Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 110-110)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إذ قال الله } فيها أوجه : أحدها : أنه بدل من " يَوْمَ يَجْمَعُ " قال الزمخشريُّ : " والمعنى : أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ ، وبتعديدِ ما أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً ، وتجاوزَ بعضُهُمُ الحَدَّ ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ " ، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه ، تأوَّلَ فيه " قَالَ " بـ " يَقُولُ " ، وأنَّ " إذْ " ، وإنْ كانت للماضي ، فإنما وقعتْ هنا [ على ] حكاية الحال . يقولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِه : " كَأنَّكَ بِنَا وقد دخَلْنَا بلْدة كذا ، وصَنَعْنَا فيه كذا " ، قال - تبارك وتعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } [ سبأ : 51 ] ، وقال غيْرُهُ : معناه الدَّلالة على قُرْبِ القِيَامَةِ كأنَّها قَدْ قَامَتْ ، وكُلُّ ما هو آتٍ آتٍ ، كما يُقالُ : الجَيْشُ قد أتَى ، إذا قَرُبَ إتْيَانهم قال - تبارك وتعالى - : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] . الثاني : أنه منصوبٌ بـ " اذْكُرْ " مقدَّراً ، قال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : " ويجوزُ أن يكون التقديرُ : اذْكُرْ إذْ يَقُولُ " ، يعني أنه لا بد من تأويلِ الماضي بالمستقبلِ ، وهذا كما تقرَّر له في الوجْهِ قبله ، وكذا ابنُ عطيَّة تأوَّله بـ " يَقُولُ " ؛ فإنه قال : " تقديرُه : اذْكُرْ يا محمَّد إذْ " ، و " قَالَ " هنا بمعنى " يَقُولُ " ؛ لأنَّ ظاهر هذا القولِ ، إنما هو في يوم القيامة ؛ لقوله بعده { أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ } . الثالث : أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أي : ذلك إذْ قَالَ ، ذكره الواحديُّ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأن " إذْ " لا يُتَصَرَّفُ فيها ، وكذلك القولُ بأنها مفعولٌ بها بإضمار " اذْكُرْ " ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، اللهم إلا أنْ يريد الواحديُّ بكون خبراً ؛ أنه ظرفٌ قائمٌ مقام خبرٍ ، نحو : " زَيْدٌ عِنْدَكَ " فيجوز . قوله : { يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها ، و " ابْنَ مَرْيَمَ " صفة لـ " عِيسَى " نُصِب ؛ لأنه مضاف ، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة ، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفةَ الظاهرَ الضَّمَّةِ ، إذا وُصِفَ بـ " ابْن " أو " ابْنَة " ، ووقع الابنُ أو الابنةُ بين علمَيْنِ أو اسمَيْنِ متفقَيْنِ في اللفظِ ، ولم يُفْصَل بين الابْنِ وبيْنَ موصوفه بشيء ، تثبت له أحكامٌ منها : أنه يجوزُ إتْبَاعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نُونِ " ابْن " ؛ فيُفتح ؛ نحو : " يَا زَيْدَ [ زَيْدُ ] ابْنَ عَمْرٍو ، ويَا هِنْدَ [ هِنْدُ ] ابْنَةَ بَكْرٍ " بفتح الدال من " زَيْد " و " هِنْد " وضمِّها ، فلو كانت الضمةُ مقدَّرةً نحو ما نحن فيه ، فإنَّ الضمة مقدَّرة على ألفِ " عيسَى " فهل يُقَدَّر بناؤُه على الفتْحِ إتباعاً كما في الضمَّة الظاهرة ؟ فيه خلاف : الجمهورُ على عدمِ جوازه ؛ إذْ لا فائدة في ذلك ، فإنه إنما كان للإتباع ، وهذا المعنى مفقودٌ في الضمَّة المقدرة ، وأجاز الفراء ذلك ؛ إجراءً للمقدَّر مُجْرَى الظاهرِ ، وتبعه أبو البقاء ؛ فإنه قال : " يَجُوزُ أن يكون على الألِفِ من " عيسَى " فتحةٌ ؛ لأنه قد وُصِفَ بـ " ابْن " وهو بين عَلَمَيْنِ ، وأن يكونَ عليها ضمَّةٌ ، وهو مثلُ قولك : " يَا زَيْدَ [ زَيْدُ ] بْنَ عَمْرٍو " بفتح الدال وضمِّها " ، وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدِ ، ويَشْهَدُ له مسألةٌ عند الجميع : وهو ما إذا كان المنادَى مبنيًّا على الكسرِ مثلاً ؛ نحو : " يَا هَؤلاءِ " ، فإنهم أجازوا في صفته الوجهيْن : الرفع والنصب ، فيقولون : " يا هَؤلاءِ العُقلاَءِ والعُقَلاءُ " بنصب العقلاء ورفعها ، قالوا : والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدَّرة على " هؤلاءِ " ، فإنه مفردٌ معرفة ، والنصب على محلِّه ، فقد اعتبروا الضمة المقدَّرة في الإتباع ، وإنْ كان ذلك فائتاً في اللفظ ، وقد يُفَرَّقُ بأنَّ " هؤلاءِ " نحن مضطُّرون فيه إلى تقدير تلْكَ الحركةِ ؛ لأنه مفرد معرفةٌ ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا . وقال الواحديُّ في " يَا عيسَى " ويجوزُ أن [ يكونَ ] في محلِّ النصب ؛ لأنه في نية الإضافة ، ثم جعل الابن توكيداً له ، وكل ما كان مثل هذا ؛ جَازَ فيه الوجهانِ ؛ نحو : " يَا زَيْدَ [ زَيْدُ ] بْنَ عَمْرٍو " ؛ وأنشد : [ الرجز ] @ 2083 - يَا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بْنِ الجَارُودْ أنْتَ الجَوادُ ابْنُ الجَوَادِ ابْنُ الْجُودْ سُرَادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ @@ بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا ، وقال التبريزيُّ : الأظهرُ عندي أنَّ موضع " عِيسَى " نصب ؛ لأنك تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلمِ كالشيء الواحد المضافِ ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلام النحاة أصلاً ، بل يقولون : الفتحةُ للإتباعِ ، ولم يُعْتَدَّ بالساكنِ ؛ لأنه حاجزٌ غيرُ حَصِينٍ ، كذا قال أبو حيان : قال شهاب الدين : الذي قد قاله الزمخشريُّ - وكونه ليس من النحاة مُكَابَرَةٌ في الضَّرُوريَّاتِ - عند قوله : { إذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيم } : " عِيسَى في محل النصب على إتباع حركته حركة الابْنِ ؛ كقولك : " يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو " ، وهي اللغة الفاشيةُ ، ويجوزُ أن يكون مضموماً ؛ كقولك " يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو " ، والدليل عليه قوله : [ المتقارب ] @ 2084 - أحَارُ بنَ عَمْرٍو كأنِّي خَمِرْ … @@ لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضموم " . انتهى ، فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة ، واستشهد لها بالبيتِ ؛ لمخالفتِها اللغة الشهيرة . وقولنا : " المُفْرَد " تحرُّزٌ من المُطَوَّل ، وقولنا " المَعْرِفَة " تحرُّز من النكرة ؛ نحو : [ " يا رَجُلاً ابْنَ رَجُلٍ " إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه ، وقولنا : " الظاهر الضَّمَّةِ " تحرُّزٌ من نحو : ] " يَا مُوسَى بْنَ فُلانٍ " ، وكالآية الكريمة ، وقولنا بـ " ابْن " تحرُّزٌ من الوصف بغيره ؛ نحو : " يا زَيْدُ صَاحِبَنَا " ، وقولنا : " بين عَلَميْنِ أو اسمَيْن متفقين لفظاً " تحرُّزٌ من نحو : " يَا زَيْدُ [ بْنَ أخِينَا " ] ، وقولنا : " غيرَ مَفْصُولٍ " تحرُّزٌ من نحو : " يَا زَيْدُ العَاقِلُ ابْنَ عَمْرٍو " ؛ فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضَّمُّ ، وقولنا [ " وَصْفٌ " ] تحرُّزٌ من أن يكون الابْنُ خبراً ، لا صفة ؛ نحو : " زَيْدٌ ابْنُ عَمْرٍو " ، وهل يجوزُ إتباعُ " ابن " له فيُضمُّ نحو : " يا زيد بنُ عمرو " بضم " ابن " ؟ فيه خلافٌ . وقولنا : " أحْكَام " ، وقد تقدَّم منها ما ذكرنَاه من جوازِ فتحهِ إتباعاً ، ومنها : حَذْفُ ألفه خَطًّا ، ومنها : حَذْفُ تنوينه في غير النداء ؛ لأنَّ المنادى لا تنوينَ فيه وفي قوله : " ابْنَ مريمَ " ثلاثةُ أوجه : أحدها : أنه صفةٌ ؛ كما تقدَّم ، والثاني : أنه بدلٌ ، والثالث : أنه بيانٌ ؛ وعلى الوجهين الأخيرَيْن : لا يجوزُ تقديرُ الفتحة إتباعاً ؛ إجماعاً ، لأنَّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك شرطٌ . وأرَادَ بالنِّعْمَة : الجَمْع كقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] ، وإنَّمَا جاز ذلك ؛ لأنَّهُ مضافٌ يَصْلُح للجِنْسِ . فصل قال القُرْطُبِي : إنما ذَكَّرَ الله - تبارك وتعالى - عيسَى - عليه الصلاة والسلام - نِعْمَته عليه وعلى وَالِدَتِهِ ، وإن كان لَهُمَا ذاكراً لأمرين : أحدهما : ليتلو على الأمَمِ بما خَصَّصَهَا به من الكرامةِ ، ومَيَّزها به من عُلُوِّ المَنْزِلَة . والثاني : ليُؤكِّد به حُجَّتَه ، ويردّ به جَاحِدَهُ ، وفَسَّرَ نِعْمَتَهُ عليه بأمور : أوَّلُها : قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } في " إذْ " أربعةُ أوجه : أحدها : أنه منصوبٌ بـ " نِعْمَتِي " ؛ كأنه قيل : اذكُرْ إذْ أنعمْتُ عليْكَ وعلى أمِّكَ في وقت تأييدي لك . والثاني : أنه بدلٌ من " نِعْمَتِي " بدلُ اشتمال ، وكأنه في المعنى يفسِّر النعمة . والثالث : أنه حالٌ من " نِعْمَتِي " ، قاله أبو البقاء . والرابع : أن يكون مفعولاً به على السَّعَة ، قاله أبو البقاء - رحمه الله تعالى - أيضاً قال شهاب الدين : هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - ، وقرأ الجمهور " أيَّدتُّكَ " بتشديد الياء ، وغيرهم " آيدتُّكَ " وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في سورة البقرة مُشْبَعاً ، ومعنى الآية الكريمة : أي : قَوْمَك بِمَا يَجُوزُ من الأَيْدِ ، وهو القُوَّة . فصل المرادُ بِرُوحِ القُدُسِ : جبريل - عليه الصلاة والسلام - ، والقُدُس : هو اللَّهُ تعالى ، كأنَّه أضافَهُ إلى نَفْسِهِ تَعْظِيماً ، وقيل : إنَّ الأرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بالماهِيَّةِ : فمنها طَاهِرَةٌ نُورَانيَّةٌ ، ومنها خَبِيثة ظُلْمانيَّة ، ومنها : مُشْرِقَة ومنها كَدِرة ، ومنها خَيِّرَةٌ ومنها نَذِلَةٌ ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " الأرْواح جُنُودُ مُجَنَّدةٌ " ، فاللَّهُ تعالى خصَّ عيسى - عليه الصلاة والسلام - بالرُّوح الطَّاهِرة النُّورَانِيَّة المُشْرقَة العُلويَّة الخيِّرةِ ، ولقائل أن يقول : لما دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ تأييد عيسى إنَّما حَصَلَ من جِبْرِيل ، أو بسبَبِ رُوحِهِ المُخْتَصَّةِ ، وهذا يَقْدَحُ في دلالةِ المُعْجِزَات على صِدْقِ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام - ، ولم تُعْرفُ عِصْمَة الرُّسُل - عليهم السلام - قَبْلَ العِلْمِ بعصْمَةِ جبريل - عليه الصلاة والسلام - فيلزم الدَّوْر . فالجواب : قال ابن الخطيب : ثبت من أصْلِنَا أنَّ الخَالِقَ ليْسَ إلاَّ اللَّهُ ، وبه يَنْدَفِعُ السُّؤال . قوله : { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } معناه : يُكَلِّمُ النَّاس في المَهْدِ صَبِيًّا ، وكَهْلاً نبياً . قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : أرسلهُ اللَّهُ وهو ابنُ ثلاثينَ فَمَكَث في رسالته ثلاثين شَهْراً ، ثُمَّ إنَّ الله رَفَعَهُ إلَيْهِ . قال المُفَسِّرُون : يُكَلِّم النَّاسَ في المَهْد وكَهْلاً ، في مَوْضِع الحال ، والمعنى : يُكلِّمُ النَّاسَ طِفْلاً وكَهْلاً من غير أن يتفاوت كلامُهُ في هذين الوقْتَيْن ، وهذه خَاصَّةٌ شَرِيفَةٌ لم تَحْصُلْ لأحدٍ من الأنْبِيَاء ، وقد تقدَّم الكلام في [ الآية 46 ] آل عمران ، ما فائدة قوله : { فِي المهد وكَهْلاً } . قوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } قيل : الكِتَابُ ، الشَّريعةُ ، وقيل : الخَطُّ ، وأمَّا الكَلِمَةُ فقيل : هي العِلْمُ والفَهْمُ ، وذكر التَّوْراة والإنجيلَ بعد الكِتَاب على سَبيلِ التَّشْرِيف ، كقوله - تبارك وتعالى - : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ، وقوله : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، فإنَّما ذكر التَّوراة والإنجيلَ بعد ذِكْرِ الكتابِ ؛ لأنَّ الاطِّلاع على أسْرَار الكُتُبِ الإلهِيَّة لا يحصلُ إلاَّ لمن كانَ ثَابِتاً في أصْنَافِ العُلُوم الشَّرْعِيَّةِ والفِعْلِيَّة . فقوله : " التَّوْراة والإنْجِيلَ " : إشارةٌ إلى الأسْرَار التي لا يطَّلِعُ عليْهَا أحدٌ إلاَّ الأكَابِرَ من الأنْبِيَاء . قوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } . قرأ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : " فَتَنْفُخُهَا " بحذف حرف الجر اتساعاً وقرأ الجمهور : " فتكونُ " بالتاء منقوطةً فوقُ ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ ، أي : فيكونُ المنفوخُ فيه ، والضمير في " فِيهَا " قال ابن عطيَّة - رحمه الله - : " اضطربَتْ فيه أقوال المفسِّرين " ؛ قال مكيٌّ : " هو في آل عمران [ الآية 49 ] عائدٌ على الطائِرِ ، وفي المائدةِ عائدٌ على الهَيْئَة " ، قال : " وَيَصِحُّ عكْسُ هذا " ، وقال غيرُ مكيٍّ : " الضميرُ المذكُور عائدٌ على الطِّين " ، قال ابن عطية : " ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضَّمير على الطَّيْر ، ولا على الطين ، ولا على الهيئة ؛ لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطِّين على هيئته ، لا يُنْفَخُ فيه ألبتة ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصَّة به ، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطينُ العامُّ ، ولا نفخَ في ذلك " ، وقال الزمخشريُّ رحمه الله : " ولا يرجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها ؛ لأنها ليست من خَلْقِه ، ولا مِنْ نفخه في شيء ، وكذلك الضميرُ في فَتَكُون " ، ثم قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - : " والوجهُ عودُ ضميرِ المؤنَّث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً ، أي : صُوَراً ، أو أشكالاً ، أو أجْساماً ، وعودُ الضمير المذكَّر على المخلوقِ المدلولِ عليه بـ " تَخْلُقُ " ، ثم قال : ولَكَ أن تعيدَهُ على ما تَدُلُّ عليه الكافُ من معنى المثل ؛ لأنَّ المعنى : وإذ تَخْلُقُ من الطِّينِ مثل هيئته ، ولك أن تعيده على الكاف نَفْسِهَا ، فتكون اسماً في غيرِ الشِّعْر " . انتهى ، وهذا القولُ هو عينُ ما قبله ، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مثل ، وكونُها اسماً في غير الشعرِ ، لم يَقُلْ به غيرُ الأخفَشِ . واستشكل الناسُ قولَ مكيٍّ المتقدِّمَ ؛ كما قدَّمْتُ حكايته عن ابن عطية رضي الله عنه . ويمكنُ أن يُجابَ عنه بأنَّ قوله " عائدٌ على الطَّائِرِ " لا يريدُ به الطائِرَ الذي أُضيفَتْ إليه الهيئةُ ، بل الطائرُ المُصَوَّرُ ، والتقدير : وإذ تخلُقُ من الطِّينِ طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقيِّ ، فتنفخُ فيه ، فيكونُ طائراً حقيقيًّا ، وأنَّ قوله " عائدٌ على الهيئة " لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف ، بل الموصوفة بالكاف ، والتقدير : وإذ تخلُقُ من الطِّينِ هيئةً مِثْلَ هيئةِ الطَّائر ، فتنفخُ فيها ، أي : في الموصُوفَة بالكاف الَّتِي نُسِبَ خَلْقُهَا إلى عيسى - عليه السلام - وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكَّر على هيئةٍ ، وضميرٌ مؤنثٌ على الطائرِ [ لأنَّ قوله : " ويجُوزُ عكْسُ هذا " يؤدي إلى ذلك ؟ فجوابُه أنه جازَ بالتأويل ؛ لأنه تُؤوَّلُ الهيئةُ بالشكْل ، ويُؤوَّل الطائرُ ] بالهيئةِ ؛ فاستقام ، وهو موضعُ تَأمُّلٍ ، وقال هنا " بإذْنِي " أربعَ مراتٍ عَقِيبَ أربع جمل ، وفي آل عمران " بإذْنِ الله " مرتَيْن ؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ ، فناسَبَ الإيجازَ ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ ، فناسبَ الإسهابَ ؛ وقوله " بإذْنِي " حالٌ : إمَّا من الفاعلِ ، أو من المفعول . قوله : { وَتُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي } قال الخَلِيلِيُّ : من وُلِدَ أعْمَى ، ومَنْ وُلِدَ بصيراً ثُمَّ أعْمِي . قوله تعالى : { وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ } : من قُبُورِهِم أحْيَاء " بإذْنِي " ، أي : بفِعْلي ذلك عند دُعائِك ، أي : عند قولِكَ للميِّت : اخْرُجْ بإذْنِ اللَّهِ ، وذلك الإذْنُ في هذه الأفاعِيلِ ، إنَّما هُو على مَعْنَى إضافَةِ حَقيقَةِ الفِعْلِ إلى الله - تبارك وتعالى - كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] أي : إلاَّ بِخَلْقِ اللَّهِ الموْتَ فيها . قوله تعالى : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } يعني : الوَاضِحَة والمُعْجِزَات الظَّاهِرَة ، وقيل : المُرادُ بالبَيِّنات الظَّاهِرَةِ هذه البَيِّناتُ التي تقدَّم ذكرُها ، فيكون الألفُ واللاَّمُ لِلْمَعْهُود . رُوِي أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أظْهَرَ هذه المُعْجِزات العَجِيبَة ، قَصَدَ اليهُود قَتْلَه ، فخلَّصَهُ اللَّهُ تعالى مِنْهم ، حَيْثُ رفَعَهُ إلى السَّمَاء . قوله : { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } . قرأ الأخوانِ هنا وفي هودٍ [ الآية 7 ] وفي الصَّف [ الآية 6 ] " إلاَّ سَاحِرٌ " اسم فاعل ، والباقون : " إلاَّ سِحْرٌ " مصدراً في الجميع ، والرسمُ يحتمل القراءتَيْنِ ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ ، فتحتملُ أن تكون الإشارةُ إلى ما جاءَ به من البيِّنات ، أي : ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِق إلا سِحْرٌ ، ويُحْتمل أن تكون الإشارةُ إلى عيسى - عليه الصلاة والسلام - جَعَلُوه نفس السحْر مبالغةً ؛ نحو : " رَجُلٌ عَدْلٌ " ، أو على حذفِ مضافٍ ، أي : إلاَّ ذُو سِحْرٍ ، وخَصَّ مكي - رحمه الله تعالى - هذا الوجه بكون المرادِ بالمشار إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : " ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ ، أي : إنْ هذا إلاَّ ذُو سِحْرٍ " . قال شهاب الدين : وهذا غَيْرُ جائزٍ ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام ، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لَمْ يكن في زَمَنِ عيسى - عليه الصلاة والسلام - والحواريِّين ؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيدٍ ؟ وأمَّا قراءةُ الأخوَيْن ، فتحتمل أن يكون " سَاحِرٌ " اسم فاعلٍ ، والمشارُ إليه " عيسى " ، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به المصدرَ ؛ كقولهم : عَائِذاً بِكَ وعَائِذاً بالله مِنْ شَرِّهَا ، والمشارُ إليه ما جاء به عيسَى من البيِّنات والإنجيلِ ، ذكر ذلك مَكي ، وتبعَهُ أبو البقاء ، إلا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك ؛ فقال - بعد أنْ حَكَى القراءتَيْنِ - : وكلاهُمَا حَسَنٌ ؛ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَهُ قد تقدَّم ، غير أنَّ الاختيار " سِحْر " ؛ لجوازِ وقوعه على الحَدَثِ والشَّخْص ، أمَّا وقُوعه على الحدث ، فسهلٌ كثير ، ووقُوعه على الشخْصِ يريدُ ذُو سحْرٍ ؛ كقوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] ، وقالوا : " إنما أنت سيرٌ " و " ما أنت إلا سيرٌ " ، و [ البسيط ] @ 2085 - … فَإنَّما هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ @@ قلتُ : وهذا يرجِّحُ ما قدَّمْتُه من أنه أطْلَقَ المصْدر على الشخص ؛ مبالغةً ؛ نحو : " رَجُلٌ عَدْلٌ " ، ثم قال : " ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بساحرٍ السِّحْرُ ، وقد جاء فاعل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير ، نحو : " عَائِذاً بالله من شَرِّهِ " ، أي : عِيَاذاً ، ونحو " العافية " ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيثُ يسوغُ القياس عليها " . وإن قيل : إنَّهُ - تعالى - عدَّدَ هُنَا نِعمَ اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام - ، وقولُ الكُفَّار في حقه { إن هذا إلاَّ سِحْرٌ مبينٌ } ، ليس من النِّعَمِ ، فكيف ذكره هنا ؟ . فالجوابُ إنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ، فَطَعْن الكُفَّار في عيسى - عليه السلام - بهذا الكلام ، يَدُلُّ على أنّ نِعْمَةِ الله كانت في حقِّه عَظِيمَة ، فَحَسُنَ ذِكْرُه عند تعديد النِّعم من هذا الوجه .