انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبرها بفهمك . قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ … } لما طعن كفار قريش في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بكونه فقيراً ، عديم المال والجاه بين الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن أورد المعجزاتِ القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل ، أورد عليه فرعونُ هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال : إنه غَنِيٌّ كثيرُ المالِ والجاهِ ، ألا ترون أني حصل لي ملك مصر ، وهذه الأنهار تجري من تحتي ، وأما موسى فإنه فقير مهين ، وليس له بيانٌ ولسان ، والرجل الفقير كيف يكون رسولاً من عند الله الملك الكبير ؟ ! . فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش بمكة ، وهي قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] قد أوْرَدَهَا بعينها فرعون على موسى " ثم انتقمنا منهم فأغرقناهم " : فيكون الأمر في حق أعدائك هكذا . فثبت أنَّه ( ليس ) المقصود من إعادة هذه القصة عينها ، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة . قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } قال الزمخشري : فَإِن قلت : كيف جاز أن يجاب لَمَّا بإذا المفاجأة ؟ ! . قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فأجَأُوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ . قال أبو حيان : ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه من أن " إذا " الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر ، تقديره : فاجأ ، بل المذاهب ثلاثة : إما حرف فلا يحتاج إلى عامل ، أو ظرف مكان ، أو ظرف زمان . فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر ، كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر . نحو : خَرَجْتُ فَإذَا زَيْدٌ قَائِمٌ تقديره : خَرَجْتُ ففي المكان الذي خرجت فيه زيدٌ قائمٌ ، أو ففي الوقت الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ . وإن لم يذكر بعد الاسم خبر ، أو ذكر اسم منصوب على الحال ، فإن كان الاسم جُثَّة ، وقلنا : إنها ظرف مكان ، كان الأمر واضحاً ، نحو : خَرَجْتُ فَإِذَا الأَسَدُ ، أي فَبالحَضرَةِ الأَسَدُ ، أو فَإِذَا الأَسَدُ رابضاً . وإن قلنا : إنها زمان كان على حذف مضاف ، لئلا يخبر بالزمان عن الجثة ، نحو : خَرَجْتُ فَإذَا الأَسَدُ ، أي ففي الزمان حُضُور الأَسَدِ ، وإنْ كَان الاسم حَدَثاً جاز أن يكون مكاناً أو زماناً . ولا حاجة إلى تقدير مضاف نحو : خَرجْتُ فَإذَا القِتَالُ . إن شئت قدرت : فبالحَضْرَة القتالُ ، أو ففي الزمانِ القتالُ . قوله : { إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ } جملة واقعة صفة لقوله : " مِنْ آيَةٍ " فنحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ ، وبالنصب اعتباراً بالمحلِّ . وفي معنى قوله : " أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا " أوجه : أحدها : قال ابن عطية : هم أنهم يستعظمون الآية التي تأتي لجدَّة أمرها وحدوثه ، لأنهم أَنِسُوا بتلك الآية السابقة فيعظُم أمرُ الثانية ويكبرُ وهذا كقول الشاعر : @ 4409ـ عَلَى أَنَّها تَعْفُو الكُلُومَ وَإِنَّمَا تُوَكَّلُ بالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي @@ الثاني : قيل : إن المعنى إلا هي أكبر من أختها السابقة ، فحذف الصفة للعلم بها . الثالث : قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : هو كلام مناقض ؛ لأن معناه ما من آية من التِّسْع إلا وَهِيَ أكبر من كل واحدة ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة . قلْتُ : الغرض بهذا الكلام وصفين بالكِبَر ، لا يَكَدنَ يَتَفَاوَتْنَ فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتقارب في الفضل التقارب اليسير تختلف آراء الناس في تفضيلها ، فبعضهم يفضل هذا وبعضهم يُفَضِّل هذا ، وربما اختلف آراء الواحد فيها ، كقول الحماسي : @ 4410ـ مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لآقَيْتَ سَيِّدَهُمْ مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي @@ وقالت الأنبارية في الجملة من أبنائها : ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ ، هُمْ كَالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لاَ يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا . انتهى كلامه . وأوله فظيع جداً ، كأن العبارات ضاقت عليه حتى قال ما قال ، وإن كان جوابُهُ حسناً فسُؤاله فظيع . فصل ذكر أنه تعالى أرسل موسى بآياته ، وهي المعجزات التي كانت من موسى إلى فرعون وملئه أي قومه فقال موسى : { إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . فَلَمَّا جَاءَهُ بتلك الآيات { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } استهزاء قيل : إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً ، ثم أخذه فصار عصاً كما كان فضحكوا . ولما عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا . ثم قال : { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها وَأَخَذْنَاهُمْ بالعَذَابِ أي بالسنين والطوفان ، والجراد والقمل والضفادع والدم والطَّمس ، فكانت هذه دَلالات لموسى وعذاباً ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن الكفر إلى الإيمان . قالت المعتزلة : هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فإنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان . قوله : { وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلسَّاحِرُ } تقدم الكلام فيه في النور ، والمعنى أنهم لما عاينوا العذاب قالوا لموسى يا أيها السَّاحرُ ، أي يا أيها العالم الكامل الحاذق ، وإنما قالوا هذا توقيراً وتعظيماً ؛ لأن السحر عندهم كان علماً عظيماً ، وصفةً محمودةً . وقيل : معناه " يا أيها الذين غَلَبَنَا بسحره " . وقال الزجاج : خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر . فإن قيل : كيف سَمَّوهُ بالساحر مع قولهم : إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ؟ ! . فالجواب من وجوه : الاول : أنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً ، لأنهم يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العمل العجيب الكامل : إنه أتى بالسحر . والثاني : أيُّهَا السَّاحِر في زعم الناس ، ومتعارف قوم فرعون ، كقوله : { وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه . الثالث : أن قولهم : { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } وقد كانوا عازمين على خلافه ، ألا ترى إلى قوله { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } فتسميتهم إياه بالساحر لا ينافي قوله : { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } . قوله : { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي بما أخبرنا عن عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا إننا لمهتدون مؤمنون فدعا موسى فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا فذلك قوله عز وجل : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي نكثوا ذلك العهد ، يعني يَنْقُضُونَ عَهدَهُمْ ويُصرون على كفرهم . قوله تعالى : { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } لما ذكر معاملة قوم فرعون مع موسى ذكر أيضاً معاملة فرعون معه . فقال { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } أي أظهر هذا القول . { وَقَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } أي أنهار النيل ومعظمها نهر الملك ، ونهر طُولون ، ونهر دِمياط ، ونهر تنيس . قيل : كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله ، وقوة جاهه على فضيلة نفسه . ثم قال : { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } من تحت قصري . وقال قتادة : تجري من بين يدي في جناني وبساتيني ، وقال الحسن : بأمري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي . وقيل من ملك القِبْطَ يسمى فرعون ، ومن ملك اليهود يسمى قبْطُون والمعروف مالخ ، ومن ملك الصابئة يسمى نُمرود ، ومن ملك البربر يسمى جالوت ، ومن ملك الهند يسمى بهمن ، وقيل يعفور ، ومن ملك فرغانة يسمى الإخشيد ، ومن ملك العرب من قبل العجم يسمى النعمان . قوله : { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي } يجوز في " وهذه " وجهان : أحدهما : أن تكون مُبْتَدَأَةً ، والواو للحال ، و " الأنهار " صفة لاسم الإشارة ، أو عطف بيان و " تَجْرِي " الخبر والجملة حال من ياء " لِي " . والثاني : أن هذه معطوفة على " مُلْكِ مِصْرَ " و " تجري " على هذا حال أي أليس ملك مصر وهذه الأنهار جارية ؟ ! أي الشيئان . قوله : " تبصرون " العامة على الخطاب لمن ناداهم ، وقرأ عيسى بكسر النون أي تُبْصِرُونِي وفي قراءة العامة المفعول محذوف أي تبصرون مُلْكِي وعَظَمَتِي . وقرأ فَهْدُ بْنُ الصَّقْر : يُبْصِرُونَ بياء الغيبة ، إما على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وإما رداً على قوم موسى . قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } في أم هذه أقوال : أحدها : أنها منقطعة ، فتقدر بـ " بَلْ " التي لإضراب الانتقال ، وبالهمزة التي للإنكار . والثاني : أنها بمعنى بل فقط ، كقوله : @ 4411ـ بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رُوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ @@ أي بل أنت . الثالث : أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى . قال أبو البقاء : " أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلة معادلة ؛ إذ المعنى أنا خير منه أم لا ؟ وأينا خير ؟ " وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما مَعْنيَانِ مختلفان ، فَإِنَّ الانقطاع يقتضي إضْراباً إما إبْطالاً ، وإِما انتقالا . الرابع : أنها متصلة ، والمعادل محذوف ، تقديره : أَمْ تُبْصِرُونَ ؟ وهذا لا يجوز إلا إذا كانت " لا " بعد " أم " ، نحو : أتقوم أم لا ؟ أي أم لا تقوم ، وأزيد عندك أم لا ؟ أي أم لا هو عندك أما حذفه دون معادل فلا يجوز . وقد جاء حذف " أم " مع المعادل ، وهو قليل جداً ، قال الشاعر : @ 4412ـ دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِني لأَمْرِهَا سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا ؟ @@ أي أم غيّ . ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذه هي أم المعادلة ، أي أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يُبْصَر عنده وهو أنه خير من موسى . قال : وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ؛ لأن المعنى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أمْ تُبْصِرُونَ ؟ إلا أنه وضع قوله : " أنا خير " موضع " تبصرون " لأنهم إذا قالوا : أنت خير فَهُمْ عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المُسَبَّب . قال أبو حيان : وهذا متكلف جداً ، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق فإن كان المعادل جملة فعلية ، كان السابق جملة فعلية ، أو جملة إسمية يتقدر منها جملة فعلية ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] ؛ لأن معناه أو صمتُّم وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية لأن قَوْلَهُ : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً لقوله : أفَلا تُبْصِرُونَ ، وإن كان السابق اسماً كان المعادل اسماً أو جملة فعلية يتقدر منها اسم نحو قوله : @ 4413ـ أَمُـخْـدَجُ اليَـدَيْـنِ أَمْ أَتَمَّـتِ ؟ @@ " فأتمت " معادل للاسم والتقدير : أم مُتِمًّا ؟ . قال شهاب الدين : وهذا الذي رده على الزمخشري رده على سيبويه ، لأنه هو السابق به وكذا قوله أيضاً : إنه لا يحذف المعادل بعد " أم " وبعدها " لا " فيه نظر في تجويز سيبويه حذف المعادل دون لا فهو رد على سيبويه أيضاً . قوله : " ولا يكاد يبين " هذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على الصلة وأن تكون مستأنفة وأن تكون حالاً . والعامة على يُبِينُ من أَبَانَ ، والباقون : يَبِينُ بفتح الياء من بَانَ أي ظَهَرَ . فصل قال أكثر المفسرين : " أم " هنا بمعنى " بل " وليس بحرف عطف . قال الفراء : الوقف على قوله أم وفيه إضمار مجاز ( ه ) أفلا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ ؟ لكنه اكتفى بلفظ " أم " كما تقول لغيرك : " أَتَأْكُلُ أَمْ " أي أَتَأْكُلُ أَمْ لاَ تَأْكُلُ ؟ لكنك تقتصر على كلمة أم اقتصاراً . قال أبو عُبَيْدَة : معناها بل أنا خير ، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله : أفلا تبصرون . ثم ابتدأ فقال : أم أنا خير ، يعنى بل أنا خير . وقال الباقون أم هذه متصلة ، لأن المعنى أفلا تُبْصرُونَ أَمْ تُبْصُرونَ ؟ إلا أنه وضع قوله : " أنا خير " موضع : " تبصرون " ، لأنهم إذا قالوا له : أََنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَراءُ . قوله : { مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ } أي ضعيف حقير يعني موسى { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } أَيْ يُفْصِحُ لسانُهُ لرُتّةٍ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ . فإن قيل : أليس أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يُزيل الرُّتةَ عن لسانه بقوله : { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي } [ طه : 27و28 ] فأعطاه الله ذلك بقوله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 36 ] فكيف عابه فرعون بتلك الرُّتةِ ؟ ! . فالجواب من وجهين : الأول : أن فرعون أراد بقوله : " ولا يكاد يبين " حجته التي تدل على صدقه ، ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام . والثاني : أنه عابه بما كان عليه أولاً ، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام مكث عند فرعون زماناً طويلاً ، وكان في لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهد عليه من الرُّتةِ ؛ لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عَنْهُ . قوله تعالى : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ } قرأ حفص أَسْوِرَةٌ كأَحْمِرةٍ . والباقون أَسَاوِرَة ، فأسورة جمع " سِوَارٍ " كحِمَارٍ ، وأَحْمِرَةٍ ، وهو جمع قلة . وأَسَاوِرَةٌ جمع إِسْوَار بمعنى سُوار ، يقال : سوارُ المرأةِ ، وأَسْوَارُهَا . والأصل أَسَاوِير بالياء ، فعوض من حرف المد تاء التأنيث ، كبطريقِ وبَطَارِقَةٍ ، وزِنْدِيقٍ وزَنَادِقَةٍ . وقيل : بل هي جمع أَسْوِرَة فهي جمع الجمع . وقر أبي والأعمش وتروى عن أبي عمرو أَسَاوِرُ دون تاء . وروي عن أبي أيضاً وعبد الله : أَسَاوِير . وقرأ الضحاك : أَلْقَى مبنياً للفاعل ، أي الله تعالى وَأَسَاوِرَةً نصباً على المفعولية و " مِنْ ذَهَبٍ " صفة لأساورة . ويجوز أن تكون " من " الداخلة على التمييز . فصل ومعنى الكلام أن عادتهم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوّروه بسوار من ذهب وطَوَّقُوه بطَوْق من ذهب ، فطلب فرعون من موسى عليه الصلاة والسلام مثل عادتهم ، وحاصل الكلام أن فرعون كان يقول : أنا أكثر منه مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من عند الله لأن منصب النوبة يقتضي المَخْدُوميَّةَ ، والأخسّ لا يكون مخدوماً للأشرف ثم قال : { أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } متتابعين يعاون بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويُعِينُونَهُ على أمره ويجوز أن يكون المراد مقترنين به من قولك : قَرَنْتُهُ بِِهِ . قوله تعالى : { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي وجدهم جُهَّالاً فحملهم على الخفة والجهل ، يقال : استخفه عن رأيه ، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصواب " فَأَطَاعُوهُ " على تكذيب موسى ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } حين أطاعوا ذلك الفاسق الجاهل . قول : { فَلَمَّآ آسَفُونَا } أغضبونا , حُكي أن أن ابن جُرَيْج غضب في شيء فقيل له : أتغضب يا أبا خالد ؟ فقال فقد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول : فَلَمَّآ آسَفُونَا أي أغضبونا { انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } واعلم أن ذرك لفظ الأسف في حق الله تعالى ، وذكر لفظ الانتقام كل واحد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى إرادة الغضب ومعنى الانتقام إرادة العقاب بجُرم سابق . وآسَفُونَا منقول بهمزةِ التعديةِ من أَسِفَ بمعنى غضب ، والمعنى : أغضبونا بمخالفتهم أمْرَنَا . وقال بعض المفسرين معناه : " أَحْزَنُوا أَوْلِيَاءَنَا " . قوله : " فجعلناهم سلفاً " قرأ الأخوان سُلُفاً بضمتين ـ ، والباقون بفتحتين ، فأما الأولى فتحتمل ثلاثة أوجه : أحدهما : أنه جمع سَليفٍ ، كرَغِيفٍ ، ورُغُفٍ ، وسمع القاسم بن معن من العرب معنى سَليف من الناس والسليفُ من الناس كالغَرِيقِ منهم . والثاني : أنها جمع ساَلِف ، كَصَابرٍ ، وصُبُرٍ . الثالث : أنها جمع سَلَفٍ كَأَسَدٍ وأُسُدٍ . والثانية تحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون جمعاً لسَالِفٍ ، كحَارِسٍ وحَرَسٍ ، وخَادِمٍ وخَدَمٍ ، وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير ، إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فَعَلٍ . والثاني : أنه مصدر يطلق على الجماعة ، تقول : سَلُفُ الرَّجُلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي تقدم ، والسلف : كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ من عمل صالحٍ ، أو قرضٍ فهو سَلَفٌ ، وسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ المتقدمون ، والجمع أَسْلاَفٌ وسُلاَّفٌ قال طفيل : @ 4414ـ مَضَوْا سَلَفاً قَصَدَ السَّبِيلُ عَلَيْهِـم صُرُوفُ المَنَايَـا بِالرِّجَـالِ تَقَلَّـبُ @@ وقرأ عليٌّ ومُجَاهِدٌ رضي الله عنهما سُلَفاً بضم السين . وفيه وجهان : أشهرهما : أنه جمع سُلْفَةٍ كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ . والسُّلْفَة الأُمَّةُ . وقيل : الأصل سُلُفاً بضمتين ، وإنَّما أبدل من الضمة فتحة . وقوله : " مَثَلاً " إما مفعول ثان إن كانت بمعنى صير ، وإلاَّ حالاً . قال الفراءُ والزجاجُ : جعلناهم متفرقين ليتعظ بهم الآخرون ، وهم كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى ومثلاً للآخرِينَ أي عِظة لمن بقي بعدهم وعبرة . قال أبو علي الفارسي : المَثَلُ واحد يراد به الجمع ، ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه ( على ) أكثر من واحد قوله تعالى : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] . فأدخل تحت المَثَل شَيْئَيْن وقيل : المعنى سلفاً لكفار هذه الأمة إلى النار ، ومثلاً لمن يجيء بعدهم .